النهار

الأرثوذكس و"لبنان الكبير": هكذا تُبنى الأوطان! (1)
A+   A-

"ليش وين بعد في أرثوذكس ببيروت"... سؤال طرحه أحد "السّياسيين" في بلادنا منذ زمن ليس ببعيد، اعتبره البعض موقفاً في السّياسة فيما اعتبره البعض الآخر سقطةً وزلّة لسان. هكذا أسئلة إنّ دلّت على شيء، فعلى عدم اطّلاع من أطلقها على دور الأرثوذكس في نشوء الكيان السّياسي للبنان، إذ إنّ الجواب موجود ومؤرّخ منذ قرنٍ من الزمن يوم أطلق أعيان الطّائفة الأرثوذكسية موقفهم التّاريخي حول دور هذا المكوّن (أي الأرثوذكس) في الكيان النّاشئ وانخراطه في النّسيج اللبناني. سنترك الجواب لـ "جاك أفندي نحّاس"، المغترب اللبناني وممثل العائلات الارثوذكسيّة الطّرابلسيّة في حفل إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، الذي قال يوم سُئِل عن موقف أرثوذكس طرابلس من إعلان ولادة الكيان الجديد "أنا أوّلاً لبناني ومن ثمّ أرثوذكسي... ولبنان يجب أن يكون لجميع اللبنانيين". قد لا يكون هذا "السّياسي" متابعاً للمحطات التّاريخيّة الممهّدة لإعلان لبنان الكبير، أو ربما لم يدرك أهميّة دور الأرثوذكس في إدارة مؤسسات الكيان اللبناني ووجودهم التّاريخيّ في الدّولة والنّظام.

ولأن الدّال على الخير كفاعله، نطرح في ما يلي ملخصاً عن تاريخ الوجود الأرثوذكسي في المؤسسات الإداريّة الرّسميّة اللبنانيّة، لعلّ السّائل يطّلع ويتّعظ.

تمتّع لبنان منذ نهاية القرن الرّابع عشر بإدارة خاصة تُشبه الحكم الذّاتي، في إطار الدّولة المركزيّة المملوكيّة ومن بعدها السّلطنة العثمانيّة. برزت فكرة استقلاليّة لبنان بدايةً مع الأمير فخر الدّين الثّاني المعني الذي أسّس النّواة للدّولة اللبنانيّة المرجوّة، إلّا أنّه فشل في نقل البلاد من حكم إقطاعي مناطقي إلى دولة المؤسسات والقانون. أرست الاتفاقيات الدولية إثر المواجهات الأهليّة عام 1840 نظاماً جديداً عُرِف باسم القائمقاميتين، لم تُكتب له الحياة طويلاً إذ فتّتته التّدخلات الخارجيّة والولاء الدّاخلي لمحاور الخارج. أهم الاتفاقيات الدّوليّة حول لبنان كانت مقررات عام 1861 حيث وضعت الدّول الخمس الكبرى (فرنسا- بريطانيا- النّمسا- بروسيا- روسيا) إضافةً إلى الدّولة العثمانيّة، نظامًا جديداً للبنان وسّع حكمه الذّاتي بضمان التّقيّد به من الدّول الموقّعة عليه، ومعه بدأ الدّور الأرثوذكسي يتحوّل من نفوذ إقطاعي مناطقي، إلى وجود رسمي في مؤسسات الدّولة الفتيّة. وفي العام 1920 ضُمّت الى متصرفية جبل لبنان أراضٍ من ولاية دمشق وولاية بيروت (ذات الأكثريّة الأرثوذكسيّة مسيحياً) ليتّخذ لبنان شكله الحالي.

