"تضمّ حكومة روحاني (الأولى) أكبر عدد من الوزراء الذين تعلّموا في الولايات المتّحدة (بالمقارنة مع) أيّ حكومة أجنبيّة. يتحدّث معظم الديبلوماسيّين الإنكليزيّة ويمكن أن يكونوا قد عاشوا أو تعلّموا في الولايات المتّحدة أو أوروبا. وكما يحبّ الديبلوماسيّون الغربيّون غالباً الإشارة إليه بطريقة ساخرة، فإنّ أكثر الديبلوماسيّين الإيرانيّين تشدّداً حتى، مثل مفاوض أحمدي نجاد الرئيسيّ للشؤون النوويّة سعيد جليلي، يحبّون إظهار إتقانهم للثقافة والحضارة الغربيّتين عبر الاقتباس من أمثال توما الأكويني والإشارة إلى جورج ويلهلم فريديريش هيغل. على الرغم من هذا، يواصل المسؤولون والديبلوماسيّون الإيرانيّون المتدرّبون الإعراب عن اهتمامهم بروسيا، مع أنّه بدرجة أقلّ من (اهتمامهم) بالغرب."
يمكن أن يقدّم هذا الاقتباس من كتاب "المحور الثلاثيّ: علاقات إيران مع روسيا" (2019) لمؤلّفتيه دينا إسفندياري وآريان طبطبائي صورة مغايرة عمّا هو سائد بالنسبة إلى نظرة المسؤولين الإيرانيّين إلى الحضارة الغربيّة. لكنّ إسفندياري الباحثة في مؤسّسة الرأي "سنتشوري فاوندايشن" الأميركيّة، وطبطبائي الباحثة في "صندوق مارشال الألمانيّ للولايات المتّحدة"، هدفتا في كتابهما إلى تذكير القرّاء بأنّ إيران تتّبع البراغماتيّة في علاقاتها الخارجيّة بما يوازي وأحياناً بما يفوق اتّباعها المسائل الآيديولوجيّة، بما فيها تلك الدينيّة أو القوميّة.
البراغماتيّة عوضاً عن الإيديولوجيا
لا شكّ في أنّ مناهضة الولايات المتّحدة تؤدّي الدور الأبرز في جمع هذه القوى الثلاث. تهتمّ إيران بأن تكون اللاعب الأقوى في الشرق الأوسط، فيما لدى روسيا والصين طموحات عالميّة، على صعيد تحجيم التفوّق الأميركيّ العالميّ وتكريس نظام دوليّ متعدّد الأقطاب. "خلطة" الأهداف هذه تشكّل نظريّاً بيئة مثاليّة للتعاون بين هذه الدول. وهذا ما اعتقده المسؤولون الإيرانيّون في بداية المطاف.
فحين زار الرئيس الإيرانيّ الأسبق هاشمي رفسنجاني بيجينغ سنة 1992، اقترح فكرة إنشاء محور بين هده القوى، إضافة إلى باكستان، لمواجهة الولايات المتّحدة. "لكنّ الصينيّين لم يكونوا مستعدّين للانخراط في هكذا مبادرة"، من دون الانغلاق عل فكرة فتح نقاش حول الموضوع، بحسب ما يوضح الكتاب.
صحيح أنّ العالم شهد تبدّل الكثير من العوامل وبشكل جذريّ منذ 1992. لكنّ فترة تقارب ثلاثين سنة من التعامل المتبادل بين إيران وروسيا من جهة وإيران والصين من جهة أخرى (لم يتناول الكتاب العلاقات الروسيّة-الصينيّة) لم تُسقط كلّ جدران الخلافات التاريخيّة والسياسيّة. يمنع هذا الواقع تطوير العلاقة الثلاثيّة لتصل إلى مستوى الحلف.
"زواج مصلحة"
تلفت الكاتبتان النظر إلى الحساسيّات التي نشأت عن الحروب بين إيران القاجاريّة وروسيا القيصريّة أوائل القرن التاسع عشر والتي انتهت بخسارة كبيرة للقاجاريّين وبتوقيعهم معاهدتي كولستان وتركمنجاي. دفعت المعاهدة الأخيرة تحديداً الفرس إلى خسارة أراض عديدة في داغستان وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان. "معاهدة تركمنشاي كانت كارثيّة لدرجة أنّه لهذا اليوم، هي تستمرّ بالرمز إلى الهزيمة، خسارة وحدة الأراضي، والمهانة في إيران" إضافة إلى أنّ الإيرانيّين يصفون الإخفاقات الحديثة في السياسة الخارجيّة بأنّها "تركمنشاي المعاصرة."
