النهار

في لبنان... تضخّم أسعار الدواء يغذّي خلايا السرطان
ليلي جرجس
المصدر: "النهار"
في لبنان... تضخّم أسعار الدواء يغذّي خلايا السرطان
مرض السرطان (تعبيرية).
A+   A-
كانت كاتيا رومية (50 عاماً) تحارب سرطان الثدي بكلّ ما أوتيت من قوة، وكانت عازمة على الانتصار، قبل أن تجد نفسها أمام عائق أكبر يمنعها من مواصلة معركتها. يروي زوجها إيلي لـ"النهار" قصتها التي انتهت بخاتمة حزينة، يقول: "حاربت سنتين، وكان وضعها جيداً، هي التي شُخّصت بسرطان الثدي في العام 2019، أي مع بداية الأزمة الاقتصادية التي بدأت تلوح في البلد آنذاك".
 
كانت أسعار الأدوية ما زالت مقبولة جداً مقارنة بما أصبحت عليه اليوم، ومن 50 ألف ليرة لبنانية، أي 33 دولاراً (قبل انهيار العملة اللبنانية)، هي تكلفة دواء Ibrance (يستخدم لعلاج سرطان الثدي الهرموني الإيجابي المتقدم أو المنتشر في الجسم)، إلى 1400 دولار أميركي حالياً (يؤتى به من تركيا) أي ما يُوازي 125 مليون ليرة لبنانية. يؤكّد إيلي أن "المشكلة الأساسية بدأت عند انقطاع الدواء بشكل كامل في لبنان. كانت كاتيا تتعالج على نفقة وزارة الصحة من دون أن تجد دواءها في الأسواق. 3 أشهر لم تتمكّن في خلالها من تأمينه لأنّه مفقود، فكان الحلّ بتأمينه من الخارج، وتحديداً من تركيا".
 
أصبحت تكلفة الدواء 1400 دولار. لكن القدرة على تأمينه كلّ شهر كانت مهمّة صعبة، خصوصاً أنّ الزوج يعمل في قيادة الشاحنات، ووضع العائلة الماديّ "على قدّنا"، حسب ما يروي إيلي. تراجعت حالة كاتيا بصورة دراماتيكيّة وسريعة، وانتشر السرطان أكثر وتوفيت!
 
تراجع حالتها فالوفاة
 
كانت مسألة تأمين الدواء مهمة معقّدة، ومُرهقة، خلال اشتداد الأزمة. يشير إيلي إلى أنه "اضطر إلى دفع المال "كبرطيل" في مركز الكارنتينا للحصول على الدواء مرّتين، إلا أنّه لم يتمكّن من الاستمرار في ذلك. تمثّل البديل باللجوء إلى تركيا لتأمينه، بالرغم من أن تكلفة الدواء حالت دون الحصول عليه بصورة مستمرّة".
 
توفيت كاتيا منذ سنة و4 أشهر. وقد يكون انقطاع الدواء لفترةٍ سبباً مهماً في تراجع حالتها، وفق زوجها، الذي يشدّد على أن "الطبيب أكّد أن حالتها تراجعت نتيجة انقطاعها عن العلاج المتواصل، ثم انتشار السرطان أكثر في الجسم، ممّا أدّى إلى مضاعفات صحيّة، ثم الوفاة".
قصة كاتيا واحدة من قصص آلاف المرضى في لبنان، الذين وجدوا أنفسهم يعانون أمام موت أحبائهم، نتيجة تعذّر تأمين الأموال الكافية لمتابعة العلاج واستكماله.
 
لسان حال الجميع أن الأزمة الاقتصادية عرّت مختلف القطاعات، ومن بينها القطاع الصحي، الذي جعل لبنان يتهاوى تدريجياً، بعد أن كان معروفاً بأنّه "مستشفى الشرق".
 
 
 
 
لا أرقام موثّقة
بالرّغم من صرخة أطباء السرطان والجهات المعنيّة حول الوضع الكارثيّ لمرضى السرطان في لبنان، وانقطاع الأدوية أو عدم توافرها بشكل دائم، أو رواج تجارة "الشنطة" والأدوية المزوّرة والمهرّبة، فإنّ لا أرقام موثقة موجودة عند وزارة الصحة أو الجهات المعنيّة أو حتى الجامعات الطبيّة حول مدى تأثير الأزمة الاقتصادية على مرضى السرطان ونسبة وفيات الأشخاص، الذين حُرموا من العلاج أو انقطعوا عن العلاج لفترات، بسبب التكلفة، أو التشخيص المتأخّر، الذي أدّى إلى تفاقم الحالات السرطانيّة في لبنان.
 
