لم يكن استشهاد سمير قصير في 2 حزيران 2005 مجرد نزيف وضجيج ورماد، بل كان تحلّل هيكل وطن تنمو خلاياه كلّما أتى من يرمّم فكره... فلبنان البلد المنهك من الحروب والاغتيالات يتخلى بعد سبعة عشر عامًا عن الوضوح لقاء الضبابيّة والتبعيّة... كان لا بدّ أن يغتال سمير قصير... الصحافي اليساريّ الجامح في رغبته بالتغيير الجذري... القابض على فكرة تعبيد طرق الخلاص بالدمّ... لكنّ النزيف خانه فتحوّل من أمين إلى أمانة.
الإغتيال والمثقّف الممكن...
"ليس الإحباط قدرًا" سيصبح الحديث بشكل بديهيّ عن هذه العبارة حول الجماعة وتحديدًا الجماعة اللبنانيّة المكونة من الأفراد الذين يشكلون بطبيعة الحال سلسلة "متماسكة" من الأفراد المنضوين تحت العقد الاجتماعي، مهشّماً لبلد تعدديّ مثل لبنان... الجماعة التي ينبغي عليها أن تثور على الوصاية السوريّة آنذاك بشكل خاص وعلى الأحزاب الموالية لها والمرحّبة باستبدادها بشكل عام، لكن من الناحية اللغوية والتأويليّة تحديدًا، فإن قوله "ليس الإحباط قدرًا" وما يحمله من شموليّة، وإعطاء المعنى صيغة الكل من أل التعريف اللصيقة بـ"الإحباط " إن دلت على شيء فهي تدلّ على الرؤية الأبعد والأعمق للشهيد الذي كان أكاديميًّا قبل أن يكون ثائرًا. لم تكن ثورة سمير قصير ثورة قلب تمهّد إلى صوابيّة العقل، بل كانت محاولة صارخة لإرادة هيكلة العقل البشريّ لا سيّما اللبنانيّ بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وعلى اعتبار أن الإنسان هو حيوان سياسيّ وفقًا لأرسطو، فإنّ قصير من خلال عبارته هذه استعان بالإحباط الحالة المتوقع حصولها إزاء الاغتيال الأول عام 2005 ليكون مثقّفًا محرّضًا على كراهيّة الظلم والإقصاء وكم الأفواه والبلطجة. كانت عبارته الخبريّة ردًّا تأخّر ثلاثين عامًا تقريبًا على تماهي الشعب مع الوصاية وعلى توريث الرضوخ... فصاحب "تأمّلات في شقاء العرب " كان من الأكاديميين القلائل الذين قرأوا الواقع العربي من مختلف جوانبه لا سيّما الاجتماعي السلوكي بلغة بحثيّة صعبة وعميقة... كلّ ذلك كان عقب الاغتيال الأول الذي طال رئيس الوزراء والرجل اللبناني الأقوى بنفوذه ورمزيّته السياسيّة رفيق الحريري، إلا أن اغتيال سمير قصير كان بحد ذاته كباشًا بين الإحباط الذي حذّر منه وبين الثورة التي لم ينجح اللبنانيون في رسمها حتى يومنا هذا، كان اختبارًا لجيل شابّ يرهبه التروّي ويغويه الشارع... وإذا أردنا مقاربة مشهديّة الاغتيال السريعة والسهلة بشكل ثقافيّ، فلا بدّ لنا من العودة الى ما قاله إدوارد سعيد في أحد حواراته المنضوية في كتاب "الثقافة والمقاومة" : "... على المثقّف أن يعترض هنا ..."(بتصرّف) فإن لازمة الاعتراض رافقت المثقفين آنذاك بعد تشكل 14 آذار وتوالي الاغتيالات التي طالت جبران تويني /جورج حاوي وصولاً الى لقمان سليم... حيث انقسم "المثقفون" إلى فئتين: فئة المطلق وفئة الممكن، المطلق الذي ناصر عبارة سمير قصير ورفض العمل بمصطلح الإحباط والرضوخ له، والمثقف الممكن الذي داوى بالبراغماتيّة كل عوارضه إزاء رضوخه للإحباط... الإحباط المتمثل ببقاء المنظومة الفاسدة في سدّة الحكم وإجهاض الحراك التغييري في 17 تشرين 2019، هذا المثقف الذي خشي منه سمير قصير فقال "عودوا إلى الشارع، أيها الرفاق، تعودوا إلى الوضوح"!
