قصتي جميلة، كلما أتذكر فصولها، أبتسم وأشعر بالفخر.
كنت الطفلة التي لم تحظَ باهتمام الجميع أو بمعنى أصح لم تلفت أنظارهم بمهاراتها أو تركيزها بهواية معيّنة كي تنال التصفيق الحار أو الدعم، وأنا شخصياً لم أكن أكترث لذلك، فقد كنت مجرّد طفلة.
الذكرى الجميلة هي والدي الذي ترعرعت في كنفه وهو يعدّ لنا الطعام بكل حبّ. ولطالما جذبني الاقتراب من كل شخص يعدّ الطعام بشكل جيد، ولم أعلم حينها أنّ هذا الاهتمام سيؤثّر في مسار حياتي ويكون سبباً في تفجير موهبتي في فن الطبخ.
عندما أصبحت في عمر المراهقة، كانت لي بعض المحاولات في الطبخ، وما كنت أتميّز به هو إتقاني الوصفة لدى إعدادي لها للمرة الأولى. وهنا أقطع هذا المسار، لأشير إلى أنني تزوّجت في سن مبكرة جداً، ورزقني الله بخمس بنات هنّ ثمرة حياتي وأيامي. لم أكمل دراستي بسبب زواجي المبكر، فوجدت كل ما كنت أرغب في تحقيقه ببناتي. ولكن من زاوية أخرى، كنت تلك الأم التي تشعر بسعادة لدى إعدادها الطعام وتلقى المديح الذي أخذ يتسع من بناتي إلى الدائرة الخارجية، فكنت أسمع الإطراء فيما كنت أعدّ الطعام على طريقتي وبنَفَسي الخاص.
خجلي كان عاملاً إيجابياً بالنسبة إلي، فبعدما كنت أخجل من الاستفسار من أي أحد عن مكوّن لوصفة ما، كنت أبذل ما أملك من حسّ التذوّق لأحدد المقادير اللازمة. وفي المقابل، لم أتردد يوماً في نقل وصفاتي إلى صديقاتي اللواتي كنّ يطبّقنها، وهو أمر أشعرني بالرضى عن نفسي.
ومع الأيام، أصبحت أشارك في تدريب الفتيات على الطبخ. ثمّ انتقلت إلى مرحلة تدوين وصفاتي على الكمبيوتر، مع التمنّي بأن أتمكّن من ترجمتها بإخراج مناسب، غير أنني لم أحظَ حينها بالدعم والتشجيع، ورغم ذلك، عمدت على طباعتها وتجميعها على شكل كتيبات بأسلوب بسيط، ومع ذلك كانت مطلوبة في شكل كبير.
في هذا الوقت، بناتي يكبرن وقد بدأت أشعر بالفراغ مع غياب زوجي، طوال اليوم بحكم بُعد عمله من المدينة التي كنّا نعيش فيها حينها. وهذا الأمر دفعني إلى العمل في تجارة الحلويات وتحديداً المعمول والغريبه التي كنت أتقن صنعها بعد تمرّسي فيها طوال 17 عاماً، ولكنني التزمت السرية في تقديمها، خوفاً من كلام عنوانه العريض "لست بحاجة للمال"، وخوفاً من إحباطات قد تأتيني بهدف إخماد هذا الشغف والطموح.
أما مردود هذه الخطوة فكان الادمان على منتوجاتي. الفرحة لم تكتمل، فأمام هذه الرغبة الشخصية، كان هناك رفض مبدئي من زوجي بعدما صارحته، كنت قد استطعت جمع مبلغ من المال، لكنّه عاد ووافق ظنّاً منه أنّ هذا الشغف عمره قصير، وهو ما لم يحصل.
أخذ المشروع يكبر شيئاً فشيئاً وبات من أولوياتي، استمررت فيه سبع سنوات، لأتواجه من جديد مع زوجي انتهت بانصياعي لطلبه بأن أترك هذا العمل، فانقطعت ثلاث سنوات، وكلّي أمل حينها بالعودة إلى العالم الذي وجدت فيه نفسي.