ندور في حلقة مفرغة، فتتشابك المشكلة، وتتعدّد الجهات المعنية، وتزداد صعوبة المعالجة، ابتداءً من غياب التمويل وتخفيض الإنفاق، مروراً بأزمة انقطاع الأدوية وتخزينها وتهريبها، وصولاً إلى الأدوية المزوّرة، لننتهي بانقطاع بعض مرضى السرطان عن علاجاتهم وأدويتهم، نتيجة تعذّر دفع التكاليف والتشخيص المتأخّر لحالاتهم الصحيّة… وهنا الكارثة!
 

 
من بين أسوأ الأزمات
قد يكون وصف البنك الدولي للأزمة الاقتصادية في لبنان هو الأقرب إلى الواقع باعتبارها "واحدةً من أسوأ عشر أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقدّم تقرير المرصد الاقتصادي للبنان ربيع 2023 بعنوان "التطبيع مع الأزمة ليس طريقاً للاستقرار" عرضاً لأحدث التطورات والمستجدّات الاقتصادية الأخيرة.
 
وفق التقرير، استمرّ تدهور الليرة اللبنانية بشدّة على الرغم من تدخّلات مصرف لبنان لمحاولة تثبيت سعر الصرف في السوق الموازية. وقد خسرت العملة أكثر من 98 في المئة من قيمتها قبل الأزمة بحلول شباط 2023، ثم تسارع انهيارها في الآونة الأخيرة. كذلك بلغ معدّل التضخّم 171.2 في المئة في عام 2022، وهو من أعلى المعدّلات على مستوى العالم.
 
كذلك كشفت دراسة أعدّتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) عن تفاقم الفقر في لبنان "إلى حدّ هائل" في غضون عام واحد فقط، وسجّلت أن "33 في المئة من الأسر في لبنان أصبحت محرومة من الرعاية الصحية، كما ارتفعت نسبة الأسر غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف".
 
اليومَ، تلوح الأزمة الكبرى التي تتمثل برفع الدعم الكليّ عن الأدوية السرطانية والمستعصية. وكان نقيب مستوردي الأدوية في لبنان جوزيف غريّب قد أبدى تخوّفه ممّا ستؤول إليه الأمور قبل أن يقرر مجلس الوزراء الاستمرار في دعم أدوية الأمراض المستعصية من خلال إقرار مبلغ ثلاثين مليون دولار إضافة إلى ألف وخمسمئة مليار ليرة لهذه الغاية. علماً أن المبلغ الذي أقرّته الحكومة لتأمين الدعم للأدوية المستعصية قد يكفي لفترة 3 أشهر. ولكن ماذا بعد انتهاء فترة الـ3 أشهر؟
 

 
مقاربة أسعار
في مقاربة سريعة لاختلاف أسعار بعض الأدوية السرطانيّة، التي رُفع عنها الدعم، يبدو واضحاً الارتفاع الصادم في تكلفتها، بما يُفسر عجز بعض المرضى عن تحمّل أعباء هذه الفاتورة الدوائيّة، خصوصاً في ظلّ عدم تعديل أسعار الجهات الضامنة لتتلاءم مع المرحلة اليوم.
 
دواء Docetaxel 80 (يستخدم الدواء لبعض أنواع السرطانات مثل سرطان الثدي والرئة والمعدة والرأس، وحين يكون المرض منتشراً، وفي الحالات السرطانية المتقدّمة): كان سعره قبل الأزمة 270 دولاراً أميركياً وفق الـ1500 ليرة لبنانية، أي ما يعادل 400 ألف ليرة لبنانية.
اليوم بعد الأزمة: سعره بات 218 دولاراً أميركياً، أي ما يعادل 19 مليون ليرة لبنانية. وتجدر الإشارة إلى أن سعر الدواء انخفض بالدولار، لكنه ارتفع بشكل جنونيّ بالعملة اللبنانية (نتيجة انهيار العملة اللبنانية بشكل كبير).
 
دواء Carboplatine (يعدّ نوعاً من العلاج الكيميائيّ، ويعمل على إبطاء نمو الخلايا أو إيقافه): كان سعره 30 ألف ليرة قبل الأزمة، أي 20 دولاراً، واليوم أصبح سعره 21.3 دولاراً أميركياً، أي ما يعادل مليوناً و900 ألف ليرة لبنانية (مؤشر سعر الصرف 91 ألف ليرة).
دواء Etoposide (يُعدّ نوعاً من العلاجات الكيميائية، ويعمل على إبطاء نمو الخلايا أو إيقافه) كان سعره 24 ألف ليرة لبنانية قبل الأزمة، واليوم أصبح سعره مليوناً و400 ألف ليرة لبنانية.
 
