انتقلتُ وعائلتي في أواخر الثمانينات إلى الرياض، بعدما كثرت زياراتي لمستشفى تخصّصي، حيث اكتشف الأطباء معاناتي مرضاً وراثياً جينياً يُسمّى طبياً "SMA" أي ضمور العضلات الشوكيّ أو الفقاريّ من النوع الثاني. هو مرض يُفقد الإنسان القدرة على الحركة تدريجاً، بسبب انحلال خلايا العضل المسؤولة عن تحريك الهيكل العظميّ وتماسكه.
ولأنّ الضمور ينشأ أولاً حول عضلات العمود الفقريّ والجذع بعامة، يسبّب تقوّساً شديداً في العمود الفقري ويزداد الأمر سوءاً إذا لم يتم التدخل الجراحيّ في وقت مبكر للتقويم.
لي ثلاثة أخوة يعانون المرض نفسه، وأنا أكبرهم. نلتُ نصيب الأسد في رحلة استكشاف المرض الذي ظهرت أعراضه الأولى منذ عامي الثاني. حينها، لاحظ والداي أنّني لم أتمكن من المشي كسائر الأولاد. شغلهم الاهتمام بحالتي الصحية، بخاصة قبل ولادة إخوتي. لم تكن هناك حالات مشابهة في العائلة، ولم يسمع أحد من أقربائنا أو من المجتمع المحيط بمرضٍ لم يكن معروفاً في ذاك الوقت.
هنا بدأت رحلة استكشاف المرض وخوض شتّى السبل للشفاء، بما فيها الطبّ الشعبيّ والكيّ وزيارة الشيوخ والرقاة، لكن بلا جدوى. إلى أن تم تحويلي إلى مستشفى الملك فيصل التخصّصي في الرياض، حيث اكتُشف المرض وشُخِّص. لم يفكّر والداي بتسجيلي في أي مدرسة أو روضة أطفال خوفاً عليَّ من الاختلاط بأطفال قد يسبّبون لي الأذى من دون علمهم بطبيعة مرضي، ولأنّ المدارس حينها لم تكن مُجهَّزة لاستقبال حالتي. راحا يعلّمانني الحروف الهجائية والأرقام حتى المئة باللغتين العربية والإنكليزية في المنزل، حتى جاء اليوم الذي زارتنا فيه إحدى نسيباتنا من سكان الرياض ودلّتنا على جمعية الأطفال المعوّقين. تمّ تسجيلي على الفور في القسم الابتدائيّ.
كان الذهاب يومياً إلى المدرسة يشبه الذهاب إلى أرض الأحلام. في البداية، وكطفلة صغيرة، فرحت بوجود أصدقاء بمختلف الحالات، فشعرتُ أنني لست المناضلة الوحيدة، بل أن هناك الكثيرين مثلي ومثل أخوتي.
كان يجذبني كذلك جمال تصميم البناء والألوان المبهجة المنتشرة في المكان، إلى الحدائق والممرات المجهَّزة لنا، ناهيكم بالاهتمام البالغ بصحة الأطفال. لكنَّ الحياة لم تكن سهلة، فخلال تلك السنوات، انتكست أوضاع أخي الصحية وأُصيب بفشل في التنفُّس فانقطع عنه الأوكسجين دقائق، مما أفقده النظر بعمر الثماني سنوات وعاش بعدها ثماني سنواتٍ أخرى، قبل أن يفارق الحياة.
ليس سهلاً أن تكون من ذوي الحاجات الخاصة ولديك أخوة صغار يشاركونك الحالة نفسها، فيرون فيك القدوة لهم. لكنّ الشيء الذي هوَّن تلك فترة هو وجود معلّمتي الرائعة بقربي. تلك الإنسانة التي كان لها الأثر في اكتشاف شغفي الكبير بالفنون والرسم.
شجّعتني وهيَّأت كلّ السبل الممكنة لتطوير هذا الشغف وصقله. شاركت في العديد من المسابقات للرسم، وكذلك أقامت لي أكثر من معرض، وساهمت في أن يُكتب عني في الصحف والمجلات. تعزّزت ثقتي بنفسي، وتعلّقتُ بهذه الهواية التي جعلتني أرسم طريقاً مشرقاً لمستقبلي، وأحاول نقل هذا الشغف لأخوتي.
تسجّلت في مدرسة متوسّطة من المدارس الحكومية العاديّة، فاختلفت عليَّ بيئة المدرسة اختلافاً جذرياً. كان عليَّ أن أتأقلم وأكوّن صداقات جديدة مع الفتيات "السويات" في سنّ المراهقة، حيث يكثر التنمُّر. ولكن، كانت رعاية الله تحتويني. استطعتُ إكمال تلك المرحلة بتفوّق برغم تدهور صحّتي. لم أستطع التسجُّل في المرحلة الثانوية بسبب ظروفي التي لم تسمح بتسجيلي في المدارس الخاصة، ففضّلتُ إكمال تعليمي بنفسي عبر الإنترنت.
صحيح أنّ الإعاقة حرمتني أشياء كثيرة، أهمها إكمال دراستي، وجعلتني حبيسة الفراش، لكنّني أعيش معتمدة على التنفّس الصناعي منذ عام 2015، إلا أنّ الله برحمته وحكمته وكرمه، عوّضني أكثر مما حُرِمت منه. فتجربتي جعلتني أؤمن بقدرتي على متابعة الحياة وتحدّي الصعاب مهما كانت، وألا أترك مكاناً لليأس في قلبي. كما رفعت ثقتي بنفسي، وعلّمتني أنّ "القناعة كنزٌ لا يفنى". جعلتني محنتي أدرك روعة الشعور الروحيّ الوحيد الذي لم يفارقني مهما قست الظروف، هو أنّ الله معي، وسيظلّ ما حييت.
جعلني اختلافي أومن أنّ أقوى لحظات المأساة وأقساها، ليست عقاباً إلهياً، بل هي تحدٍ يصقل الإنسان لمواجهة طوفان الأقدار بقلب من فولاذ. يستطيع أن يتلقى أقوى الطعنات من دون حتى أن يُخدَش.