النهار

شبح "اضطراب ما بعد الصدمة" النفسي في المشهد الأميركي
المصدر: "النهار"
بعد مرور أكثر من 48 ساعة على محاولة اغتبال الرئيس السابق دونالد ترامب، بدأت هذه الحادثة تتطور إلى صدمة وطنية جديدة لها تفاعلاتها على الأصعدة السياسية والثقافية والفكرية وغيرها. لكن، ماذا عن البُعد النفسي لهذا الحادث؟ هل هنالك خطر ما يتهدد حياة من عاشوا هذا الحدث مباشرة في التجمع الانتخابي، حيث دوى الرصاص فجأة وسقط مصابون، ولربما أحس كل شحص هناك بأنه مهدد؟ أنها سياقات تستحضر الاضطراب النفسي المعروف باسم "اضطراب ما بعد الصدمة" أو "بي تي أس دي" PTSD ، اختصاراً لعبارة Post Traumatic Stress Disorder.
شبح "اضطراب ما بعد الصدمة" النفسي في المشهد الأميركي
صورة تعبيرية مصممة بالذكاء الاصطناعي.
A+   A-

بعد مرور أكثر من 48 ساعة على محاولة اغتبال الرئيس السابق دونالد ترامب، بدأت هذه الحادثة تتطور إلى صدمة وطنية جديدة لها تفاعلاتها على الأصعدة السياسية والثقافية والفكرية وغيرها. لكن، ماذا عن البُعد النفسي لهذا الحادث؟ هل هنالك خطر ما يتهدد حياة من عاشوا هذا الحدث مباشرة في التجمع الانتخابي، حيث دوى الرصاص فجأة وسقط مصابون، ولربما أحسّ كلّ شحص هناك بأنه مهدّد؟ إنها سياقات تستحضر الاضطراب النفسي المعروف باسم "اضطراب ما بعد الصدمة" أو "بي تي أس دي" PTSD ، اختصاراً لعبارة Post Traumatic Stress Disorder.

 
فصل "الفوضى والجنون" ويليه المعاناة النفسية
   

أعادت محاول اغتيال الرئيس ترامب خلال تجمّع انتخابي في بنسلفانيا مشهد الخوف والصدمة الجماعية. شهود عيان وصفوا تلك اللحظات "بالفوضى والجنون". في البداية، اعتقد كثيرون أنها ألعاب نارية، ثم سرعان ما علا الصراخ والرعب. بدا وكأن كلّ شيء يمرّ سريعاً، وجملة واحدة تصدح عالياً "الجميع على الأرض".

بعد هذه الحادثة، خرج عدد من الأطباء للتحذير من تداعيات محاولة الاغتيال بإحداث صدمة محليّة ووطنيّة. وكشف جراح الحوادث الدكتور إل جي بانش خلال برنامج On Your Side 5 عن أن الأشخاص الذين تعرضوا للإصابة الجسدية لن يكونوا الوحيدين الذين سيعانون من الندوب". تتضمن كلماته إشارة واضحة إلى المعاناة النفسية التي تترافق مع هذا النوع من الحوادث.

واستطرد بانش ليقدّم نصائح عن البُعد النفسي، مستهلاً بنصيحة أوليّة عن عدم إثارة موضوع محاولة الاغتيال بصورة عشوائيّة، إذ "ينبغي على الناس تفادي استخدام الحديث عن العنف الذي حصل يوم السبت لإثارة التوترات، بل يجب أن يستغلّوها كفرصة للتواصل مع بعضهم البعض، لأنها قد تحرّك صدمة نفسيّة سابقة لدى شخص تأثر بعنف السلاح".

 

الصدمة غير المعالجة

 
دعونا نركّز على ما عاشه الأشخاص الذين كانوا حاضرين في تلك الساحة في بنسلفانيا، وقد اختبروا الخوف والقلق ولحظات الخطر حينما أطلقت تلك الرصاصات باتجاه الرئيس ترامب. نعرف جيّداً أنّ الصدمة النفسيّة الأولى تُصيب الجميع، وحالة الضياع يتخبط بها الشخص للوهلة الأولى في محاولة منه لتحليل ما جرى، فيكون الحسّ الوجودي هو الطاغي الأول على انفعالات الشخص. لكن، ماذا بعد العودة إلى المنزل؟ هل يتأقلم الجميع مع تلك الحادثة وينجو من تداعياتها بشكل طبيعيّ؟ متى تظهر أعراض "اضطراب ما بعد الصدمة"؟ من هم المعرّضون للإصابة بها مع ما تحمله من أحوال القلق والخوف؟ ومتى تستدعي الأعراض النفسية استشارة نفسيّة وعلاجاً ضرورياً؟
 

قد ينسى الجسد بعد فترة آلامه الجسديّة ويخرج منها متجدّداً، لكن الألم النفسيّ يبقى مدفوناً في داخلك،ثم يصحو عند أيّ صدمة أو حدث قويّ، خصوصاً إذا هربت من وقع هذه الصدمة من دون التعامل بصراحة معها، وتبادلت الحديث بشأنها تفادياً لمعاناة تأثيراتها السلبيّة؟ 

في "اضطراب ما بعد الصدمة" لا نركّز فقط على الأعراض، بل يجب التركيز على مدى قدرة الشخص على التأقلم، وعلى أن يقلب صفحة جديدة ويستكمل حياته، بالرغم من كل شيء. لا يتفاعل الجميع بالطريقة نفسها، وأيّ حالة قلق أو أرق أو اضطرابات نفسيّة غير معالجة أو مُشخّصة يمكن أن تكون عاملاً في تطوير حالة اضطراب ما بعد الصدمة.
 
في حديث سابق، أكد الجراح العام فيفيك ميرثي أن عنف السلاح قد خلق جواً من الصدمة والخوف الذي يلحق الضرر بالصحة العقلية للأميركيين، والذي جعل الأطفال يخافون من الذهاب إلى المدرسة والبالغين يخافون من الذهاب إلى الأماكن العامة.
 

 

 

 

استخدام المصطلح لأول مرة

يُعرف "اضطراب ما بعد الصدمة" أو الـPTSD بأنه حالة نفسية ناجمة عن أحداث مؤلمة أو مفاجئة تؤثر على حياة الشخص اليومية.

واستُخدِم هذا المصطلح لأول مرة عام 1980 في الطبعة الثالثة من "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية". جاء ذلك بعد معاناة الجنود الأميركيين من عوارض نفسيّة نتيجة حرب فيتنام. لقد شكّلت حرب فيتنام انعطافة مهمّة في الطب النفسي من خلال ظهور دراسات عدّة تتحدّث عن أعراضٍ لصدمات نفسية تأخّر ظهورها عشرات السنين عن زمن وقوع الحوادث،

 
 

كذلك أدرجت "منظمة الصحة العالمية"، في العام 2019، "اضطراب ما بعد الصدمة" على لائحة الأمراض العقليّة، ضمن المراجعة الحادية عشرة للتصنيف الدولي للأمراض الصادر عنها.

وتقول المنظمة إن هذا الاضطراب "قد يتطور بعد التعرض لحدث أو سلسلة من الأحداث ذات طبيعة تهديدية أو مروّعة للغاية، خصوصاً الأحداث التي تستمر فترة طويلة أو تتكرر والتي يكون الهروب منها صعباً أو مستحيلاً".

إن التعرض لموقف مشابه للصدمة الأصلية قد يُحفّز الذكرى الأليمة، ويُعيد تلك المشاعر التي يحاول الشخص التعايش معها.

قد تتضمّن الأعراض استرجاع الحادث الصادم أو تجنّب الحديث عنه، والكوابيس والقلق الشديد، المشاعر السلبية، الامتناع عن أيّ نشاط، الغضب والانفعال، الذنب، العزلة، صعوبة في التركيز على العمل والأرق وغير ذلك.

هذه الأعراض تكون متوقّعة وطبيعيّة ضمن حدود ومهلة معيّنة. أما في حال استمرت هذه الأعراض لفترة زمنية أطول أو أصبحت تُسبّب مشاكل وعراقيل في حياة الشخص المهنية أو الشخصية أو الدراسية، فعندها نُطلق عليها اسم اضطراب. وبالتالي، يمكن الحديث عن العلاج النفسي.

علاج اضطراب ما بعد الصدمة يرتكز على العلاج النفسيّ بوساطة الكلام أو الدواء.

 
من هم الأشخاص الأكثر عرضة لاضطراب ما بعد الصدمة؟

يزداد احتمال الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة لدى بعض الأشخاص مقارنة بغيرهم، وتؤدي بعض العوامل دوراً في زيادة خطر التعرض للصدمة النفسية أهمها:
* التعرض لصدمات نفسية متكرّرة مثل العيش في مناطق حروب ونزاعات
* التعرض لصدمات نفسية خلال مرحلة الطفولة
* عدم متابعة الشخص بشكل كاف بعد تعرضه لصدمة قوية
* معاناة الشخص من اضطرابات نفسية أخرى مثل القلق أو الاكتئاب
* التعرض لحدث صادم ومؤلم بعد الصدمة مثل فقدان أحد الأشخاص أو المرض.