1- متصرفيّة جبل لبنان (1860-1918): كانت بداية دخول الأرثوذكس في الحياة العامة اللبنانيّة ضمن إطار نظام متصرفية جبل لبنان وهو ترتيب فرضته الدّول الكبرى، وما كان بوسع السّلطة العثمانيّة، لتعثّرها السّياسي وأزماتها الاقتصاديّة وتراجعها العسكري، إلا الرّضوخ والموافقة عليه وإعطاء لبنان نوعاً من إستقلال ذاتي برعاية أمميّة. عقدت اللجنة الدّولية المنبثقة من الاجتماع ما يقارب الـ50ـ جلسة كانت معظمها في بيروت، امتدت ما بين الخامس من تشرين الأول 1860 والثّالث والعشرين من أيار 1862، نتج منه "بروتوكول 1861" وهو النّظام الذي سيُحكم الجبل على أساسه. ولّى النّظام الجديد متصرفاً مسيحياً غير لبناني كحاكمٍ على لبنان، يعاونه مجلس إدارة من اثني عشر عضواً تتمثّل فيه الطّوائف السّت الكبرى بالتّساوي بينها، اثنان لكلّ من الموارنة، الرّوم الأرثوذكس، الرّوم الكاثوليك والدّروز، والمسلمين (السّنّة) والمتاولة (الشّيعة) - من دون النّظر في عدد الأنفس وتمثيل الأقضية. رعت كل دولة من الدّول الكبرى طائفةً في لبنان، لا حباً بهذه الطّوائف بل لتمرير مصالحها الخاصّة والتّسلّل الثّقافي والأيديولوجي إلى الشّرق، الأمر الذي سيدفع بعضاً من هذه الدّول إلى تعديل تقسيمات مجلس الإدارة ليلائم احتياجاتها في الدّاخل اللبناني: فجعلوا لكل طائفة عدداً من الأعضاء بحسب عديد ابنائها، وأصبح المجلس مؤلّفاً من أربعة أعضاء موارنة عن كسروان، البترون، المتن وجزين، ثلاثة أعضاء دروز عن المتن (عضو) والشّوف (عضوان)، عضوان روم أرثوذكس عن الكورة والمتن، عضو روم كاثوليك عن زحلة، عضو سني عن الشّوف وعضو شيعي عن كسروان، فتكون حصة المسيحيين سبعة أعضاء والمسلمين خمسة.

اضطلعت الحكومة الرّوسيّة بدور أساسي في إنشاء قضاء الكورة ككيان أرثوذكسي محدّد جغرافياً يكون منطقة نفوذ روسيّة مباشرة. وقد جاء في «مشروع نص إعداد نظام جديد للبنان» في مادته الثّالثة: "يقسم الجبل الى سبعة أقضية إدارية […] الكورة، بما فيها الكورة السّفلى وسائر الأراضي المجاورة الآهلة بالرّوم الأرثوذكس". لكنّ هذا القضاء لم يُلَبِ رغبة الأرثوذكس، الذين لم يسعوا يوماً لتأسيس "كانتون طائفي" خاص بهم، بل كانوا دوماً من المطالبين بالعيش الواحد مع جميع مكوّنات "الوطن اللبناني".

في التّنظيم الدّاخلي للمتصرفيّة، كان للمتصرف الحق في تحديد موعد إنتخاب المجلس الإداري الجديد أو ملء أي شغور أكان بالانتخاب أم التّعيين في ظروف محددة وإستثنائيّة.

مثّل الأرثوذكس في مجالس إدارة المتصرفيّة عن مقعدَي الكورة والمتن:

الكورة: خليل الجاويش (1863، 1867) - أسعد طالب النّبوت (1873، 1877) - عبدالله جبور الحايك (1883) - إلياس حنا الملكي (1889) - جرجس مخايل العازار (1893، 1895، 1899، 1903) - جرجي تامر أبي كرم (1908) - نقولا مخايل غصن (1913) - زخور نقولا العازار (1915).

المتن: شديد عيسى الخوري (1863) - خليل قرطاس (1867) - نجم إلياس الأسود (1873) - أسعد الخوري (1878) - إبراهيم نجم الأسود (1885، 1891، 1915) - طانيوس يوسف غصن (1893، 1899) - إلياس ناصيف الشويري (1908).

