النهار

البروفيسور سامي ريشا يتحدث لـ"النهار" عن 12 حالة سريريّة شكّلت تحدّياً في الآداب الطبيّة
ليلي جرجس
المصدر: "النهار"
البروفيسور سامي ريشا يتحدث لـ"النهار" عن 12 حالة سريريّة شكّلت تحدّياً في الآداب الطبيّة
الواقع النفسيّ في لبنان (غرافيك ديما قصاص)
A+   A-
 في مستشفى "أوتيل ديو" في الأشرفية قصصٌ كثيرة بقيت محفوظة بين الجدران، وجوه كثيرة قصدت العيادة النفسية، بعضها تعافى والبعض الآخر يعيش صراعه الداخلي وسط وصمة العار ونظرات المجتمع التي تُشكّل حاجزاً في تقدّم الحالات أو حتى طلب المساعدة.
 
داخل القسم النفسي الطبي في مستشفى "أوتيل ديو"، 12 حالة سريرية جاءت إلى المستشفى للاستشفاء أو للمعاينة دفعت بالبروفيسور سامي ريشا الطبيب النفسي والعضو في الجمعية الوطنية الفرنسية للطبّ النفسي إلى الغوص في عالمها النفسي، متسلّحاً بأخلاقيات المهنة وباحثاً عن أجوبة أخلاقية وطبية على حدّ سواء.
 
هو أمام حرب غير منظورة، إذ يحمل المرض النفسي تحدّيات خاصّة به في مجتمع ما زال ينظر إلى المرضى النفسيين بدونية أو بازدراء أو بتهميش ويصفهم تصنيفات مؤذية.
 
لماذا هذه الحالات تحديداً؟ سؤال يطرح نفسه، خصوصاً أن البروفيسور ريشا يعالج عشرات الحالات يومياً، ليأتي الجواب "هذه الحالات شكّلت تحدياً في الآداب الطبية". يرى ريشا في حديثه لـ"النهار"، أن "المسألة لا تتعلّق بالتشخيص والعلاج وإنّما بأخلاقيات المهنة وطريقة التعامل مع المريض التي تؤثر بشكل كبير على تحسّن حالته".
 
اكتئاب، انفصام شخصية، توحّد، إدمان على المخدرات، تغيير الجنس، الصدمة... شكّلت الحالات 12 تحدّياً لما تحمله من إشكالية التعاطي معها من دون تخطّي أخلاقيات المهنة، وفي ظروف تضمن الحفاظ على حياة المريض ولا تهدّده. وهنا تبدأ القصة، حين قرّر ريشا إصدار كتاب يحمل عنوان (12 cas cliniques en Ethique psychiatrique) "12 حالة سريرية في أخلاقيات الطبّ النفسي" لتكون دليلاً ومرجعاً في كيفيّة الموازاة بين المعالجة النفسية وأخلاقيات المهنة لما يضمن مصلحة المريض وحياته".
 
نغوص أكثر في بعض التفاصيل التي تكشف لنا حقيقة اختيار هذه الحالات والتحديات التي رافقت البروفيسور ريشا خلال معالجته للحالة أو معاينته لها. ويقول أنّ "ألدراسات أثبتت أنّ التعاطي الأخلاقي مع الأشخاص الذين يعانون من حالة نفسية أو مرض نفسي يُحسّن حالاتهم".
 
 
 
ننطلق من الحالة الأولى: "انفصام الشخصية" لمريض يبلغ من العمر 42 عاماً، وهو يرفض العلاج. يتمثّل التحدّي الأساسي في احترام حرية المريض وقراره شرط ألّا يكون خياره تهديداً لحياته.
 
ويشرح ريشا أنّه في هذه الحالة كانت حياة المريض مهدّدة نتيجة الالتهابات القوية التي كان يعاني منها، ورفضه تلقّي العلاج النفسي والطبي.
وأمام هذه المعضلة، تقدّم ريشا بطلب الحصول على استشارة من لجنة الآداب الطبية في مستشفى "أوتيل ديو" في مسألة معالجة المريض بالقوّة لتفادي الخطر الذي يهدّده.
 
يقول إنّ التحدي الأخلاقي يتمثل في معرفة إلى أيّ مدى يمكن احترام حرية المريض وقراره، وهل يمكن إعطاء العلاج للمريض بالقوّة خوفاً على حياته. من المهم أن نعرف أنّ المريض غير مدرك لحالته وهو غير واعٍ، ولذلك يتطلّب تدخلاً طبياً ينقذ حياته. ومع الأسف، بعد خروج المريض من المستشفى، توقّف عن العلاج ما أدّى إلى وفاته. وهنا تكمن أهمية أن نعرف خطورة المرض النفسيّ، وتجاهل العلاج، ونظرة المجتمع التي تلعب دوراً سلبياً في هذا الموضوع.
 
أمّا التحدّي الثاني فيتمثّل بمدى الدرجة التي يمكن فيها معالجة أشخاص لا يوجد تصنيف طبيّ لهم. وفي هذه النقطة يتحدّث ريشا عن المثلية الجنسية التي لا تُعتبر مرضاً نفسياً، ولكن على الشخص أن يعيش مع حالته التي يرفضها المجتمع وكيف له ألّا يتأثّر بالمجتمع والمحيط به.
 
وعند الحديث عن المجتمع، يشدّد ريشا على أهمية معرفة ثقافة المجتمع وطريقة تفكيره ومعتقداته، ويستعين بحالة من العراق لفتاة أزيدية عاشت صدمة نفسية وبحاجة إلى المساعدة للخروج منها. يقول إنّه "من المهمّ أن نكون على دراية بالصعوبات والعوائق التي يمكن أن نواجهها كأطباء ومعالجين نفسيين عندما نحاول مساعدة أشخاص من دول أخرى. هناك تحديات عديدة قد نلمسها حقيقة أبرزها فهم ثقافة البلد والوثوق بالمترجمين، والحفاظ على السرية المهنية والطبية معهم، ومعرفة المعايير المتعلقة بالصحة النفسية في تلك الدولة".
 
أمّا الحالة الرابعة التي سعى إلى أن تكون موجودة في كتابه، فتُلخّص حالة اكتئاب لامرأة حامل كانت تريد الإجهاض نتيجة الاكتئاب الشديد الذي تعانيه. ولكن مع العلاج تخطّت تلك المرحلة وأنجبت توأماً، وتعيش اليوم حالة نفسية جيدة.
 
 
ويتوقّف ريشا عند الاكتئاب قليلاً، ويشير إلى أنّه المرض النفسي الأول ضمن الأمراض النفسية ونسبته 17 في المئة، والشخص قد يمرّ بحالة اكتئاب مرة واحدة على الأقل في حياته. ويعتبر الاكتئاب حالة نفسية تستدعي المتابعة لأنّها قد تؤدّي إلى الانتحار والموت.
 
ومن بعد الاكتئاب، يحتلّ الإدمان المرتبة الثانية حيث زادت بنسبة واضحة لأسباب عديدة منها السياسية والاقتصادية والحروب والصراعات. إذ نشهد زيادة لافتة في ظاهرة الإدمان خلال الحروب والنزاعات. في حين تأتي أمراض القلق وعلى رأسها نوبات الهلع والصدمات والوسواس.
 
ويؤكّد ريشا تسجيل ارتفاع أو زيادة في هذه الحالات أكثر فأكثر نتيجة الأزمات المختلفة التي مرّ بها لبنان. من المهمّ أن نعرف أنّه لا يمكن فصل الأمراض النفسية عن باقي الأمراض، إذ يصاب 1 على 4 أشخاص بمرض نفسي يحتاج إلى متابعة، وتُعتبر هذه النسبة كبيرة وتتطلّب جهوداً مشتركة لزيادة الوعي حولها ومحاربة وصمة العار التي تمنع الشخص من زيارة الطبيب النفسي والعلاج. من الضرورة العمل على تغيير الصورة المجتمعية الخاطئة عن المرض النفسيّ، وأن يدرك الناس أهمية الموضوع ومدى خطورته في حال إهماله أو عدم متابعة العلاج النفسي والطبي.


اقرأ في النهار Premium