من دعم السلعة إلى دعم المريض
 
يتحدّث نقيب مستوردي الأدوية جوزيف غريّب عن هذا التأخير بتلخيص المشكلة إلى نقطتين أساسيتين: التأخير في الحصول على الموافقات، وعدم الوصول إلى آخر مراحل الدعم. فالأولى تؤدّي إلى التأخير في استيراد الشحنات، وفي انقطاع بعض الأدوية، فيما الثانية تطلّبت المناشدة لنقل الدّعم من السلعة إلى المريض. وبعد وضع وزارة الصحة نظام تتبع للأدوية يُفنّدُ ملفَّ كلّ مريض وحاجته الدوائيّة، وصلنا إلى أن الدعم بشكله الحالي غير قادر على تلبية الاحتياجات الصحيّة، ونتّجه إلى مرحلة الرّفع الكليّ عن الأدوية السرطانيّة والمستعصية.
 
انخفاض دراماتيكي للميزانية
يعود مدير العناية الطبية في وزارة الصّحة العامّة الدكتور جوزيف الحلو إلى الميزانية التي كانت مرصودة لوزارة الصحة قبل ثلاث سنوات، والعائدة إلى بند الاستشفاء، من دون دواء، وكانت تبلغ 330 مليون دولار سنوياً، أي ما يعادل 480 مليار ليرة؛ أما اليوم فهي لا تتخطى الـ20 مليون دولار.
 
أما بالنسبة إلى الدواء، فكانت الميزانية نحو 135 مليون دولار شهرياً، بينما أصبحت اليوم 25 مليون دولار.
 
يعمل كلٌّ من وزير الصحة ورئيس لجنة الصحة النيابية بدورهما في إدارة الأزمة، إلا أنّ الحلّ المستدام - وفق غريب - بيد الحكومة من خلال إعداد خطّة لنقل الدّعم من السّلعة إلى المريض حتى يتوافر الدواء بشكل دائم ومتواصل، والبحث مع الجهات الضامنة لتغطية المرضى.
 
تعود المشكلة المالية إلى الواجهة عند الحديث عن ملف مرضى السرطان، بحسب تصريح سابق لوزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس الأبيض. فقبل الأزمة الاقتصادية عام 2019، كان الإنفاق الحكوميّ على قطاع الصحة العامة يُقارب الـ6238 مليار ليرة، نحو 4.13 مليارات دولار. وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على بدء الأزمة، انخفض الإنفاق الحكوميّ على الصحّة العامة بنسبة تتجاوز الـ40 في المئة. وبالتالي، بات من شبه المستحيل على اللبنانيين الحصول على حقهم بالطبابة.
 
ليس سبباً وانما عامل أساسيّ
 
تُشاركنا "كارولين ملاك" تجربة عائلتها مع السرطان بالقول "نعاني جميعاً كأفراد عائلةٍ واحدةٍ من السرطان. لقد كُتب لي ولشقيقتي الشفاء من سرطان الثدي والمبيض قبل الأزمة الاقتصادية، في حين شُخصت والدتي بسرطان الثدي خلال فترة جائحة كورونا وبداية الأزمة الاقتصادية. لم تكن خيارات العلاجات عديدة نسبة إلى عمرها المتقدّم، ومع ذلك كان يُمكن إطالة عمرها لو وُجد الدواء المطلوب".
 
تُشير كارولين إلى أن "الخيار الأفضل كان خضوعها للعلاج الموجّه، إلا أن الدواء الذي وصفه الطبيب كان مفقوداً في لبنان. أعرف أنه قد لا يكون سبباً مباشراً لوفاتها إلا أنه يُمثّل عاملاً أساسيّاً من عوامل تدهور صحّتها".
 
يوضح نقيب الصيادلة في لبنان جو سلوم بأن "الدّعم كان متحققاً لصالح كلّ الأدوية السرطانيّة مع بداية الأزمة الاقتصادية، إلا أنّ عدداً كبيراً من هذه الأدوية كان يُهرّب إلى الخارج، ويستفيد منه أشخاص معيّنون متواطئون مع جهات أخرى، ولم يتمّ توقيف أيّ متّهم، ولم يقفل أيّ ملف تهريب حتى اليوم".