فيكون عموم أعضاء مجلس إدارة المتصرفيّة من الأرثوذكس هو 16 عضواً (9 في الكورة و7 في المتن). وقد لمع من هؤلاء الشّيخ جرجس مخايل العازار (أبو قبلان) الذي تَزَعَّمَ تكتُّلاً ضمَ عدداً من أعضاء مجلس الإدارة، منهم بشكلٍ خاص العضو الماروني عن البترون سعدالله بك الحويّك، شقيق البطريرك إلياس الحويّك، وعضو زحلة عن الرّوم الكاثوليك يوسف بك البريدي. يشير السّفير عادل اسماعيل في مجموعته عن محفوظات وزارة الخارجيّة الفرنسيّة أنّ الشّيخ جرجس "كان مهاباً، يخشاه الكلّ بسبب شخصيته الفذّة ونفوذه في مجلس الإدارة والمتصرفيّة بشكل عام، حتّى قيل إنّه المقرر الأساسي في المجلس" (كون كتلته ضمّت ثلث أعضائه).

كذلك، لمع اسم إبرهيم نجم الأسود، الحقوقي والشّاعر والصّحافي والمؤرّخ، الذي تولّى تحرير جريدة "لبنان" الأسبوعيّة والتّي روّجت لفكرة الكيان اللبناني وإستقلاليته، وقد اعتبره قناصل الدّول الكبرى أكثر أعضاء مجلس الإدارة علماً وفقهاً وأهلاً للنّقاش، فجرى تعيينه لاحقاً قائمقام على قضاء الكورة.

2- مجلس شورى بيروت (1867-1915): في مقابل مجلس إدارة جبل لبنان، شُكِّلَ في بيروت كيان إداري آخر عُرِف باسم "مجلس شورى بيروت"، ضمّ عن الأرثوذكس:

جبرائيل الحمصي وإلياس منسّى (1867)، خليل سرسق، نخله التويني، ملحم فياض وحبيب طراد (1882)، حنا شكور طراد، نقولا منسى، جبران تويني وحبيب طراد (1892)، نقولا افندي عجوري، جورجي بك رزق الله وإبراهيم الأسود (1897)، وديع أفندي فياض، إبراهيم أفندي غبريل وجورجي بك رزق الله (1902)، بطرس أفندي داغر رئيس بلدية بيروت الشّرقية (بعد إنقسام عام 1908)، سعيد أفندي أبو شهلا، جورجي بك رزق الله، فرج الله متري الحايك، سعيد أفندي صباغة (1911)، ميخائيل أفندي طراد (1912).

لافتةٌ هي حادثة العام 1908، يوم رفض عضو مجلس البلديّة بطرس أفندي داغر التّمديد غير القانونيّ لشركة المياه في بيروت، بإعتبار أنّ عقدها الممتد لأربعين عاماً قد إنتهى وأنّه بموجب إمتيازها "بعد مضي 40 عاماً تصبح جميع أوائل (معدّات) الشّركة ملكاً للبلديّة". وحين زاد الإنقسام في مجلس بيروت حول تجديد العقد من عدمه، إرتأى الوالي العثماني تقسيم البلديّة المنتخبة حديثاً ما بين شرقيّة (يرأسها داغر) وغربيّة (يرأسها منيح رمضان).

والمعروف عن بطرس داغر وطنيّته وحبّه لمدينته، وأنّه كان الأبعد عن الطّائفيّة، مجسداً بحق روحيّة الطّائفة التّي ينتمي إليها. وللمفارقة، فقد خصّص داغر لجمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت مبلغ "ماية ليرة ذهبية تبرعًا ودعمًا لأعمالها ومدارسها" (مذكرات سليم علي سلام، ص117). وقد شَهَدَ الجميع لإدارته دائرته الشّرقيّة في البلديّة، بعيداً عن النّكايات والمحسوبيّات، والتّي عرفت في شهور ما لن تعرفه طوال سنوات قادمة...