لا يعني ذلك أنّه ليس لدى روسيا حساسيّات تاريخيّة إزاء إيران، وأهمّها قتل الحشود الإيرانيّة الغاضبة من توقيع المعاهدة الموفد الروسيّ ألكسندر غريبوييدوف في طهران إلى جانب 37 من زملائه سنة 1829.
وفي أواخر القرن الماضي، نظرت إيران بريبة إلى موسكو بعد دعمها العراق في حربه معها. وارتاب الروس مجدّداً من الإيرانيّين لأنّهم يبلغوهم بتخصيبهم السرّيّ لليورانيوم في منشأتي ناتانز وفوردو ولم يعلموا بهذه الأخبار إلّا عبر الاستخبارات الغربيّة أوائل الألفيّة الحاليّة. جاء ذلك في وقت كانت روسيا هي المؤمّن الأساسيّ للتكنولوجيا النوويّة. من ناحية أخرى، لم يستسغ الإيرانيّون تأخّر الروس في بناء منشأة بوشهر النوويّة وتباطؤهم في بيع منظومة "أس-300" الصاروخيّة.
تفسّر هذه الخطوات وغيرها تذبذب العلاقات بين روسيا وإيران. ويمكن على ضوء ذلك، فهم أسباب الحساسيّة الكبيرة التي شعر بها الإيرانيّون حين أعلنت روسيا عن استخدامها منشآت قاعدة نوجه الإيرانيّة لتسهيل المشاركة في الحرب السوريّة، بالرغم من تقاطع مصلحتهما. من ناحية ثانية، ترى الكاتبتان أنّ العلاقات بين روسيا وإيران في الشرق الأوسط هي مسألة "ملاءمة أكثر من كونها (مسألة) قناعة"، ووصفتاها بأنّها علاقة "شراكة اشتباه" متبادل و "زواج مصلحة".
العلاقات مع الصين أفضل... نسبيّاً
بالمقابل، تخلو العلاقات الصينيّة-الإيرانيّة من حساسيّات تاريخيّة كهذه بالنظر إلى بعديهما الجغرافيّ وندرة تشاركهما الحدود خلال عصور الإمبراطوريّات. بل إنّ عودة إلى التاريخ القديم تظهر أنّ إيران الأخمينيّة أقامت علاقات ديبلوماسيّة وتجاريّة مع سلالة هان الصينيّة في القرن الأوّل قبل الميلاد. ومع الفتح العربيّ في القرن السابع، هرب أعضاء من العائلة المالكة من بلاد فارس إلى الصين. وتواجهت الصين مع إيران، حين كانت تحت الحكم العبّاسيّ، في معركة طلاس، سنة 751. كانت هذه هي الحرب الأولى والأخيرة بين الطرفين.
مع ذلك، لم تكن العلاقات الإيرانيّة-الصينيّة دائمة الاستقرار في العقود الأخيرة، فاعتمدت بيجينغ سياسة مزدوجة كداعمة وكمعرقلة للعلاقات الإيرانيّة-الغربيّة وفقاً للباحثتين. وبيجينغ ترى في طهران شريكاً سياسيّاً لصدّ قوّتين مهيمنتين: واشنطن وموسكو. وكما كانت الحال مع روسيا التي ارتابت أوائل الألفيّة الحاليّة حين أعلن الرئيس محمّد خاتمي "حوار الحضارات" بما أنّه أمكن أن يعني تقارباً مع الغرب على حساب الروس، كذلك، برزت هذه الحسابات لدى الصين.
واعتمدت بيجينغ لغة تصالحيّة مع واشنطن في ذلك الوقت، فوافقت على تعليق بيع التجهيزات العسكريّة والتعاون النوويّ مع طهران. وتضيف الكاتبتان أنّ الإيرانيّين نظروا إلى الصين، كما إلى روسيا، على أنّها شريك "غير موثوق به". وأسّست بيجينغ نفسها مع مرور الوقت في عدد من القطاعات الإيرانيّة لكن مع تطوير علاقاتها بالسعودية توازياً.
بالفعل، مع فرض العقوبات على إيران، أصبحت السعودية المصدر الأوّل للصادرات النفطيّة إلى الصين في سنة 2019. وكما كان الأمر مع روسيا، كذلك، عانت إيران من تأخّر الصين في تسليم عدد من المشاريع في الوقت المحدّد، لذلك اضطرّت إلى إلغاء بعض العقود.