الفاتورة الدوائية قبل وبعد الأزمة
 
بعد أن كان الدعم متحقّقاً بنسبة 100 في المئة، بلغت الفاتورة الدوائية السنوية في العام 2019 - وفق سلوم - ملياراً و400 مليون دولار على سعر 1500 ليرة لبنانية، في حين انخفض الدّعم في العام 2021 ليقتصر على أدوية الأمراض المستعصية، ومن ضمنها السرطانيّة. أما في بداية العام 2023، فأصبح المبلغ المرصود للأدوية 35 مليون دولار شهرياً، ويُعطى الدعم من حقوق السحب الخاصة. ويُقسّم المبلغ ما بين 25 مليون دولار للأدوية السرطانية والمستعصية، و10 ملايين دولار للمستلزمات الطبيّة.
 
وعليه، يعود النقص الحاصل في أدوية السرطان إلى نقص الأموال المرصودة للاستيراد، والتي لم تعد تكفي الحاجة الفعليّة، ناهيك بالتهريب الذي نشط كثيراً خلال فترة دعم الأدوية السرطانية وبداية الأزمة الاقتصادية، وفق ما نشرت تقارير صحافية سابقة وتصاريح المعنيين.

انتشار الأدوية المزوّرة
 
من جهة أخرى، اضطر عدد كبير من المرضى إلى اللجوء إلى السوق السوداء، أو إلى الأسواق الخارجية لتأمين أدويتهم المقطوعة، التي كانت بقسمها الأكبر مزوّرة. في ذلك الوقت، أصدرت منظّمة الصحة العالمية تقريراً يحذّر من دواء ملوّث يُسمّى METHOTREX بعيار 50 ملغ، ويُستخدم في علاج السرطان وأمراض المناعة الذاتية. تمّ العثور على الدفعة الملوّثة في لبنان واليمن، بعد ظهور آثار ضارّة على أطفال مرضى يتلقّون الدواء. وكشفت نتائج الاختبارات على عيّنات الدواء وجود بكتيريا الزائفة الزنجارية، التي قد تُسبّب الوفاة.
 
صحيح أن نظام التتبّع، الذي أطلقته وزارة الصحّة، ساهم في الحدّ من عمليات التهريب - وفق سلوم - الذي شدّد على أن "مسألة التهريب عولجت بشكل كبير، وتبقى المشكلة الأساسية في زيادة التمويل المطلوب"، داعياً إلى "الحفاظ على دعم الأدوية السرطانية وتأمينها لكلّ المرضى".
 
وتكمن مشكلة أدوية السوق السوداء بـ:
 
* الخطأ في طريقة حفظ الدواء
* جهل الجودة، وصعوبة التأكّد من نوعيّتها.
لكن الأنظمة توجب أن يكون الدواء مسجّلاً في وزارة الصحة، وحاصلاً على شهاداتِ مطابقة من مختبرات مرجعيّة، في حين أنّنا لا نعرف شيئاً اليوم عن الأدوية المزوّرة والمهرّبة.
 
ويلفت سلوم إلى أن "تقديرات النقابة لكميّة الأدوية المزوّرة الموجودة في لبنان تفوق الـ30 في المئة، وأغلبّيتها تأتي من سورية، إيران، تركيا، الهند وغيرها…"، ليُطالب - أمام هذا الواقع - بوجوب إعلان حالة طوارئ دوائيّة صحيّة، والدّعوة إلى مؤتمر المانحين للأدوية السرطانيّة، بالإضافة إلى إصدار بطاقة دوائية وتوحيد الصناديق الضامنة لتأمين الدواء لكلّ مريض.
 

 
تجربة مرّة
 
شُخّصت الشابة فاديا (28 عاماً) بالسرطان خلال الأزمة الاقتصادية، وكانت معركتها - وفق ما تقول - "لتأمين الدواء أكثر بكثير من معركتي مع السرطان بحدّ ذاته. كنتُ متصالحة مع حالتي المرضيّة، إلا أنّني لم أكن متصالحة مع الوضع الذي نعيشه من ناحية تأمين الدواء تكلفةً وجودةً. كان عليّ الخضوع لجراحتين تكلفتهما 12 ألف دولار، واعتمدت على التبرّعات والمساعدات حتى أتمكّن من إجرائهما. كانت تلك البداية، قبل أن أبدأ رحلة البحث عن الدواء لمواصلة المعركة".
 