3- الجميعة الإصلاحيّة لولاية بيروت (1913): شهدت الدّولة العثمانيّة منذ بدايات القرن الماضي، تحوّلات أساسيّة على مختلف الصُّعد السّياسيّة والعسكريّة والإقتصاديّة. وكان لخلع السّلطان عبد الحميد الثّاني عن العرش عام 1909 أَثَر مباشر على الدّولة العُثمانيّة وولاياتها بما فيها بيروت. وقد تعرّضت المدينة لقصف إيطالي عام 1912، ممّا أثار الذّعر والخوف في نفوس البيارتة، كما دمّر الطّليان السّفن المدنيّة والعسكريّة الرّاسية في مرفأ بيروت.

دفعت جميع هذه التّطورات الدّوليّة والمحليّة، أبناء بيروت للتّفكير فعلياً في مصير ولايتهم، إذ بدأت الولايات العثمانيّة تتآكل أو تستقل واحدةّ تلو الأخرى. في هذا السّياق، تشكّل في المدينة جميعة إصلاحيّة ضمّت كبرى العائلات البيروتيّة، وانتخبت الجمعية لجنتها التّنفيذيّة في كانون الثّاني 1913 وقد ضمّت 25 عضو من ضمنهم 4 أعضاء عن الأرثوذكس (جان تويني، ألبير سرسق، جان بسترس، بترو طراد). ثم تألّف مجلس الجمعية من 84 عضواً، مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وقد شملت حصّة الأرثوذكس منه 16 عضو من أصل 42 عضواً مسيحياً هم:

أمين أبو شعر- جرجي باز- جورج معماري- حنّا الشّامي- وديع فيّاض- بترو طراد – جورجي رزق الله- إلياس جرجي طراد- إسكندر العازار- سعيد صباغة- وديع أبو رزق- سعيد أبو شهلا- جان تويني- ميخائيل غبريل- إبراهيم طراد- جبران تويني.

مهام هذه الجمعيّة العمل في سبيل إصلاح أوضاع الولاية، كما يشير وجيه كوثراني في كتابه السّلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي عام 1988: "المطالبة بإعتماد اللامركزيَّة في تسيير أمور الولايات العثمانيَّة وإعتبار اللغة العربية اللغة الرّسميّة داخل الولايات العربيَّة، على أن تبقى اللغة التّركيّة قائمة في ما يخص المراسلات الرّسميّة مع اسطنبول". إلّا أنّها إصطدمت بوصول حزب الإتحاد والتّرقي إلى الحكم في الآستانة، وهم المعارضون للامركزيّة، فتمّ حلّ الجمعية ونفي أعضائها.

اضطلع المتروبوليت جراسيموس مسرّة، مطران بيروت، بدور أساسي في دعم هذه الجمعيّة وأهدافها الوطنيّة، وقد لقّبه البيارتة، مسلمين ومسيحيين، ب"مطران الوحدة المسيحيّة الإسلاميّة"، خاصةً بعد موقفه من الإعتداء الإيطالي على بيروت، يوم أطلق نداءً لأديرة المسيحيين ومنازلهم ودعاهم لفتحها واستقبال المسلمين "فإن شَبِعنَا شَبِعوا قَبلَنا، وإنّ جِعنا فلا يجوعون إلّا بَعدَنا".

4- مجلس "المبعوثان" (1914-1918): أُعيد إحياء مجلس "المبعوثان" العثماني وهو بمثابة برلمان السّلطنة، عام 1908 بعد نشر الدّستور العثماني الجديد. وقد حظيت بيروت بـ3 أعضاء، مسلمَيْن ومسيحي، فمثّل الأرثوذكسي ميشال سرسق الولاية عام 1914.

يتبع...

__________________________

*غبريال أندريا- مهندس

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium