"مشكل بين عين الرمانة والشياح"..."انتبه ما تقرب على خط صيدا القديمة". عبارتان طبعتا في ذاكرتي منذ الانتقال للسكن في منطقة الشياح قبل نحو 20 عاماً، بالقرب من خط التماس الفاصل بين "قلعة الصمود عين الرمانة"، و"الشياح الأبية".
عند كل حدث ذي طابع طائفي في البلد، تتجه الأنظار تلقائياً إلى عين الرمانة والشياح، احتكاكات متنقلة بين الشارعين الأبرز (أسعد الأسعد من جهة الشياح، ومحمصة صنين من عين الرمانة)، نقطة عرفت على مرّ العقود الماضية اشتباكات سقط خلالها مئات القتلى والجرحى، بعدما كانت تغطي المنطقة أشجار الحمضيات والرمان، أصبحت في فترة الحرب إلى ذراع اليمين المسيحية، وبوابة العروبة من الجهة المقابلة، وقلعة حركة "أمل" لاحقاً.
قصص كثيرة تسمعها طول مدة سكنك في المنطقة، منها ما سمعته من جدّي الذي شهد تطور تلك المنطقة منذ اندلاع الحرب حتى نهايتها، يخبر مثلاً كيف كان للنمور حاجز عند نقطة صنين، وكيف كانت ترتفع السواتر الترابية والستائر على طول الشارع منعاً من رصاص القناص، في المقابل كانت تدور روايات عن القذائف العشوائية والسواتر لمحاربة "الغريب"، "إذا سقطت عين الرمانة سقط لبنان".
قصص قاسية تروى بين الطرفين نشأت عليها، روايات تحاكي تحول عين الرمانة من مقصد للمثقفين في خمسينيات القرن الماضي يرتاده جميع ابناء الوطن الواحد، لتصبح معادلة عين الرمانة مقابل تل الزعتر هي المعادلة الذهبية بعد انطلاق أحداث 1975.
بعيد الحرب هدأت أصوات المدافع، وعادت الحياة إلى طبيعتها لدى الجارتين اللدودتين، أصبحت المحال تفتح أبوابها بشكل طبيعي والمباني بمعظمها رممت ما عدا بعضها مما بقي شاهداً على ما قام به "جيران" في العقود الماضية، ومع مرّ السنين تحوّلت السواتر الترابية إلى متاريس وهمية في عقول الأهالي. أذكر جيداً كيف كان الأصدقاء ينصحونني "انتبه انت ورايح على المدرسة بعين الرمانة"، "ما تفتح مشاكل هونيك".
الانقسام الأبرز كان خلال فترة تظاهرات 8 و14 آذار، ومع الوقت وبعيد غزوة الأشرفية 2006، ومع سقوط شاب في عين الرمانة برصاص نتيجة الاحتفال بانتخاب الرئيس نبيه بري لرئاسة مجلس النواب، بعدها سقط شاب من الشياح برصاص الابتهاج بإقرار قانون العفو عن رئيس حزب القوات سمير جعجع... اشتدت حينها التوترات الأمنية بين المنطقتين ولكن دائماً ما كانت تقتصر على مناوشات محدودة تنتهي بانتشار الجيش وتدخل الأحزاب بسرعة من "الجبهتين".
في الفترة تلك افتتح Beirut mall، في الشياح، أصبح مقصداً لشباب عين الرمانة والشياح معاً، تحول المتجر الكبير، إلى ملتقى للعشاق بين الطرفين، ومقصداً لمحبي الموضة، لتصبح السوبرماركت داخله وجهة لنساء عين الرمانة، فالعروضات حينها كانت عامل جذب مهماً لهن.
عاشت تلك المنطقة حينها فترة "ذهبية" من الانفتاح، خصوصاً مع انتشار الجيش اللبناني على طول الخط الفاصل، وضبط كلا الطرفين لشارعهما بشكل كبير، وتحوّلت إحدى حدائق عين الرمانة ملتقاً لعشاق الشياح، وأصبح شبانها يدخلون لشرب البيرة بأريحية، لا بل أصبحوا يتبادلون السياسة فاتفاق "مار مخايل" وحرب تموز كانا من أبرز الأحداث حينها.
مرّت السنوات وزادَ الانقسام السياسي في البلد وبطبيعة الحال كان له تأثيره المحدود على المنطقة، ولكن بقيَت الاستفزازات المتبادلة موجودة، إلا انها لم تتطور إلى إشكالات (عين الرمانة - الشياح) ترسخت بالدم في ذاكرة أهل المنطقة، وكأن كل طرف يعرف ضمنياً أن الاشكال مع الجهة المقابلة ممنوع، لا سيما لجيل عايش الفترة السابقة أو اقله سمع من أهله ما شهدته تلك الأبنية وكم من شهيد سقط بلا سبب فقط لأنه قرر اجتياز مثلاً الشارع أثناء وجود القناص من الجهة الأخرى، وكيف كان يتفنن القاتل بتأخير وصول الإسعاف، لتندلع بعدها معركة شرسة بلا أي سبب.
بعد انتهاء الحرب الأهلية (ليس فعلاً)، بقيت الإشكالات تحصل في محطات عدة، بعضها بسبب مقطع فيديو، وآخر بسبب لعبة "بوكر"، أو استفزاز لسائقي الدراجات النارية، ولكن تلك المناوشات سرعان ما كان يتم احتواؤها، ليطغى الهم المعيشي والمصالح المشتركة. فنسبة كبيرة من أهل الشياح وجدت بعين الرمانة ملاذاً آمناً (أكان عبر احتساء المشروب أو زيارة النوادي الرياضية ذات الخدمات الجيّدة، أو عبر ملعب كرة السلة، والتجمعات التجارية، في المقابل وجد أبناء عين الرمانة في الشياح مقصداً لشراء الحاجات والتبضع وتصليح السيارات بأسعار تنافسية). جميع تلك المغريات المتبادلة والهدوء يمكن أن يتلاشى عبر استفزازات سرعان ما تحوّل المنطقة بسحر ساحر، إلى منطقة عسكرية... انتشار كثيف للجيش وكلّ الأجهزة الأمنية والحزبية، وظهور السلاح في الجبهتين، كأنّ كلّ طرف يقول للآخر "ما تجربونا".
من يتنقّل بين المنطقتين ويعايش تاريخهما ويستمع إلى قصص المعارك الشرسة، وكيف أن معارك عدّة اندلعت فقط لأن أحد المقاتلين تلقى أوامر بضرورة فتح جبهة "عين الرمانة - الشياح"، وكيف قبل أشهر انتشر محازبون بأسلحتهم مانعين مناصريهم من "اجتياز الخطوط الحمر"، يدرك جيداً أنّ المنطقة خلعت عنها ثياب المعركة، وبقيت الأحزاب صاحبة الكلمة الأخيرة، ولكن في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة والضغوط على المواطن اللبناني، يمكن أي تصرف أرعن أن يحرك النفوس الهادئة هناك، وهذا ما لا نريده، أقلّه نحن الجيل المؤمن بلبنان الجديد، لكي لا تعود عبارات "عين الرمانة ما بتركع، والشياح ما بتنزاح" هما لغة الحوار.