ربيع دمشق وبيروت
كلمة ربيع لم تكن واردة في كلا العاصمتين، حيث الاقتتال والعنف والاستحواذ والتفريق، فأتى قصير وغيّر حالها فتحولت من مفردة الى رمز نحاول تطبيقه اليوم ولا ننجح، كان يدرك أننا بحاجة الى ربيع ينهي عواصف الحكم بالقوة، أن يزهر الربيع في بيروت ودمشق يعني أن يسقط الخوف وتعتلي الطرح والشك والتساؤل سدّة المجتمع. أن يزهر الربيع في بيروت ودمشق يعني أن تفتح السجون في دمشق فيخرج الموت والمقبل على الموت وأن تنسف الطائفية في بيروت، لم يكن سهلاً على قاتل سمير قصير أن يتقبّل هذه المقولة، وهو على عكس كل اعتقاد "عارف جدًا بأهميّة قتله" ، مخطئ من يعتبر أن قاتل سمير قصير تحديدًا كان لا يمتلك الحجّة أو الأداة النقديّة ليردّ على هذه التنظيرات المقلقة والمحرضة، فالقتل أيضًا ثقافة وإن كانت حججها ضعيفة ودنيئة، والقتل أيضًا نقد... لكنه بالنسبة إليهم استعمال مؤذ للمقصلة بدلاً من التشريح يأتي الطعن... بكل بساطة لهذا تناثر سمير قصير قرب منزله في 2 حزيران 2005، وكان القاتل ذكيًا بل نجيبًا، فعمل على جعل نزيف الصحافيّ الشاميّ فريسة للتخوين والصهينة، قد نسأم من عبارة "خافوه فأخفوه"، لكنّها بعيدًا عن الإيقاعيّة التي تحاوطها تعتبر حقيقة... فالفرق بين اغتيال سمير قصير وجبران تويني وقبلهما رفيق الحريري ساطع، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى عدم توفر النية للتقليل من أهمية الشخصيات ككل، فاغتيال قصير كان تتمة لمخطط يستهدف العصب المناهض للديكتاتوريّة، لكنه كان الأكثر قوّة، فتويني والحريري كانا ركنين مؤثرين، وجبران تويني كونه أحد أهم المؤثرين في النخبة المثقّفة لكنه كان جنديًّا ثوريًّا داخل قبّة الحكم، أمّا سمير قصير فكان حارس الشعب وواعظه وواحداً من المؤتمنين على إصلاحه وحثّه على النهوض، "عودوا إلى الشارع، أيها الرفاق، تعودوا إلى الوضوح"! ولعلّ اللهجة الآمرة الحاسمة في هذا القول، أرعبت من كان يتكلم باللغة السوداء ولغة التخوين، فما بقي أمامه الا اقتلاع رأس الثورة عن جسدها... فاغتيل سمير قصير.
اليوم وبعد سبعة عشر عامًا على اغتياله نحاول البحث عن ثغرات للثورة على كل ما وصلنا إليه من خراب، ما زلنا نفشل كوننا أسرى الوصوليّة والحكم والطموحات، ما زلنا عمالاً في قناة نحفر حولها لنصل إلى رغيف خبز أو حبّة دواء أو شمعة... لا ريب أن الاقتراع عام 2022 كان ثورة لكن المشهد يزداد ضبابيّة وسط كل الاستعراضات وكل الاحتفالات "الثوريّة "...ولو كان سمير قصير هنا سيقول ربّما ...فلنعد إلى الشارع... فلنعد الى ملكوت الوضوح.