هل يمكن الوقاية من اضطراب ما بعد الصدمة؟
 
 لا نتحدّث كثيراً عن أهمية توفّر عناصر أساسيّة تساعد في الوقاية من اضطراب ما بعد الصدمة. لكن من المهمّ جدّاً تسليط الضوء عليها، باعتبارها تساعد في تخفيف وطأة الصدمة النفسية على الشخص وتحول دون تطوّر حالته.
كيف؟
يساعد الدعم النفسي وتلقّي العلاج ومتابعة الشخص الذي تعرّض لصدمة نفسية قوية (انفجار- اغتيال – أحداث امنية – موت) ودعم العائلة والأصدقاء في تأمين بيئة حاضنة ومتفهّمة في الوقاية من تطوّر الحالة إلى اضطراب ما بعد الصدمة.

يعتبر الحديث عن كل ما يشعر به الشخص أساساً في إخراج مشاعر القلق والخوف والأفكار السلبيّة وتحويلها إلى كلمات، فالشخص يفرغ ما في داخله من ضغوط ويُجسّدها بكلمات حسيّة تساعده على التعايش مع هذه المشاعر حتى يتمكّن من تخطّيها.

 

 

الصدمة التي لا نعالجها نكرّرها

 

هذا ليس كل شيء، إذ تظهر دراسة تلو الأخرى أن العديد من أولئك الذين يستهلكون وسائل الإعلام حول الأحداث المؤلمة سوف يصابون بأعراض مشابهة لاضطراب ما بعد الصدمة. قد يكون الالتصاق بالشاشة أسوأ من التواجد هناك فعليًا.

اليوم، أعادت محاولة اغتيال ترامب إشكالية مهمة تتمثل بالتعامل مع الصدمات الجماعية غير المعالجة.

 

من الصدمة النفسية للأفراد إلى "الصدمة" السياسية، في لغة المجاز، وصف عدد من الخبراء والعلماء معاناة أميركا من صدمة نفسية تشمل الأمة بأكملها. تتمحور الصدمة النفسية "الأساسية" التي تعاني منها أميركا حول الصراع الوجوديّ بشأن "الانتماء والهوية" الأميركيّة.

لقد عاشت أميركا كابوس الاغتيالات السياسية مرات عديدة. قد لا يتذكّر الجيل الجديد وقع هذه المحطات التاريخية في نفوس الجيل القديم، لكن الذين عاشوها يتذكّرةن جيّداً ما خلّفته هذه الأحداث الدموية في تاريخ البلاد من اغتيال الرئيس جون إف كيندي، وجيمس غارفيلد، ومارتن لوثر كينغ، بالإضافة إلى محاولة اغتيال الرئيس رونالد ريغان، واليوم الرئيس دونالد ترامب.

في كتابه " Science of a Happy Brain" يتناول الدكتور جاي كومار كيفية تأثير الصدمات الفرديّة على صحّتنا الجماعية ورفاهيّتنا، في حين يتناول في كتابه العتيد، بعنوان "الحالة الذهنية في أميركا"، التأثير الذي يحدث عندما تتعرض دولة بأكملها، ولو كانت الديمقراطية الأميركية نفسها، لصدمة جماعية ومعقّدة.

برأيه أنه "بغض النظر عن الشكل الذي تُعبر فيه الصدمة عن نفسها، إذا تُركت دون معالجة، فإنها تملك القدرة على أن تُثار وتُعاد تجربتها عندما ندرك وجود تهديد محتمل لبقائنا".

في مقلب آخر، يوضح كبير المسؤولين الطبيين في Valleywise Health، الدكتور مايكل وايت، أن "البروتوكول لتقييم المرضى المصابين بالصدمة هو دائماً نفسه. وعلى الرغم من أن الرئيس ترامب تعرّض لجرح طفيف في أذنه، فإن الطاقم الطبيّ سيفحصه بشكل كامل".

قد لا يتحدّث كثيرون عن الصدمة التي قد يتعايش معها الأشخاص الذين كانوا حاضرين نهار السبت في بنسلفانيا، لكننا سنستعيد طرح سؤال الدكتور جاي كومار، الذي ألقاه في وقت سابق، وهو "كيف نعالج اضطراب ما بعد الصدمة في أميركا؟".

يشدّد على أهمية التركيز "على ما يوحّدنا، لا ما يفرّقنا. نوجّه طاقتنا نحو تعزيز الشفاء، لا الكراهية. نتعلّم قبول اختلافاتنا واحتضان تنوّعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي والعرقي والديني".

ولا يمكن التخلّص من هذا الثقل إلا من خلال الشجاعة في علاج الصدمات الجماعيّة والشفاء من الصدمات الوطنية المتتالية.

 

اقرأ في النهار Premium