النهار

"المارونية: ثورة وحرية"
A+   A-

أبصر ميشال حايك النور في بلدة بجه الجبيلية في 19 كانون الثاني 1928. إلتحق بجامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين - بيروت، وبعدها بالمعهد الكاثوليكي - باريس، حيث حصّل دروسه الجامعية.


في 17 أيار عام 1945، سيم كاهناً، في كنيسة مار يوسف للآباء الكرمليين في باريس حيث نال الدكتوراه في اللاهوت، والليتورجيا، والآداب، والعلوم الإجتماعية – السياسية. علّم في المعهد الكاثوليكي- باريس منذ سنة 1957 وحتى سنة 1993. كما علّم في الجامعة اللبنانية - بيروت، وفي جامعة الروح القدس- الكسليك. شارك في المجمع الفاتيكاني الثاني (1961 - 1965) بصفة مستشار لاهوتي. ومنذ سنة 1972 ترأس، بإسم لبنان، بعثات عديدة إلى مؤتمرات في الخارج. منها البعثة اللبنانية إلى المؤتمر الإسلامي في الجزائر وغيرها.
بين عامي 1965 و2004 ألقى ميشال حايك العظات من على منبر كاتدرائية القديس جرجس المارونية في بيروت، وذلك بمناسبة الصوم الكبير. وفي عام 1983 عيّن مديراً للمجلة الكاثوليكيّة العالمية Communio الصادرة باللغة العربية تحت إسم "اللقاء".
توفي ميشال حايك يوم الخميس 1 أيلول 2005. إنه رجل كنيسة بإمتياز، لا بل كان أكثر رجالاتها نبوغاً وعلماً وثقافة. متعدد المواهب، واسع الثقافة غزير الإنتاج. ويتقن إلى هذا، العديد من اللغات. كتب في التاريخ والفلسفة واللاهوت والليتورجيا والأدب والشعر والأنتروبولوجيا وغيرها. ترك مجموعة كبيرة من الكتب والمقالات والدراسات والبحوث والأشعار، بعضها منشور والآخر لم ينشر بعد.
قال فيه أحدهم: "هو آخر من تبقى من تلامذة المدرسة المارونية في روما". تلك المدرسة التي قيل عن تلامذتها الموارنة، المثل المعروف: "عالم كماروني".


هكذا فإن ميشال حايك هو، وبإمتياز، العالم والمفكر واللاهوتي. هو ذاك الماروني الذي وعى أن له جذوراً عميقة في أرض المشرق. وهو الماروني الذي نظر إلى البعيد، فجذبته ثقافة باريس، واستهوته عظمة روما. إنه من جيل الكبار والعمالقة في بني أمتنا. إنه من رعيل النخبة والصفوة المستنيرة. وجماعتنا اليوم هي أحوج ما تكون إلى أمثاله.
لا أُخفيكم سراً ان قراءة كتاب "المارونية: ثورة وحرية" تهز كيان قارئه أياً كان، طالما هو انسان مدرك تماماً ان الشرط الجوهري للانسانية هو الحرية. كما انه كلما أوغلت في الكتاب تصفّحاً وتفكراً، شعرت بالهوة الشاسعة بين "مارونية هشة" تسود يومياتنا وبين "مارونية حقة" ذكّرنا بها ودعانا للعودة إليها الأب الكبير في عطاءاته الفكرية والفلسفية.
قراءة فكر الأب ميشال حايك لا يمكن أن تكون من باب تجزئة الوقت، بقدر ما هي بحث عن الذات والهوية والإيمان، ليست المارونية حيّزاً للتحجّر والإنطواء والتقوقع، لأنها إذا ما صارت هكذا تتحول الهوية الى سلاح قاتل وذي حدين، قد يضرب لكنه حكماً قد يرتد على حامله. وهي ليست هوية مغلقة للتصارع عبرها على السلطة والمال لأنها حينها ستفقد جوهرها الأصلي، أي الحرية، ما يعني اختزال الفرد بجماعة أو زعيم، وهذا ضرب من الجنون والهذيان. وهذا أمر خطير لأن الحرية، والكلام هنا للأب حايك، هي: "وطن الموارنة الوحيد لا الأرض... لأجلها صادقوا من صادقوا، وعاداهم واعتدى عليهم من عادى واعتدى".