تفوّق روسيّ-صينيّ... ولكن
على الرغم من عدم استقرار العلاقات بين إيران وكلّ من روسيا والصين، وعلى الرغم من أنّ هذه العلاقات لم تصل إلى مستوى الحلف، قرّرت هذه الدول بناء روابط مبنيّة على البراغماتيّة. ساعدت في ذلك مجموعة من المصالح المشتركة من بينها مواجهة الولايات المتّحدة. أدركت إيران أنّها بحاجة لكلتا الدولتين لمواجهة العقوبات الأميركيّة ولحمايتها في مجلس الأمن الدوليّ، وهذا ما فعلتاه – وإن بشكل غير دائم.
تحمي بيجينغ وموسكو طهران من العزلة الكاملة وتؤمّنان لها دعماً سياسيّاً ومساعدة دفاعيّة وروابط اقتصاديّة "لا يمكنها الحصول عليها من أيّ مكان آخر". كذلك، استفادت القوّتان الكبيرتان من دخول قطاعات إيرانيّة حيويّة. الأهمّ أنّ الدولتين، وعلى عكس الدول الأوروبّيّة، أصبحتا على تماس وإدراك بالبيئة الاستثماريّة والصناعيّة في إيران. لذلك، وبمجرّد رفع العقوبات عن طهران، ستتمتّع شركات الدولتين بأفضليّة كبيرة على الشركات الأوروبّيّة في العودة إلى الأسواق الإيرانيّة بفعل خبرتها. لكن هنالك مشكلة أضاءت عليها إسفندياري وطبطبائي.
إنّ الاهتمام الإيرانيّ الذي أبداه الديبلوماسيّون الإيرانيّون بالغرب لا ينحصر بكسب معارفه الثقافيّة والفلسفيّة. اندرج أيضاً في إطار توق طهران إلى الاستفادة من تقنيّاته وخبراته واستثماراته التي لا تستطيع أقرب دولتين إليها، روسيا والصين، أن توفّراها دوماً إليها. فالأخيرة ترى أنّ السلع والتقنيّات التي تقدّمها موسكو وطهران هي أدنى جودة من تلك التي يقدّمها الغرب. وهذه النظرة غير محصورة بالسلطات بل هي منتشرة بين المواطنين الإيرانيّين أيضاً.
فبين 2005 و 2015 تقريباً، عانت إيران من سلسلة حوادث لتحطّم طائرات مدنيّة روسيّة ممّا أدّى إلى مقتل حوالي 600 إيرانيّ. وكان أحد أبرز أهداف التوقيع على الاتّفاق النوويّ، إدخال شركات مثل "إيرباص" و "بوينغ" إلى قطاع الطيران التجاريّ الإيرانيّ. كذلك، وبما أنّ الإيرانيّين كانوا مرتابين من روسيا كشريك في تطوير المنشآت النوويّة، أرادوا كسر الاحتكار ودعوة الصين إلى هذا القطاع بعد الاتّفاق النوويّ.
خيبة أمل
ظنّ الإيرانيّون أنّ "خطة العمل الشاملة المشتركة" ستوفّر فرصة للاستثمارات الغربيّة. لذلك، سارع مسؤولون إيرانيّون إلى القول إنّه حان الوقت لتوفير فرص للغربيّين بعدما نال الصينيّون سابقاً نصيبهم منها. حتى أنّ بعضهم توقّع تباطؤ العلاقات التجاريّة مع بيجينغ بدءاً من سنة 2017، بفعل ارتفاع وتيرتها مع الأوروبّيّين. خاب أمل إيران في نهاية المطاف، حتى قبل مجيء ترامب إلى الرئاسة الأميركيّة. فالشركات الأوروبّيّة كانت بطيئة في دخول السوق الإيرانيّة بسبب خوفها من تقلّص معايير الشفافيّة في تلك الأسواق إضافة إلى غموض القواعد التنظيميّة وتشابكها.
هكذا كان على إيران أن توازن بين رغبتها بالانفتاح على الغربيّين وعدم الابتعاد عن روسيا والصين لئلّا تغرق في عزلة كاملة عن العالم. تناوئ جميع هذه الدول النظام الليبيراليّ الذي قادته الولايات المتّحدة منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية، والذي لم يكن لديها مساهمة في بنائه. لكنّها ليست قوى تنقيحيّة بالمعنى الواسع للكلمة. فإيران تدرك حدود قوّتها، فيما الصين وروسيا أقرب إلى احترام مؤسّسات هذا النظام حين تخدم مصالحها ورفضها حين لا توفّر هذه المزيّة، علماً أنّ قدرتيهما على نقض هذه المؤسّسات ليستا متساويتين. ففيما تملك الصين إمكانات أكبر من روسيا، لا تُظهر الأولى طموحات في ذلك بالمقدار الذي تبديه روسيا وفقاً للكتاب عينه.