انقطع دواء فاديا في لبنان، وكان الحلّ البديل هو البحث عنه في أكثر من دولة. وبعد اتصالات ومحاولات، نجحت في تأمين الدواء من تركيا. تصف ذلك الشعور جيّداً بقولها: "تمكّنت صديقتي من تأمين علبة من تركيا، تكلفتها 650 دولاراً، وجدتها في إحدى الصيدليّات. وأتذكّر جيّداً أنّني كنتُ أحملها بيدي كأنّني أحمل فرصة نجاتي. وأثناء انتظاري لتلقّي العلاج في المستشفى، كانت المفاجأة إبلاغ الممرضة لي بأنّ الدواء، الذي أحضرته كان مزوّراً. لم أصدّق ما سمعته، ولم أتمكّن من الخضوع للجلسة العلاجيّة".
 
كان على فاديا تأمين علبة أخرى لمواصلة علاجها، وكانت بحاجة إلى تأمين الدواء كلّ 21 يوماً. 14 جلسة كانت أشبه برحلة عذاب لا تنتهي، عنوانها تأمين دواء جيّد لضمان الصحّة والتحسّن. تعترف: "تأخّرت في علاجي لأنّني كنت عاجزة عن تأمين التكاليف المطلوبة. ولو لم أتلقَّ المساعدة لما استطعت أن أنهي علاجي".
 

 
تراجع جودة الخدمة الطبيّة
 
يعترف نقيب المستشفيات الخاصّة في لبنان الدكتور سليمان هارون بأننا "نلمس فرقاً واضحاً وكبيراً بين ما قبل الأزمة وما بعدها. ووفق التصنيف الذي نشره موقع "نومبيو"، حول الدول الأفضل من حيث الرعاية الصحيّة لعام 2023، احتلّ لبنان الدرجة الرابعة عربياً. كذلك في العام 2018، أنجزت وكالة "بلومبرغ" إحصاءً يتعلّق بالقطاع الصحيّ، فاحتلّ لبنان فيه المرتبة الأولى على صعيد الشرق الأوسط، والمرتبة 28 عالمياً بينما الولايات المتحدة احتلّت حينها المرتبة 36.
 
وتعود الأسباب المسؤولة عن هذا التراجع إلى الأزمة المالية التي انعكست على المستشفيات، وتُرجمت بهجرة الأدمغة التي شهدها القطاع الصحي، وبخسارة لبنان للجسم الطبي من أصحاب الكفاءة والخبرة (أطباء وممرضون وتقنيون وإداريون...)".
 
كذلك، إن صعوبة الحصول على الأدوية والمستلزمات الطبية أثّرت على جودة الخدمة الطبية، وشهدنا ذلك في بعض الأقسام الطبية. في المقابل، هناك صعوبة في شراء المعدات الطبية الحديثة التي باتت محدودة اليوم، إذ تعجز أغلبيّة المستشفيات عن شراء معدات حديثة من الخارج، وتكتفي بالمعدات الموجودة لديها، بالرغم من أنها أصبحت قديمة بعض الشيء، بعد أن كنّا نتغنّى سابقاً، قبل الأزمة، بتخمة وجود هذه المعدات الحديثة".
 
لكن رئيس لجنة الصحة النيابية بلال عبدالله يؤكّد أننا "لا نملك أرقاماً أو إحصاءات حول عدد المرضى الذين لا يتلقون العلاج"، موضحاً بأن "الاعتراض الذي نسمعه هو من هذه الفئة، وليس من كلّ مرضى السرطان. المشكلة ليست محصورة في مكان واحد وإنّما متعددة؛ فالتأخير في استيراد الأدوية أو عدم استيرادها لسبب أو لآخر، أو لأنها غير مدرجة ضمن بروتوكل الوزارة للعلاج يؤدي إلى إثارة البلبلة".
 
من نعمة إلى نقمة
 
يشدّد رئيس قسم الأمراض والأورام في مستشفى "أوتيل ديو" البروفيسور فادي نصر لـ"النهار" على أنه قبل العام 2018 كنا نعالج المرضى كما في الدول المتقدّمة (فرنسا وأميركا وغيرها) وكنّا بحالة النعمة. أمّا بعد العام 2018، فالجهات الضامنة فقدت التغطية بشكل كبير، ومعها فَقَدَ المرضى فرصة تغطية هذه التكاليف، وبات عليهم أن يدفعوا الفروقات المالية من جيوبهم الخاصّة.
 
وفي ظل غياب الجهات الضامنة، يواجه مرضى السرطان مشكلة كبيرة في تحمل تكاليف العلاجات السرطانية المرتفعة الثمن.
وفي هذا الصدد، يؤكد نقيب الأطباء يوسف بخاش أنه في العام 2005، تم تسجيل نحو 8 آلاف حالة جديدة من الأمراض السرطانية في لبنان. ارتفعت هذه الأرقام بشكل ملحوظ، فتجاوزت الـ10 آلاف حالة في عام 2010، وتخطّت الـ13 ألف حالة في عام 2015. أمّا في الوقت الحالي، فتجاوزت حالات الإصابة بالأمراض السرطانية الـ16 ألف حالة سنوياً".
 