لم يكن تخصيص الموارنة بموقع رئاسة الجمهورية وصلاحياته الواسعة قبل تعديلات "الطائف"، انعكاسا فقط لتعداد ديموغرافي رسمي أجراه الإنتداب الفرنسي عام 1932، بل اعترافا بدورهم التأسيسي في الكيان، وتحديدا جبل لبنان.
البطريرك الماروني الياس حويك هو من ناضل في مؤتمر الصلح في باريس لإرساء لبنان الكبير ولم يكتف بجبل لبنان أو المتصرفية حيث تمتع الموارنة بغالبية مريحة جداً، بل ضم الأقضية الأربعة بغالبيتها المسلمة التي رفضت أولاً الالتحاق بـ"الكيان الوليد" قبل ان يرسي رياض الصلح وبشارة الخوري صيغة الميثاق الوطني.


لم يقتصر دور المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً على لبنان، بل أدت "المدرسة المارونية" في روما، حيث تأسست عام 1586 واقفلت عام 1808، دوراً في تثقيف جيل كامل ساهم في نقلة تنويرية في لبنان والمنطقة جعل الطائفة المارونية رائدة في محيطها، وصولا الى مواجهة "التتريك".
هذه هي المارونية: المارونية ليس تقوقعاً ولا انعزالاً بل فرادة وتميزاً. كما انها ليست اختزالاً لأن هذا يفقدنا نحن الموارنة القدرة على التواصل مع الآخر المختلف. والتواصل هو الذي شكل ميزة أساسية في تاريخنا، وقد أعطى الأب ميشال حايك في الكتاب حيّزاً مهماً لأهمية اتقان اللغات التي هي وسيلة هذا التواصل، فيقول: "كل من يرفض واحدة من الحضارات واللغات التي لأجلها أبدعت جبيل الأبجدية، قد يكون نزع نفسه من الجنسية اللبنانية".
ان يكون عنوان الكتاب "المارونية: ثورة وحرية"، فهذا عنوان محكم البنيان لعظات أطلقها وهي مسبوكة بقوالب الجدلية وبمنهج الرياضيات الصارم، ومجبولاً بروح مار مارون الناسك ومن لحقه من النساك حتى صاروا قلة في زمننا. وهو دعوة جدية ودقيقة للتفكر بكل ما كان عندنا ولنا وأهدرناه في خلافنا على جنس الملائكة، بل قُل أهدره صغار " فأسقطوها وأسقطتهم"، أي المارونية.
السؤال الجدي الآن: هل نحن مقتنعون ومؤمنون بدورنا وبأننا بناة هذا الشرق ولسنا نزلاء وسُياح فيه؟، وإذا كان الجواب إيجاباً فكيف السبيل إلى ذلك؟ هذا هو السؤال الذي جهد الأب حايك في صياغته مراراً وتكراراً. ولم يتوقف عند هذا الحد بل قدم الإجابات عبر فهم ومعرفة القديس مار مارون، وماهية المارونية ومعاناتها المديدة مع الشرق والغرب، حتى انه استشرف قبل عقود ما آل إليه حالنا من صراعات انفجرت في المشرق كما هو حاصل منذ 2011 ، وحذر من هذا الخطر، في ما يشبه الرؤيا، من "أن نهاية الموارنة هي بَدء نهاية المسيحيَة المشرقية، ونهاية المسيحية المشرقية هي حكمٌ بالإعدام على كلّ الإتنيات والكيانات الثقافية التي تمثل خير حظوظ الشرق للخروج من عصوره الوسطى حيث يخشى عليه كل ساعة من الغرق فيها". ويتابع إن "مشروعَ إبادة الموارنة أو مشروع تهجيرهم أو مشروع تعطيلهم ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، يُشكل اغتيالاً للمشرق وخصوصاً للعروبة والمسلمين".