ضمن هذه المعادلة المطّاطة وتاريخ الروابط غير المستقرّة، تتحرّك العلاقات الثلاثيّة. أمّنت الصين وروسيا الكثير لإيران على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ كما على صعيد البنية التحتيّة، ولا تزالان – إلى حدّ ما. زار الرئيس الصينيّ شي جينبينغ إيران في كانون الثاني 2016، بعد أيّام من التوقيع على الاتّفاق النوويّ، متعهّداً رفع التبادل التجاريّ إلى 600 مليار دولار خلال العقد التالي، وهو رقم "متفائل" بالنسبة إلى الكاتبتين، ولم يؤدّ إلى دفع العلاقات الثنائيّة نحو مستوى الحلف. ويمكن قول الفكرة نفسها عن آخر زيارة قام بها الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين إلى إيران في تشرين الثاني 2017. في هذا الوقت، يزداد غياب الاستقرار الروسيّ-الإيرانيّ في سوريا مع ترسّخ العلاقات الروسيّة-الإسرائيليّة.
ماذا عن المستقبل؟
تعتقد الكاتبتان أنّ العلاقات البراغماتيّة تعني أنّ روسيا والصين لن تتخلّيا عن إيران بسبب سجلّها المرتبط بحقوق الإنسان أو بسبب تدخّلاتها "الإشكاليّة" في المنطقة على سبيل المثال. "لكن، من جهة أخرى، إنّها تعني أنّ روسيا والصين لن تتردّدا كلتاهما بالابتعاد عن إيران، إذا لم تعد الروابط الاقصاديّة، السياسيّة و/أو العسكريّة مفيدة لهما." ومع ذلك، رأتا أنّ عزل إيران بات أصعب اليوم بالنظر إلى علاقاتها مع الصين وروسيا.
بعد سنة وبضعة أشهر على هذا التوقّع، ثمّة متغيّرات يمكن أن تقلّص من هذه الثقة بعدم قدرة واشنطن على عزل إيران أكثر فأكثر. فالصادرات النفطيّة الإيرانيّة انخفضت بحوالي 90% وقد أبدت الصين التزاماً كبيراً وإن لم يكن كاملاً بتخفيض كمّيّات الواردات النفطيّة. فيما يناسب روسيا انخفاض صادرات النفط الإيرانيّ إلى أوروبا كي تحتفظ بالحصّة الأوسع من هذه السوق. كما خاب أمل موسكو من انخفاض المنفعة بالنسبة إلى صادرات الأسلحة إلى إيران. وسيزداد هذا الأمر مع انخفاض إمكانات إيران الماليّة بمرور الوقت.
في هذه الأثناء، تبقى العلاقات التجاريّة بين موسكو وطهران منخفضة بشكل كبير. ولم تَحُل علاقاتها مع الطرفين دون اضطرارها إلى طلب قرض بقيمة 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدوليّ لمحاربة فيروس "كورونا" لكن من دون جدوى. وكان مسؤولون إيرانيّون قد اشتكوا من أنّ الصين تحوّل بلادهم إلى "زبون أسير". لكنّ طهران تدرك أنّها لا تستطيع الابتعاد عن بيجينغ، وقد برهن ذلك استمرار تسيير الرحلات الجوّيّة إلى الصين على الرغم من فيروس "كورونا" وإثارة هذه الخطوة لخلافات بين المسؤولين الإيرانيّين.
يضاف إلى كلّ ذلك أنّ الأطراف الثلاث تستخدم بعضها كورقة مساومة إزاء الأميركيّين. فكلّما ازداد الضغط الأميركيّ على هذه القوى تقرّبت أكثر من بعضها البعض، والعكس صحيح. وإذا كانت الحرب الإعلاميّة الحاليّة بين واشنطن وبيجينغ، وانسحاب واشنطن من "معاهدة السماوات المفتوحة يمكن أن يريحا إيران نسبيّاً في الأسابيع القليلة المقبلة، فإنّ مصادر القلق لن تكون منعدمة. قد يكون المحكّ المقبل لهذه العلاقات سعي واشنطن إلى إطلاق آليّة الزناد لإرجاع العقوبات الأمميّة على طهران. ستراقب الأخيرة كيفيّة وجدّيّة دفاع روسيا والصين عنها في المحافل الدوليّة. مراقبةٌ ستكون ممزوجة على الأرجح بتوتّر كبير.