وبحسب تقرير نشره "المرصد العالمي للسرطان" المنبثق عن منظمة الصحة العالمية، في آذار 2021، سجّل لبنان 28 ألفاً و764 إصابة بمرض السرطان خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينهم 11 ألفاً و600 حالة عام 2020، فيما يقول أطباء لبنانيون إنّ عدد مَن يتلقّون العلاج يتجاوز هذا الرقم باعتبار أن مدّة علاج بعض المرضى قد تمتدّ لسنوات.
 
هذا، وكانت "الوكالة الدولية لأبحاث السرطان" التابعة لمنظمة الصحة العالمية، عام 2018، أشارت إلى أن لبنان احتلّ المرتبة الأولى بين دول غربي آسيا بعدد الإصابات قياساً بعدد السكّان، وأن هناك 242 مصاباً بالسرطان، بين كلّ 100 ألف لبنانيّ.
 

 
ويشرح نصر بأنّ "قسماً كبيراً من المرضى لم يعد بمقدورهم دفع تكاليف العلاج. وفي المرحلة الأولى، لم يكن الدواء متوافراً حتى لو كان بعض المرضى قادرين على دفع ثمنه، ممّا اضطرّهم إلى اللجوء للسوق السوداء أو الخارج مثل: تركيا وإيران وبنغلادش والهند، في حين أن خطورة هذه الأدوية تتمثّل بفاعليتها المشكوك فيها كما بجودتها وكيفية تخزينها".
 
ونتيجة هذا الواقع، يؤكّد نصر أننا "نشهد تراجعاً حادّاً في العلاجات، بالإضافة إلى حالات وفاة لبعض المرضى بسبب انقطاعهم عن الدواء. كما سجّلنا تراجعاً في الحالة الصحيّة لبعض المرضى، أو تشخيصاً متأخّراً بسبب التكلفة. وبالتالي، انتقلنا من حالة النعمة إلى حالة مزرية يدفع المريض ثمنها في الدرجة الأولى".
 
ويتحدّث نصر عن مسألة تسجيل أدوية سرطانية جديدة في لبنان، إذ بعد أن كان لبنان سبّاقاً في استقدام العلاجات الحديثة، لم يُسجّل منذ العام 2018 أي أدوية جديدة للسرطان، بالرغم من أنها أظهرت فاعليتها في تحسين حياة المرضى.
 
لكن رئيس لجنة الصحة النيابية يؤكّد أن "الكلام على عدم استيراد أدوية حديثة غير صحيح، فهناك أدوية كثيرة تصل إلى لبنان. صحيح أننا في السابق كنا نستورد بكميات هائلة حتى تلك الأدوية التي كانت تجريبية، لأننا كنا نعيش في "بحبوحة" أما اليوم فيجب وضع ضوابط، والبروتوكولات العلاجية وُضعت من قبل عمداء الكليات ورؤساء أقسام العلاج السرطاني في الجامعات والمستشفيات".
 
ندور في حلقة مفرغة
يتحدث رئيس جمعية "بربارة نصار لدعم مرضى السرطان" هاني نصار عن اختلاف أنواع الاتصالات التي يتلقّاها اليوم مقارنة بما قبل الأزمة، فيقول: "كنا في الماضي نتلقّى نحو 300 اتصال يومياً للاستفسار عن العلاجات، وتغطية الصناديق الضامنة، وتوجيه المريض بطريقة صحيحة، ومباشرة العلاج، ومساعدة بعض المرضى في دفع الفروقات المالية، إلى أن وصلنا إلى المرحلة الأولى لما بعد الأزمة، حين أصبحت كلّ الاتصالات تندرج في مسألة البحث عن الأدوية المقطوعة وكيفيّة تأمينها".
 
ويضيف "أما في المرحلة الثانية، عندما ارتفع سعر الصرف بشكل جنوني، ورُفع الدعم عن بعض أنواع العلاج الكيميائي، وبعد توقف الجهات الضامنة عن التغطية (كانت في السابق تغطي بنسبة 90 في المئة، أما اليوم فلا تتعدى تغطيتها الـ10 في المئة) حلّت الكارثة، وتوقّف عدد كبير من المرضى عن أخذ علاجاتهم، ويعود السبب الأساسي إلى عجزهم عن دفع التكاليف العلاجية".
 
