ألقاب عديدة أعطيت لطرابلس، تمتدح أداءها في انتفاضة 17 تشرين. لا، لم تستقطب مدينة لبنانيّة ألقابًا تحيّي نبضها المتمرّد وروعة التعبيرعنه، بالقدر الّذي تستقطبه طرابلس. وأتى "عروس الثورة" أكثرها رواجًا على ألسنة تراقب وتقيّم، فتندهش. ولكن، هذه الدّهشة وما أفرزته من مواقف وألقاب استحسانية أمطر بها اللّبنانيّون طرابلس- عن حسن نيّة أكيد، في قلب هذا الاعتراف الرّاهن إنكارٌ مزمن لوطنيّة طرابلس يضرب جذوره منذ عشيّة الانتفاضة الى ما قبل الاستقلال. فالدّهشة لضلوع طرابلس كحجر زاوية في المشروع الوطني الجديد، نستلّ منها معنى باطنيّ- وعفويّ، يعتبر أنّ هذه الوطنيّة مستجدّة على طرابلس.
الشارع الطرابلسي يعنيه اليوم أن يصوّب الأمر. فعلى مرور الأيام الأربعين الأخيرة، تنتقل خلالها "النّهار" بين المنتفضين في ساحة النّور، نستمع اليهم ونسجّل ملاحظاتهم، يستوقفنا في نقاشاتهم رفضٌ مكرّر لعبارة "وجه طرابلس الجديد"، فيصوّبون للمتحدّثين أو حتّى لبعض الأقلام الاعلامية، بأنّ ما يعرفونه اليوم هو "وجه طرابلس الحقيقي"، الّذي غيّبه تركيز الاعلام سابقًا على أيّامها السوداء، وتقصيره في نقل بقعات الضوء الّتي بقيت تقاوم لعقود يأسًا مكينًا كاد يستبدّ بالمدينة.
وفي طرابلس آراء تنحو الى لوم كتب التاريخ اللّبناني، لا سيما تلك المعتمدة في المدارس، حيث تعاقبت أجيال لبنانية تدرس استقلالًا وضع طرابلس في موقع مجهري بالكاد يذكر عبر زعيمها عبد الحميد كرامي الّذي ضمّ الى معتقلي راشيّا. ولكنّ طرابلس لعبت دورًا حيويًا ولعله الأكثر شجاعة في معركة الاستقلال، تكلّل يوم 13 تشرين الثاني باستشهاد 14 طالبًا أعزل من ثانوياتها، دهستهم دبابات الفرنسيين التي قادها جنود سنغال في شوارع طرابلس، حيث مشى الطلاب بسلمية ينادون بسقوط الانتداب. هذه الواقعة المريعة والعظيمة جدًا بتضميناتها، بقيت مغمورة للبنانيين ولشريحة يسيرة من أبناء طرابلس نفسها، إذ لم يؤرخ لها إلا فيما ندر. ومن ضمن الاستثناءات نذكر الرئيس الراحل أمين الحافظ في كتاب سيرته "أمين وليلة-سيرة حياة"، لأنّه كان مشاركًا من ثانوية الفرير وشاهدًا عيانًا لتلك المجزرة. وكذلك النائب الراحل عبد المجيد الرافعي الّذي تناول الذكرى بالتفصيل في مقابلات وكتاب سيرته بقلم الدكتور مصطفى الحلوة، يسترجع مشاركته في تلك المسيرة حين كان طالبًا في الكلية الاسلامية. وبقيت تلك الرواية تتردّد في نطاق ضيّق تحت أيدي كتّاب وصحافيي طرابلس، بعكس كتب التّاريخ المدرسية الّتي شكّلت الانطباع اللبناني الاوسع حيال طرابلس- اللاانطباع حيال دورها الاستقلالي. إذ كان لتلك الأحداث الدامية أن تعلن حال عصيان مدني في طرابلس، وتسرّع الافراج عن المعتقلين وإعلان الاستقلال. وسبق ذلك الحدث الدامي استقبال معتاد للمسؤولين الموالين لفرنسا بالجفاء والتظاهرات، من بينهم الرئيس إميل اده الذي رشقه الطرابلسيون بالبندورة والبيض. وعام 1936 عاشت طرابلس إضرابًا عامًا امتد لأربعين يومًا ضد الانتداب الفرنسي.
لذلك، ليس من الغرابة مؤخرًا أن تغصّ صفحات رواد التواصل الاجتماعي بمن فيهم ثوار طرابلس، بمقالات تميط اللثام عن تلك الرواية، وتشير الى ضعف تناقلها، أو بصور تستعرض اللوح التذكاري بأسماء الشهداء الّذي أقامته البلدية عام 2010 على مدخل مقبرة الشهداء في باب الرّمل.
ميدانيًا، بدا الاستقلال أكثر فرحًا، حين تماهى مع الانتفاضة في فرحها الطاغي على شوارع طرابلس. مسيرة على قرع الطبول والطناجر مشت من السنترال الى ساحة النور، كان النساء في عدادها الغالب والأكثر إشراقًا، معهم الشباب، وقد رفع الجميع على سواعده علمًا لبنانيًا طويلًا زنّر شارع رياض الصلح على امتداده، الذي ملأه أكثر من سبعة آلاف متظاهر. وأعاد الطّلّاب التأكيد بأنهم يعتنقون كلّ قضايا الوطن الّتي لا تنحصر بهمومهم الطالبية، فانطلقوا في مسيرة تدعم استقلالية القضاء ومكافحة الفساد، من ساحة النور الى قصر العدل. استعراضات تنثر البهجة تلقفت اهتمام المتظاهرين، جاء أبرزها عرسٌ في الساحة، أوحت رمزيته بحياة واعدة للبنان كما للعروسين.