مرت السنوات الثلاث وعدت إلى شغفي، لكنني هذه المرة قررت أن أدخل هذا المجال مطوّرة ذاتي، أدخلت أصنافاً جديدة من الحلويات وعملت في مجال التدريب من طريق السوشيل ميديا في "فايسبوك"، فأنشأت أول صفحة لي نشرتُ فيها منتجاتي وبات اسمي متداولاً. لم تكتمل الفرحة هذه المرة أيضاً، توقّفت قسراً بطلب من زوجي رغم محاولات من حوله بإقناعه بالعدول عن هذا الرفض، لكن من دون جدوى.
تابعت التدريب عن بعد ومن دون أي مقابل، رغبة منّي في نشر اسمي، فلربما هناك طريق للعودة. في بلدي لم يكن تمكين المرأة سهلاً، وكنّا نجد صعوبة في تحقيق أحلامنا.
توفي والدي، شعرت بوحشة العالم، ودخلت في مرحلة الاكتئاب بسبب فقدان الحبيب الذي لن يعوّض، كنت أتذكره دائماً وهو يحفّزني على العودة، ويشيد بإبداعاتي في فن الطبخ ويدعوني إلى عدم الاستسلام. قررت خوض التجربة للمرة الثالثة، دخلت مجال التدريب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعمدت إلى الترويج لمنتجاتي في آنٍ معاً، ولكن من تطوير للأداء المقدّم والاكتفاء بتطوير المنتجات. فأنا أتقن فنون الطبخ العالمي والمحلي، وبدأت أتلقى طلبات لتجهيز بوفيهات، وما ساعدني في هذا المسار أنّ والدتي لبنانية الأصل، فاكتسبت منها القدرة على تحضير البوفيهات الشرقية واللبنانية وأصبح لديّ مصنع صغير لإنتاج حلوياتي. شاركت في قاعات الأفراح ونقلت الصحف الداعائية خبر تعاوني مع قصر الأفراح كجهة رسمية لتقديم الطعام لديهم، كنت سعيدة جداً.
أمام هذه القفزة، حصل الانفصال عن زوجي بعد عام واحد من وفاة والدي. أسست بعد ذلك لنفسي معملاً لصنع حلوياتي، ونظّمت دورات لتدريب الفتيات على فنون الطبخ، الأمر الذي ساعد في توسيع دائرة معارفي، وكانت فرصة التعرّف الى شريكتي التي صادف أنها تحمل الشغف نفسه في حبها لعالم الطبخ، وها نحن نعمل اليوم في مجال تنظيم المهرجانات ولدينا مؤسسة خاصة أطلقنا عليها اسم "الأركان الثلاثة" هدفها مساعدة شبابنا ومساندة طموحهم.
لم أجد يوماً لليأس مكانة في حياتي، وها أنا أستعد لإصدار كتابي الذي يحمل اسم "لمسات بدور". عرضت عليّ إحدى دور النشر في البحرين تبنّي إصدار الكتاب الذي شارفت على إنجازه.
أصبحت أرى سعادتي في عيون الآخرين مع تحقيق طموحاتهم وأهدافهم، خصوصاً موضوع تمكين المرأة ومساندتها في تحقيق ذاتها. لقد بدأت مشروعي بدون رأسمال، واجهت الإحباط وباصراري وشغفي لم أتوقّف. أصبحت العروض تتهافت عليّ ونلت لقب الشيف من دون أن أخضع لأي دورة في هذا المجال. لم أتوقف عند هذا الحد، عززت موهبتي بدورات في تطوير الذات مواكبة ما أملك من موهبة، قدّمت مقابلات لمجلات عدّة وكنت ضيفة في برامج إذاعية. نعم لقد أصبح الحلم حقيقة، والشيف بدور لا تزال في البداية وأمامها الكثير لتتعلّمه وتنجزه.