"نعم، ألمانيا الغربيّة ابتلعتنا، لكن قريباً ستعاني من عسر هضم." لم يكن ما قاله أحد المواطنين من ألمانيا الشرقيّة لبروفسّور دراسات الهولوكوست في جامعة فلوريدا نايثان ستولتزفوس سنة 1993، زلّة لسان أو كلاماً يعبّر عن رأي فرديّ. فبعد 30 عاماً على سقوط جدار برلين، لا تزال ألمانيا تبحث عن تحويل ذلك الحدث التاريخيّ إلى نجاح كامل في إيجاد التوازن الشعبين منذ 9 تشرين الثاني 1989.
تبدّلت المشاعر "بين ليلة وضحاها"
بنت الكتلة الشرقيّة الجدار سنة 1961 لحماية عقيدتها من الأفكار الغربيّة. وعشيّة سقوطه، كان قد قُتل حوالي 2000 شخص على يد الحرّاس الشيوعيّين بسبب محاولتهم عبوره. سقط الجدار بأسرع ممّا توقّعه الألمان آنذاك، لكن بنفس السرعة سقطت مشاعر الفرح. تحوّلت الأخيرة إلى أحاسيس من الترقّب والحذر بعد بضعة أسابيع على الحدث.
شرح ستولزفوس في موقع "ذا كونفرسايشن" الأوستراليّ ما عاصره من تطوّرات في تلك الحقبة، حيث "برز الاستياء بين ليلة وضحاها". وأضاف أنّ الغرب كان خائفاً من الزيادات الضريبيّة التي توجّب عليه دفعها لتغطية تكاليف التوحيد. وفي التسعينات، ارتفعت الهجمات ضدّ اللاجئين في ألمانيا الشرقيّة ثلاث مرّات عمّا كانت عليه في غربها وعنى ذلك أنّ الشرق لم يقبل سريعاً قيم الغرب التعدّديّة. والتطوّرات اللاحقة لم تكن أفضل.
برز حزب "البديل لأجل ألمانيا" اليمينيّ المتطرّف وتوسّع في الشرق ردّاً على سياسة أنجيلا ميركل تجاه اللاجئين. واستشهد ستولزفوس باستطلاع رأي حديث يظهر أنّ حوالي نصف الألمان في الشرق يشعرون بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية. كذلك، كانت نسبة البطالة 6.9% في الشرق مقارنة ب 4.8% في الغرب سنة 2018. ويكسب الشرقيّون 86% ممّا يكسبه الغرب الذي يضمّ أيضاً الغالبيّة الساحقة من الشركات الكبرى.
"عوملنا بغير عدل"
احتفلت ميركل بالذكرى الثلاثين لإعادة توحيد ألمانيا بعبارات متفائلة على الرغم من الانتكاسات السياسيّة والانتخابيّة التي تعرّضت لها في السنوات القليلة الماضية. وقبل حوالي سنة على مغادرتها منصبها كمستشارة عام 2021، تدرك ميركل أنّ الواقع لا يطابق كثيراً نظرتها المتفائلة: "جدار برلين حاليّاً هو من التاريخ، والدرس المُكتسَب هو أنّه لا جدران مرتفعة بما يكفي أو عريضة بما يكفي لإبقاء الناس خارجاً أو للحدّ من الحرّيّات، لا يمكن هدمها."
المشكلة التي قد تعاني منها ألمانيا اليوم ليست الجدار الاسمنتيّ بمقدار ما هي الجدار "النفسيّ" الذي لا يزال كامناً إلى حدّ ملحوظ بين الألمان أنفسهم. أظهر استطلاع رأي لمعهد "إيبسوس" أنّ 15% منهم ينظرون بسلبيّة إلى انهيار الجدار بسبب الفوضى والكلفة التي تسبّب بها سقوط الجدار، بينما تمتّع 30% من مشاعر مختلطة إلى سلبيّة مرتبطة بالضرائب المرتفعة التي فرضتها الحكومة لإعادة التوحيد. أمّا من لا يزالون ينظرون بإيجابيّة إلى الحدث فبلغت نسبتهم 54%. ووفقاً لاستطلاع رأي آخر أجراه "معهد ديماب"، يعتقد 52% من الألمان الشرقيّين أنّهم عوملوا بطريقة غير عادلة وأنّ 64% يعتقدون أنّ الألمانيّتين لم تتماشيا معاً في نموّهما.
