السلسلة البشرية التي تراصّت لها الأكتاف، وتجاورتها الأرجل، وتشابكتها الأيدي، كدبكة لبنانيّة بنكهة ثورة، من طرابلس حتّى صور جنوبًا، أرست خلاصة المشهد الثّوري حتى يومه العاشر. فمن حيث بدأت السّلسلة، تبدو طرابلس في المعادلة الثّوريّة كالحجر الأوّل في صفّ الدّومينو، إن وقع، وقعت تباعًا بقيّة الأحجار. العكس أيضًا صحيح، وهذا ما تجتهد طرابلس في تحقيقه كلّ يوم، وتنجح.
مشهد السلسلة البشريّة تشكّل في الجمال والقوّة والثّبات المنشودين من هذه الثّورة، ولم يجرِ ذلك بدون أن تتعافى سريعًا طرابلس من رضّة أمنيّة تعرّضت لها قبل مساء واحد. لكنّها، باندفاع يزاوج بين نقاء النيّة وحكمة المسؤولية، سرعان ما وقفت على رجليها وذهبت لتدارك حادثة افتعلها مندسّون بين الجيش وأهالي البدّاوي، مثلما افتعلت الطوابير الخامسة مشاكل في رياض الصلح والفاكهة والرينغ والنبطية.
طرابلس أمّ الثّورة
التّهديد للثّورة شمالًا، وقع في البدّاوي، أي على مسافة خمسة كيلومترات من ساحة النّور. في طرابلس، لم تدم الخفسة المعنويّة لدى المتظاهرين أكثر من دقائق معدودات. وقت قصير ألحق بمسافة السّكة: سيرًا على الأقدام، عرج متظاهرو طرابلس من ساحة النّور الى البدّاوي. بدّل هؤلاء المشهد المؤسف واستبدلوا الاحباط بعزيمة جديدة. من وقائع حيّة وافتراضيّة توحي بكارثة وشيكة، الى مشهد الجيش محمولاً على أكتاف الثوّار. طرابلس التفّت حول جيرانها في البدّاوي وسعت لـ "لفلفة" مشكلة مفتعلة ومتوقعة مع الجيش. طرابلس الّتي "دُعشنت" طويلًا، لا تزال تردّ عن نفسها شبهة ألصقت بها كأمر واقع. طرابلس لا تزال تنتفض ضدّ الأمر الواقع فتستشرس في صنع الواقع. لا تشعر طرابلس بمسؤوليتها الثورية حيال نفسها فحسب، بل حيال كلّ المناطق، القريبة والبعيدة. طرابلس كأمّ رؤوم، تعطف وتؤازر وتكفكف الدّمع وتمسح العرق. طرابلس أمّ للثورة.
مؤشّر آخر؟ حين توجّع ثوّار النّبطية، أطلقت لهم طرابلس صرخة التّضامن. سارع متظاهرو ساحة النّور لحمل لافتة معبّرة خرقت محظورات الطّوائف. بقلب واحدٍ ردّدوا ما كتبوه "يا حسين، تشفّع لأهلنا بالنبطية، طرابلس لح تحكي باسمكم".
لا تكفّ طرابلس على مفاجأة الكلّ، بنفس العاطفة الصّلبة، الدّافئة، والخلّاقة، الّتي تخترع من الّلاشيء تفاصيل الحب. كالأمّ هي طرابلس.
طرابلس عروس الثّورة
وكالعروس هي، تحتفظ بمكانتها الثّورية. تغصّ منصّات التوّاصل الاجتماعي بهاشتاغ #طرابلس_عروس_الثورة، مشفوعة بومضات تؤكّد على استمرار العرس، بل توسّعه. لا تزال الموسيقى الثّوريّة تصدح من مكبّرات الصّوت. حول كلمة "الله" الّذي فهم المتظاهرون وأفهموا كيف يقرّب ولا يفرّق، مزيد من الأضواء تشعّها الهواتف النّقالة. ويسجّل المشهد حلقات جديدة من التّوعية المدنيّة والسيّاسيّة استحدثها شباب من "نحن نحب طرابلس" و “Global shapers”. الأرض يسهر على نظافتها متطوّعون ببزاتهم الفوسفوريّة من "الحرّاس"، والكعكة الطّرابلسيّة الّتي تتحمّص بهدوء تخترق رائحتها الأجواء، الى جانب بائع عرانيس الذّرة، وعربات القهوة والمياه وغزل البنات الملوّن. العرس لا يزال قائمًا بكامل مقدّراته.
