خطأ طبي جعل "اللا مستحيل" مسألة عادية. في العام 1984، وُلدتْ تلك الطفلة من دون أطراف مع إصابة بمتلازمة فقدان الأطراف الأربعة Tetra-Amelia Syndrome. السيناريو الاعتيادي لقصة تبدأ مع إصابة مماثلة، يكون في الصعوبات التي يواجهها بطلها في الحياة، فضلاً عن التنمر الذي يعيشه في المجتمع، ناهيك بالإحباطات المتناهية والأحلام المجهضة. غير أن هذا السيناريو لم يكن ضمن حياتي. فأنا عائشة عبيد الشامسي، وفي الأسطر الآتية، سأرسم لكم قصة حياة شابة طموحة، حققت شيئاً من الإنجازات، ولديها الكثير لتنجزه بعد.
منذ نعومة أظفاري، شكّلت إرادتي - فضلاً عن دعم أهلي ومحيطي لي - تلك النقطة المشعّة في حياتي. إعاقتي الجسدية لم تحرمني من تحقيق أحلامي، فالرسم شغفي، والألوان عالمي، والخطوط ترسم دروباً تسافر بي إلى أجمل بقاع الأرض.
الأهل والمحيط شكلوا دفعاً لكي أطوّر نفسي وأحقق طموحاتي، لعبوا دوراً إيجابياً، ولم أشعر معهم للحظة بأنني من ذوي الحاجات الخاصة، بل أيقنت بأنهم بجانبي لمدّي بكل الدعم كي أكمل دراستي.
حكايتي مع الرسم بدأت منذ الصغر، ففي سنواتي الأولى سافرت إلى ألمانيا لتبدأ رحلتي في الاعتماد على النفس، بين الأجهزة الطبية والعلاجات الفيزيائية، وذلك بدعم من حاكم دبي السابق الراحل الشيخ سعيد بن راشد آل مكتوم.
درستُ في مدرسة تأسيسية للأولاد العاديين، في وقت لم تكن فيه المجتمعات العربية آنذاك داعمة لأصحاب الهمم. وبفضل جهود وزارة التربية والتعليم، تحقق الدمج. أكملتُ دراستي في جامعة حمدان الذكية، اللغة الإنكليزية.
من عمر الثمانية أشهر، كنتُ أزور مراكز متخصصة في ألمانيا حيث أخضعتُ لأنظمة علاج طبية وتعليمية، وهناك انتبهوا من طريقة مسكي القلم في فمي أو رجلي، إلى موهبتي في الرسم. وبمساعدة الاختصاصيين اكتسبت بعض المهارات بهدف استخدام القلم بواسطة فمي. أكملت دراستي في الإمارات، واليوم، وبعد سنوات من التدريب، أرسم بواسطة فمي بالفرشاة، مستخدمة أسناني ولساني لتثبيت حركة الفرشاة.
يوم ارتديتُ الرِجل الاصطناعية للمرة الأولى، شعرتُ بتحدٍّ كبير. لم أملك السيطرة على هذا الجزء من جسدي، فاخترتُ التخلي عنها، إلى أن وجدنا الملاذ في الكرسي الكهربائي منذ عمر العشر سنوات.
شيئاً فشيئاً، باتت الريشة صديقتي الدائمة. هكذا عملتُ على تطوير قدراتي في الرسم. اشتركتُ في دورات عدة وخضعت لأخرى في مراكز متخصصة إلى أن بدأت المشاركة في معارض. تطورتُ من الألوان المائية إلى الرسم بالأكروليك، ومن ثم الألوان الزيتية.
الامتحان الحقيقي كان حين استطعت أن أرسم لوحتين شخصيتين، الأولى لصاحب السمو حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل النهيان ولي عهد أبو ظبي، لأنهما عزيزان على قلبي ومدّا لي كل الدعم. ولولا دعمهما لما وصلتُ إلى ما أنا عليه اليوم. لا يمكن أن أغفل كل أدوات الدعم النفسي والمعنوي التي قدّماها لي.
تشبثي بحلمي وبمساعدة كل المحيطين بي جعلني أحقق كل ما أتمناه. وكل شخص حاول التنمر أو إيقافي عن التقدم كنت له بالمرصاد. والامتنان يبقى كبيراً لكل من وقف إلى جانبي لأحقق أحلامي. فالتنمر لم يكن يوماً مصدراً للانكسار. تعلمت منذ البداية أن أدافع عن نفسي. وإن لم يعجبني شيء، أنطق به مباشرة، فأنا لا أحب السكوت عن حقي.
الأهل هم المسؤولون بالمقام الأول عن تنمر أولادهم، ذلك أن الحماية المفرطة التي يعاملونهم بها وكأنهم يذكّرونهم دائماً بكونهم حالة خاصة ويخافون عليهم، فضلاً عن الدلع الزائد والتمييز عن إخوانهم في حد ذاتهما تنمّر، ولو لم يكن مقصوداً، لذلك يجب أن تكون التربية وكأن الشخص من ذوي الحاجات الخاصة عاديٌّ، يعامل كونه فرداً عادياً قادراً على المواجهة في شتى الظروف.