"لا شيء لتكفّروا عنه"
على مرّ السنوات، كانت ألمانيا أمام تحدّ ملحّ: استنساخ التجربة الليبيراليّة الاقتصاديّة في جزئها الشرقيّ. لكنّ أرقام اليوم تظهر أنّ برلين لا تزال بعيدة عن تخطّي هذا التحدّي. أنْ تتركّز معظم الشركات والمصانع الكبيرة اليوم في القسم الغربيّ يؤشّر إلى إخفاق هذه السياسة. لقد طمح الشرقيّون إلى المستوى والنمط المعيشيّين اللذين سادا القسم الغربيّ من البلاد، لكنّ سقوط جدار برلين أسقط معه الكثير من الأحلام المبالغ بها، على الرغم من أنّه حقّق إيجابيّات كثيرة. خلق رفع الضرائب وإعادة دمج الاقتصاد نتائج عسكيّة على المستوى الشعبيّ.
في هذا السياق، نقل تقرير شبكة "پي بي أس" الأميركيّة عن المؤرّخ الألمانيّ ستيفن وولّه قوله: "فجأة، خسر عدد هائل من الشعب وظائفه. وبطبيعة الحال، كانوا خائبين من ذلك، وقالوا، إذاً هذا هو التوحيد؟ ما النفع من الحرّيّة والديموقراطيّة، إذا لم يكن لديّ عمل ولم يكن باستطاعتي شراء أيّ من الأشياء الجميلة التي لطالما أردتها؟"
"ميركل... "استثناء"
مع سقوط الجدار، برزت تبعات تاريخيّة ربّما كانت دافعاً في اختلال التوازن بين القسمين الغربيّ والشرقيّ. عشرون سنة من الاختلاف السياسيّ والعقيديّ الجذريّ ستترك بصمتها على نظرة الشرقيّين والغربيّين إلى بعضهم البعض. يقول المحاضر في شؤون الأمن والإرهاب الذي ولد وترعرع في بافاريا بيتر نيومان للشبكة نفسها: "في ألمانيا الغربيّة، علّمونا منذ البداية أنّنا ورثنا إرث النازيّة، وكان علينا التعويض عن ذلك، في حين، أنّه في ألمانيا الشرقيّة، قيل للناس إنّكم خلفاء الذين حاربوا النازيّين. أنتم خلفاء الشيوعيّين. لذلك لا شيء لتكفّروا عنه."
هذه الأدلّة تبرهن صعوبة ردم الهوّة الاقتصاديّة والنفسيّة بين الألمانيّتين حتى بعد مرور ثلاثة عقود على انهيار الجدار. والصورة العامّة توضحها ل "النهار" الدكتورة هوب هاريسون، البروفسورة المشاركة في التاريخ والشؤون الدوليّة في جامعة "جورج واشنطن" الأميركيّة: "بالنسبة إلى البعض في الشرق، يبقى حتماً جدار نفسيّ بين الشرق والغرب في برلين وألمانيا.
وأضافت: "هذا أبعد من الخلافات الاقتصاديّة (ولو الضيّقة) بين الشرق والغرب. هو يعكس شعوراً لدى بعض من في الشرق بأنّهم يعامَلون كمواطنين درجة ثانية. هو عاكس أيضاً لواقع أنّ الشعب من الغرب لا يزال يسيطر على النخبة السياسيّة، الاقتصاديّة والثقافيّة لألمانيا، مع كون أنجيلا ميركل استثناءً بارزاً."
"أوافق"
بعد حوالي سنتين، سيبدأ المراقبون والمؤرّخون في الحكم على سياسات ميركل الاقتصاديّة والاجتماعيّة بالنسبة إلى الشرق الذي انتقلت إليه في صباها مع والدها القسّيس الذي تسلّم إدارة إحدى أبرشيّاته. على أيّ حال، وبالنسبة إلى الواقع الحاليّ، يرسم أكثر من مراقب المشهد نفسه بالنسبة إلى الفروقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة بين الشرق والغرب.
رئيس مكتب برلين والباحث البارز في "المجلس الأوروبّيّ للعلاقات الخارجيّة" جوزف جانينغ يقدّم ل "النهار" رؤية مشابهة:
"تميل البطالة إلى أن تكون ضعف الأرقام في الغرب والإنتاجيّة لا تزال أدنى. تشهد العديد من البلدات الصغيرة والقرى خسارة سكّانيّة كبيرة بما أنّ الشباب يميلون للنزوح إلى المدن أو إلى الغرب. لذلك، يشعر العديد من الألمان الشرقيّين بأنّهم بطريقة ما، ]مواطنون[ من الدرجة الثانية، أكان ذلك تصريحاً منصفاً أم لا. يشعر العديد بأنّهم يستحقّون المزيد من الدعم الذي عوضاً عن ذلك، يتمّ إعطاؤه إلى اللاجئين القادمين إلى ألمانيا بأعداد كبيرة (وغالبيّتهم في الغرب أيضاً)".
وختم جانينغ: "بالتالي، سأوافق على أنّ حاجزاً نفسيّاً كهذا موجود."