لكن مهلًا، هل تظهر العروس بدون فستان جميل؟ عروس الثّورة، طرابلس، اختارت الأسبوع الماضي أن ترتدي العلم الّلبناني. أضحى العلم هو "فستان العروس". بدّلت طرابلس ألوان "مبنى الغندور" الشاحبة بألوان العلم اللّبناني الّذي طلي به. هذا المبنى الّذي يُشرف على ساحة النّور، وعدت به طرابلس منذ أكثر من عقدين ليصبح فندقًا بخمس نجوم. هذه المدينة، المفترض بأن تكون عاصمة الشّمال، لا تحتضن اليوم فندقًا واحدًا. في ثورتها، أرادت التأكيد بأنّها كفّت عن تصديق الوعود، بعدما نُكث بها جميعًا. فأدارت ثورتها من المبنى نفسه، ثورة على الوعد الأجوف، وثورة لأجل مرفأ طرابلس ومصفاتها ومعرضها ومطارها وملعبها الأولمبي، "ميمات طرابلس الخمس" الّتي ما انفكّت تطالب بإنعاشها، تصرخ في آذان صمّاء. اختارت منذ 17 تشرين الأول صرخة واحدة تختذل وجعها، صرخت "ثورة".
"موزاييك" ساحة النّور
إنّ التشكيل البصري الّذي يجعل "ساحة النّور" رقعة بهيّة للثّورة، ينطبق كذلك على مكوّنها المطلبي. حتّى يومها الثاني عشر، أبقت ثورة طرابلس على تنوّعها المطلبيّ الّذي اجتثّته "النّهار" في صيحات المتظاهرين.
صفا صبحة، صبيّة في الثّلاثين من التّبانة، تنزل كلّ يوم بصحبة طفلتها سارة، بعدما أجهضت مؤخرًا طفلة في المستشفى الحكوميّ. تقول إنّها تتظاهر لـ "حقوق بديهيّة"، لأجل طبابة محترمة، ولتعمل في شهادتها "فوق فاجعة إجهاضي، دفعت مبالغ إضافية ليخرجوني من المستشفى الّتي لا تليق خدماتها بإنسان". صفا الّتي تحمل إجازة في الأدب العربي، وهي اليوم عاطلة عن العمل، تنشط في جمعية نسائية في محلتها وتطوّعت في مبادرات اجتماعيّة حين كانت جولات التبانة - جبل محسن في ذروة اشتعالها. تقف الى جانب الحشد الّذي يهتف عاليًا "ما حنفل ما حنفل حتى يسقط بيّ الكلّ"، ثمّ تدنو من ابنتها لتسألها "إنتِ ليش هون؟"، فتردّ "لأنّو بدّي جيب كلّ شي عبالي ياه"، ثمّ تدندن "الشّعب يريد إسقاط النّظام".
على بعد خطوات، تؤكّد عبير ريما أنّ مشاركتها على مساحة لبنان. فمطلب "الجنسيّة" لأولاد وزوج المرأة المتزوّجة من أجنبيّ هو حقّ لكلّ امرأة لبنانيّة "يجب احترام الدستور، ورفع الحظر عن معاهدة "سيداو" لنصل الى هذا الحقّ". وتعتبر المتظاهرة بأنّ حجّة التوازن الديمغرافي والطائفي أثبتت اليوم هشاشتها الخالصة، "فالشعب اليوم يمتلك وعيًا عظيمًا جعله يتوحّد لأجل حقوقه ويسقط كلّ حساب طائفي". اللّافت أنّ عبير لا تمسّها هذه القضيّة على نحو مباشر، لكنّها نزلت الى السّاحة تنتفض لها. هي امرأة لبنانيّة، متزوّجة من رجل لبنانيّ. لكنّها تلتزم معركة تحصيل حقّ الجنسيّة. هنا، في ساحة النّور، استبدل أهالي طرابلس الـ "أنا" بالنّضال من أجل "الآخر"، وحيث العدالة الاجتماعيّة لم تعد استنسابيّة "كلّن يعني كلّن"، ولأجل الكلّ.
ثمّ تبتعد قليلًا الطّفلة جنى العلي (13 سنة) عن والدتها وأخويها الذين تزين الأعلام اللبنانيّة خدودهم، تشي بخوفها الّذي نزلت الى السّاحة لتذليله "أنا أحبّ لبنان. حين أتخرّج لا أريد أن أهاجر، أريد أن أجد لي وظيفة في بلدي لأبقى في بلدي".
إذًا، في "ساحة النّور" تتنوّع الأوجاع كموزاييك ملوّن ومنصهر في آن واحد. أوجاع تتعالى أصواتها ولا تنحسر. تُسدل ستارة الأحد على ألوان لم تطمسها حبال الشتاء الكثيفة الّتي انهمرت على المتظاهرين. على العكس. نزلت حلل الطّعام الى قلب السّاحة. المنسف للأحد والمجدّرة للاثنين. ثمّ انهمر الشّتاء كثيفًا. لا النّار في طرابلس انطفأت، ولا جذوة الثوّار.