حاول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان انتزاع تنازلات من روسيا والاتّحاد الأوروبّيّ في الوقت عينه، لمحاولة كبح تداعيات انعكاس الوضع الأمنيّ المتردّي في إدلب على بلاده. مع موسكو، وفي آخر معقل لمعارضي الرئيس السوريّ بشّار الأسد، شنّ هجوماً واسعاً ردّاً على مقتل 34 جنديّاً منذ أسبوع. ومع بروكسل، دفع قسماً كبيراً من اللاجئين السوريّين إلى الحدود مع اليونان، تمهيداً لدخولهم إلى أراضي الاتّحاد. على الضفّة الأولى، حقّق إردوغان وقفاً لإطلاق النار ومنطقة آمنة على جانبي طريق أم-4. أمّا على الضفّة الثانية، فالنتائج غامضة. لا يزال الاتّحاد الأوروبّيّ يدرس خياراته تجاه أزمة اللجوء، لكنّه ينتظر في المقابل نتائج التفاوض الروسيّ-التركيّ.
امتعاض أوروبّيّ.. ماذا بعد؟
دعا الاتّحاد الأوروبي الجمعة اللاجئين إلى عدم التوجّه صوب أوروبا. وقال وزير خارجيّته جوزيب بوريل: "أودّ أن أوصل رسالة واضحة: لا تذهبوا إلى الحدود. الحدود ليست مفتوحة." وأكّد الاتّحاد في اجتماع لوزراء خارجيّته أمس الجمعة في زغرب "قلقه البالغ من الوضع على الحدود اليونانيّة-التركيّة" مضيفاً أنّه "يرفض بشدّة استخدام تركيا المهاجرين وسيلة ضغط لتحقيق أغراض سياسيّة." وانتقد رئيس الوزراء اليونانيّ كيرياكوس ميتسوتاكيس مساء الجمعة دور أنقرة مشدّداً على أنّ "تركيا لن تبتزّ أوروبا بهذه المشكلة."
من جهتها، قالت الرئاسة الفرنسيّة أمس إنّ الاتّفاق بين بوتين وإردوغان يتضمّن "عدداً من النقاط الغامضة، ومسائل يصعب التعامل معها، خصوصاً بشأن الانسحاب من الطرق الدوليّة أم-4 و أم-5 وحديثاً عن دعم سياسيّ وإنسانيّ... لا وضوح بشأن ترتيباته." لكنّ الامتعاض الأوروبّيّ من سياسة إردوغان أو من الاتّفاق الجديد بين الرئيسين الروسيّ والتركيّ لا يتبلور من خلال خطّة واضحة لبروكسل.
الصعوبات أمام أوروبا
في وقت تنصرف أوروبا لمعالجة شؤونها الداخليّة مثل التفاوض مع المملكة المتّحدة حول مرحلة ما بعد "بريكست" ومواجهة تداعيات انتشار فيروس "كورونا" في دولها وخصوصاً في إيطاليا، لن يقبل الأوروبّيّون بموجة جديدة من اللاجئين ستحفّز انتشار اليمين المتطرّف. وأدّت الظاهرة الأخيرة إلى زعزعة الاستقرار السياسيّ خصوصاً في ألمانيا، حيث لا تزال المستشارة أنجيلا ميركل تعاني من تراجع شعبيّة حزبها، ومن انهيار مستقبل خليفتها أنيغريت كرامب-كارنباور.
من جهة ثانية، برز خلاف بين الدول الأوروبّيّة نفسها سنة 2016 حول مسألة استقبال اللاجئين تحديداً في بولونيا والمجر وتشيكيا. علاوة على ذلك، قد ينفر الأوروبّيّون من توقيع اتّفاقيّة جديدة مع تركيا كاتّفاقيّة 2016، بما أنّ تركيا كانت تهدّد دوماً بالتراجع عنها، حتى قبل الهجوم على إدلب. ولدى الأوروبّيّين ما يكفي من المشاكل الأمنيّة والنفطيّة مع الأتراك في ليبيا وشرق المتوسّط، لكي يكونوا على استعداد للتنازل بسهولة عن موقفهم بعدم استقبال مزيد من اللاجئين.
حتى امتناع اليونان وبلغاريا عن استقبال اللاجئين ليس مستداماً كما أنّه ليس متوافقاً مع قوانين الاتّحاد الأوروبّيّ التي تمنع الإعادة القسريّة بناء على حظر إعادة أيّ شخص إلى بلد يمكن أن يواجه فيه خطر الاضطهاد، وفقاً لما أوضحته "ذي اندبندنت".
في هذا الوقت، هل بإمكان الاتّحاد الأوروبّيّ الاعتماد على الولايات المتّحدة للضغط على تركيا كي تعيد منع اللاجئين من التوجّه إليها؟
"ضوء أخضر أميركيّ"
إذا لم تتمكّن واشنطن من التدخّل بشكل يقلب موازين القوى في إدلب، أكان عبر تدخّل عسكريّ أو عبر إرسال بضع بطّاريّات صواريخ "باتريوت" على الأقلّ، فستنقصها وسيلة الضغط لإجبار تركيا على إيقاف إرسال اللاجئين إلى أوروبا. يأتي ذلك في وقت لا تمرّ العلاقات العابرة للأطلسيّ بأفضل أحوالها.
أبعد من هذه المعادلة، يتّهم بعض المراقبين الإدارة الأميركيّة بإيصال الوضع إلى ما هو عليه اليوم. ينطلق هذا الافتراض من واقع أنّ إردوغان لم يستطع ممارسة الضغط أو "الابتزاز" على الأوروبّيّين بشأن قضيّة اللاجئين، إلّا لأنّ ترامب سحب قوّاته من أمام التوغّل التركيّ في شمال سوريا حيث تقطن الغالبيّة الكرديّة في تشرين الأوّل الماضي.
هذا هو رأي الكاتبة في شؤون أوروبا إيفيتا شرنيفا وقد نشرته في موقع شبكة "يواركتيف" الأوروبّيّة. شرنيفا، مؤلّفة كتاب "ترامب، الأمن الأوروبّيّ وتركيا"، كتبت أنّ بيان البيت الأبيض في 6 تشرين الأوّل الماضي، أعطى "الضوء الأخضر" للتوغّل التركيّ في سوريا، كما ل "ابتزاز" أوروبّا اليوم عبر اللاجئين. وتحذّر من أنّ الاتّحاد الأوروبّيّ لا يحتاج إلى "الملايين" من اللاجئين الذين توعّد إردوغان بإرسالهم إلى أوروبّا، إنّما سيكفي بضعة آلاف منهم وبضعة ضحايا "لإنجاز ما ينوي عليه إردوغان – إذلال أوروبا."
ماذا عن المسؤوليّة الأوروبّيّة؟
إلقاء اللوم على ترامب لا يعفي الأوروبّيّين من المسؤوليّة. إذا كانت شرنيفا تلوم أوروبّا لأنّها لم تأبه لمصير الأكراد عندما قامت تركيا بالتوغّل شمال سوريا، فإنّ آخرين يلومونها لأنّها لم تتوقّع وتستعدّ لموجة ثانية من اللجوء علماً أنّها أعطيت مهلة خمس سنوات لفعل ذلك. لخّص الكاتب السياسيّ في شبكة "بلومبيرغ" أندرياس كلوث هذه المعضلة بأنّ أوروبّا لم تتابع عمليّة إصلاح آليّة طلب اللجوء التي تقضي بأن يملأ طالب اللجوء الاستمارة القانونيّة فقط في الدولة الأولى التي تطؤها قدماه ما يعني عادة تحمّل اليونان وإيطاليا الضغط الأكبر.
ويرى أنّ على ألمانيا ودول أخرى متابعة استقبال الوافدين الجدد ومنع المهاجرين غير الشرعيّين من دخول أراضيها، كما عليها اتّباع سياسة "العصا والجزرة" مع الدول-الأم للّاجئين حيث يمكنها تقديم محفّزات تجاريّة واستثماريّة للحكومات التي تعيد استقبال أبنائها اللاجئين.
في ظلّ هذه المعمعة، أصدر إردوغان أمس الجمعة قراراً قضى بمنع خفر السواحل للمهاجرين من تركيا، من عبور بحر إيجه. إلى الآن، تبدو القواعد مطبّقة على المهاجرين الذين يعبرون بحر إيجه "بسبب ما يتضمّنه ذلك من مخاطر." بحسب جهاز خفر السواحل. ونقلت عنه وكالة الأناضول قوله: "المقاربة المتمثّلة بعدم التدخّل لمنع المهاجرين من مغادرة تركيا لا تزال معتمدة، باستثناء أولئك الذين يريدون المغادرة عبر البحر بسبب المخاطر."
فهل يجسّد هذا الأمر بادرة ضمنيّة تؤشّر إلى استعداد للتفاوض مع جيرانه الأوروبّيّين؟