يرى نصار أن المشكلة تتمثّل بـ"الأدوية المدعومة للسرطان التي تؤخذ في المنزل، فكلفتها باهظة للعلبة الواحدة شهرياً (تتراوح ما بين 3000$ و6000$)، وقد لا تتوفر بشكل دائم، ممّا يدفع بعض المرضى إلى البحث عن إمكانية تأمينها من الخارج. وهنا الكارثة، لأن الفرق يكون كبيراً. على سبيل المثال: دواء الـTagrisso تكلفته في لبنان 9 ملايين ليرة (توازي 6000 دولار قبل الأزمة) وما زال مدعوماً على الـ1500 ليرة لبنانية. أما إذا أراد المريض شراءه من الخارج، فتبلغ تكلفته 6000$ أي ما يقرب من 540 مليون ليرة لبنانية على مؤشر صرف 90 ألف ليرة للدولار الواحد".
 
ويُميّز نصّار بين الأدوية المدعومة التي يتخطّى ثمنها الـ300 دولار وما فوق وبين الأدوية غير المدعومة وثمنها دون الـ300 دولار. ويجد مريض السرطان نفسه أمام معضلة مشابهة في صعوبة الدفع، حيث يتوجب عليه دفع تكلفة العلاج الكيميائيّ، التي لا تكون محصورة بدواء واحد، بل تكون مزيجاً من الأدوية (3 أدوية مثلاً، تكلفة كلّ واحد منها 200-300$)، بالإضافة إلى فاتورة الاستشفاء لنصف يوم، والتي تصل في بعض المستشفيات إلى 400 دولار.
 
ما الحل؟
 
يؤكّد هارون أن مشكلة القطاع الصحيّ في لبنان ماليّة، ويجب توافر الأموال الكافية حتى تتمكّن المستشفيات من المحافظة على المستوى الصحيّ الذي كان قبل الأزمة الاقتصادية، خصوصاً من جهة العناصر البشرية ومن جهة المعدّات والأدوية والمستلزمات الطبيّة.
نعرف تماماً - وفق ما يقول هارون - أن "لا حلّ سحرياً، وما زلنا نتخبّط في الأزمة، ونحتاج إلى النهوض على مستوى الوطن ومختلف القطاعات، ومن ضمنها القطاع الاستشفائي".
 
من جهته، يرى نصّار أن الحلّ الأقرب إلى الواقع يتمثل بتأمين التمويل اللازم لوزارة الصحة للحصول على كلّ الأدوية السرطانية المطلوبة، لأن الميزانية المرصودة اليوم لا تكفي كلّ مرضى السرطان في لبنان. ويضيف إلى ما تقدّم المطالبة بوقف الهدر، وتوجيه الأموال إلى المكان الصحيح وتعزيز نظامMeditrack . ويؤكّد أننا نحتاج إلى العمل على أكثر من ثغرة حتى نعالج مسألة توفر العلاجات السرطانية بشكل مستدام للمرضى.
 
التغطية الصحية من الجهات الضامنة
 
تدور الأزمة الاقتصادية في دائرة مغلقة، إلا أنها تؤثر بشكل أو بآخر على مسار علاج المريض شخصيّاً. وشكّلت التغطية الصحيّة عائقاً أساسيّاً بعد أن اختلفت الجهات الضامنة في تغطية التكاليف الصحيّة بين ما قبل الأزمة وما بعدها، وما بين جهة ضامنة وأخرى.
رفعت تعاونية الموظفين التغطية الصحيّة مؤخّراً بنسبة 50 ضعفاً عمّا كانت عليه في بداية الأزمة، ممّا جعل التعرفة مقبولة، بالإضافة إلى الدّفع مسبقاً حمايةً للمستشفيات من تدهور سعر صرف الدولار.
 
كذلك الأمر بالنسبة إلى الطبابة العسكرية، حيث تمّ تصحيح التعرفة، وتعمل مؤخّراً معها لتعديل التعرفة التي من المفترض أن تصدر الأسبوع المقبل. وتعتبر التعرفة الجديدة مقبولة أكثر ممّا كانت عليه سابقاً.
 