يوازي هذا الصّخب المشهدي، صخبٌ جوهريّ مستمرّ في دماغ ساحة النور، الّذي يتشكّل عند أطرافها في رزم فكريّة مفتوحة ضمن الخيم التي يتكاثر زوارها وتتنوع موضوعاتها يومًا بعد يوم. وفي هذه الزاوية، المؤشّر الأكثر بلاغة حول رغبة شريحة واسعة في طرابلس بترشيد انتفاضتها. في يوم الاستقلال، مثلاً، تناقل النشطاء برنامجًا تثقيفيًا تقاسمته الخيم، فناقشت "مدرسة المشاغبين" ارتباط الاصلاح بالثورة ثم أقامت حلقة حول أفكار ووسائل التصعيد والتكافل والتواصل مع المجتمع لأجل استمرارية الثورة، فيما احتضنت "ساحة ومساحة" حلقتان، الأولى حول الحق بالمياه والثانية حول قانون الايجارات التهجيري. بالتوازي، عقدت خيمة "الثورة مسؤولية" حلقة حول سبل تغيير السلطة، وانتهت تلك السلسلة في خيمة "مهن حرة" بحوار عن النظام الصحي الاستشفائي في لبنان والأزمة التي يمر بها.
هذه النقاشات، إن أعطت دليلًا واضحًا بأنّ انتفاضة طرابلس تحرص على تغذية روادها بالثقافة، واقبال هؤلاء المطرد على الثقافة، تلفت عناوينها في مجال لا يقلّ أهميّة الى أنّ روّاد الخيم يعرفون بأنّ الإعداد للبنان الجديد يستدعي الإلمام بكافّة ملفّاته، ولا يمكن عزل آلية الثورة، عن السياسات العامّة، وعزل الاثنين عن الشق الخدماتي في الدولة. وأنّ كلّ هذه التّراكيب المعرفية تلتئم لرسم تصوّرهم الكامل للبنان الجديد، الّذي يحسّن من تركيبة لبنان المستقل، فآثرت الخيم أن تحتفل بالاستقلال بمعرفات صغيرة متكاملة.
وليس من المبالغ القول بأنّ هذه الخيم تكوّن نبض الثورة في طرابلس. خيم شبيهة الى حد بعيد بالنابض الرئيسي في قلب ساعة يد، الذي تؤازره عجلات صغيرة مسننة، تتجاور وقد تتلاصق وهي تدور بسرعات مختلفة ولكن كلها تنتج إيقاعًا واحدًا.
وهل من المبالغ القول إنّ هذا التراكم يحدث آثاره في توجّهات المنتفضين؟ لا نتّجه إلى اعتباره مبالغة، ولكنه بالحد الأدنى يطيل عمر شعار الثورة السهل الممتنع، "كلن يعني كلن" ويزيد المنتفضين إيمانًا به. فحتى الساعة، ترجمت طرابلس حقًا جدية رفضها لكلّ الطاقم القديم، في موقع رئيس الحكومة، الأمهر عزفًا على وترها السني الذي خشي أن يشذّ عن صوتها الرافض للكل. فلم يلتفّ حول الحريري بعد استقالته سوى مجموعة من مناصريه، ما لبثت أن تلاشت أصواتهم المتعاطفة والمتوقعة في غضون يومين على استقالته. ولم تشفع طرابلس لاحقًا للوزير الصفدي، لا في محمّديته ولا بنوّته ولا حتّى رصيده الخدماتي أو الثقافي، لامتصاص موجة الغضب التي استثارتها تسميته لرئاسة الحكومة، بل نزلت في شوارعها مجموعات تحتجّ أمام مكتبه السياسي ومركزه الثقافي وبيته السابق، فيما استمرّت ساحة النّور بهتاف "كلّن يعني كلّن، والصفدي واحد منّن".
خلاصةً، ما قدّمته طرابلس في الاستقلال وفي ذكراه الـ76 التي تتداخل مع الانتفاضة، يبرهن بأنّ الوطنيّة ليست راهنة بل ترقى على الأقل إلى مشاركة طرابلس في ولادة لبنان المستقل الّذي تشارك اليوم في انتفاضته. لكن، الموضوعية تقضي بإقرارنا بأنّ مشاركة طرابلس باستقلال لبنان كانت دون شك مدعمة بحوافز عروبية. فالمصادر تجمع بأن الاصوات التي هتفت في طرابلس لطرد الفرنسي، تخللتها أصوات نادت بالوحدة مع سوريا. وإضراب 1936 ضد الانتداب أذكته الهجرة الصهيونية إلى فلسطين. لكنها خلفية لا تسفّه محوريّة طرابلس في تحقيق الاستقلال، وبالتالي دورها الوطني غير الجديد.
دهشة مشروعة وربما ضرورية ستعترينا فقط حين نفكّر، أنّ المدينة الّتي أنكر دورها الوطني لعقود، لا تتسامح مع هذا الإنكار لوطنيتها فحسب، بل تعيد اليوم إنتاجها بصيغة صَرفة، لا يتقاطع معها انتماء واحد غير وطني.