ويعتبر هارون أن المشكلة الكبرى تكمن في "تغطية وزارة الصحة وصندوق الضمان الاجتماعي اللذين يعانيان من نقص الأموال لرفع التعرفة بشكل موازٍ لارتفاع سعر صرف الدولار. فما زالت تعرفاتهما متدنّية، خصوصاً تعرفة الضمان الاجتماعي. وعلى سبيل المثال: لا يغطّي الضمان الاجتماعي أسعار الأدوية حسب سعرها الحالي، الذي يصدر عن وزارة الصحة، بل يعتمد الأسعار الأقلّ؛ الأمر الذي يدفع بالمريض إلى تحمل التكلفة الكبرى على نفقته الخاصّة".
 
ويشير نقيب المستشفيات الخاصة إلى أنه "في الاجتماع الأخير للحكومة اللبنانية والمجلس النيابي ووزير الصحة، طالب الأخير بزيادة الأموال بنسبة خمسة أضعاف أو أكثر ممّا هي عليه اليوم حتى يتمكّن من تغطية المواطنين الذين يضطرون إلى دخول المستشفى على حساب وزارة الصحة".

 
 
مرضى لا يجدون أدويتهم
 
وعن الميزانية المطلوبة اليوم لتغطية حاجة كلّ مرضى السرطان، يؤكّد نقيب الصيادلة أننا بحاجة إلى 50-60 مليون دولار شهرياً تُخصّص فقط لأدوية السرطان. ونتيجة هذا الواقع، هناك أكثر من نصف الأدوية غير مؤمنة بسبب غياب أموال الدعم، ممّا يعني أن أكثر من نصف مرضى السرطان لا يجدون أدويتهم في لبنان، أو يتأخّر وصولها، ممّا يؤدّي إلى تفاقم حالاتهم الصحية.
 
من جهته، يرى النائب عبدلله أنه "ليس من حقنا أن نطلب أموالاً أكثر نتيجة غياب التمويل. وقد شهدنا بالاستناد إلى نظام تتبّع الأدويةMeditrack ، التي أطلقته وزارة الصحة، ضبطاً كبيراً لعملية تهريب الأدوية. ونعلم جيداً أن التهريب نشط كثيراً في مرحلة دعم الأدوية السرطانية، حين بلغت قيمة الدّعم لكلّ السّلع آنذاك نحو مليار دولار، من ضمنها الأدوية".
 
وعن التهديد برفع الدّعم عن الأدوية السرطانية المتبقّية، يؤكّد عبدالله أنه في الاجتماع طلبنا من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الصحة الاستمرار في تأمين الأموال من الإنفاق الخاصّ، وسيبقى الدعم حتى نهاية العام وفق برنامج وضعه وزير الصحة.
 
حالات سرطانية متقدّمة
يُقيّم الاختصاصي في جراحة الصدر وجراحة سرطان الرئة الدكتور أسعد سماحة الواقع الصحيّ بالاستناد إلى أزمتين متتاليتين أوّلهما جائحة كورونا، التي ضربت العالم كلّه، والثانية الأزمة الاقتصادية التي تسبّبت بكارثة حقيقية.
 
البداية كانت من جائحة كورونا حين تردّد الناس كثيراً في زيارة الأطباء وإجراء الفحوص المطلوبة خوفاً من التقاط العدوى، ممّا أدى إلى تشخيص متأخّر للمرض، خصوصاً أن مرض السرطان لا يظهر علامات وعوارض واضحة إلا في مراحل متقدّمة.
 
وعليه، لاحظنا خلال الزيارات الطبية، قدوم حالات سرطانية متقدّمة بشكل كبير مقارنة بالسنوات الماضية والأسباب عديدة.
 
التشخيص المتأخر وزيادة نسبة الوفيات
 
يتحدث سماحة عن مخاطر التشخيص المتأخّر الذي يؤثر سلباً على نسبة الشفاء من السرطان، والتي تصبح أقلّ مقارنة بحالات التشخيص المبكر. "فالتشخيص السريع والمباشرة بالعلاج يساعدان على احتواء المرض، وعلى الحصول على نتائج جيّدة. بعد أن نجحنا في تحقيق نسب شفاء بنسبة عالية جداً نتيجة التشخيص المبكر والعلاجات الفورية، حيث تصل نسبة الشفاء في بعض أنواع السرطانات إلى 90 في المئة مثل سرطان الثدي وغيرها (في المراحل الأولى)، نواجه اليوم صعوبة في توفر المعدّات والتجهيزات والخبرات، ممّا أدّى إلى تأخير في التشخيص، وبالتالي إلى تراجع في نسبة العلاج وزيادة نسبة الوفيات.
 
ويبقى السؤال الأهمّ إن كان سيُرفع الدعم كليّاً عن الأدوية السرطانية، ما هو مصير 30 ألف مريض سرطان في لبنان؟
 

اقرأ في النهار Premium