وعلينا التنبّه أيضاً إلى أن الأب حايك، وفيما يثمن إحياء الموارنة للعروبة، يُعْرب عن خيبته من تلك العروبة، ليعود إلى توصيف ماضي المسيحيين وحاضرهم ومصيرِهم، بالإضافة إلى شهادتِهم في هذا المشرق، "فأوراق اعتمادهم" يقول: "ممهورة بالدم والدمع". ولم يتناول الفيلسوف والناسك والمُبدع والمستشرف العروبة فجأة منقطعاً عن التاريخ وسيرورته المتحققة، إذ أنه لم ينس سيدة إيليج التي كانت لأكثر من قرنين مقراً آمناً للبطريركيّة المارونية في أصعب وأقسى الظروف التي مرَّت علينا في زمن المماليك، ليبقى الخلاص عنده دائما بالمسيح "الثائر".
لقد أُعطتنا المارونية الأمانة على لبنان المشبع بروح الإيمان وقيم المسيح ومساعدة الآخرين، وها هو يتحول إلى شبه غيتوات متناحرة، ويسلك مساراً لا قعر مرئياً له من السمسرة والمتاجرة. كما انه صار مكباً للسلع الغذائية الفاسدة والمشعة، وصار مطمراً للنفايات، ورقعة للوقوف على اعتاب السفارات لتوسّل الحلول، أو تأشيرات الهجرة إلى الغرب، قساوته علينا لم تكن أقل وطأة من شرق يسوده الاستبداد وشياطين العنف والقتل والذبح.
نعم لقد فعلنا ذلك كله بالتكافل مع شركائنا في الوطن. فعلنا ذلك لأن من ادار شؤون وطن اللبان والبخور، أقنع نفسه وحاول ان يبث في روحنا فكرة أن البلد ساحة للنهب وتناتش الحصص التي تنتهي في جيوب الأثرياء فيزدادون ثراء ، فيما متوسطو الحال، هذا اذا لم تزل هذه الطبقة، والفقراء يغرقون أكثر فأكثر في بحور العوز والحاجة. هكذا خان الجميع الأمانة التي لم تكن أمانة سياسية ولا جغرافية فحسب، بل أمانة الفضاء الروحي والأخلاقي والكرامة والأرض والحرية. وقبل الخيانة هناك العجز المتمادي فصولاً وأشكالاً في معالجة مأساة لبنان واستمراره في قلب جغرافيا سياسية إقليمية جعلتها، والاستبدادات والأوليغارشيات العربية والظلاميات الدينية، أرضاً للقتل والسبي والإغتصاب والذبح وتدمير التعليم واللغات والحضارات الانسانية.


هذه هي المارونية القادرة على حمايتنا لا البحث عند هذا وذاك عن ضمانات، فنحن البناة ونحن الأصل، ووجودنا ليس رهناً بحقد من هنا أو بمغامرة من هناك. ووجودنا بمارونيتنا الديموقراطية الرافضة للتيوقراطية والعقليات الإلغائية توجب علينا المبادرة إلى البناء الجدي للدولة المتنوّعة والحرّة. الدولة الفريدة بالمشرق التي يديرها المسيحيون والمسلمون. دولة "الرسالة" على ما قال البابا يوحنا بولس الثاني في السينودس المنعقد من أجل لبنان.
نحن هنا في لبنان والمشرق لسنا عدداً بقدر ما نحن قيمة وضمانة للآخرين، فنحن هنا لنبقى شهادة للتعدد الإنساني، ولسنا أقلية بحاجة الى أي "حماية مشبوهة" لأن من ادّعوا حمايتنا والخوف علينا كانوا يحمون ويخافون على مصالحهم، وهكذا يقول الأب حايك "نحن هنا لنبقى شهادة للشرق، شهادة على التعدّد الإنساني ودعوة مستمّرة إلى الحرّية. واختباراً للقاء الروحي وإرادة التجدّد والإبداع، لا إمتيازات لنا إلا بما نتميّز به من مبررات في تجميل الأرض والفكر والروح". إذاً، هل سنتميّز لتثبيت ما نهضنا عليه وبه؟ وهل سنقوم بما يجعلنا أهلاً لهذا الدور، وكيف؟.
المارونية تتجاوز الانغلاق في أرض. ذلك ما دفع الاب حايك إلى القول إنهم يأتون الأرض من حريتهم وتبقى "الأرض" الوحيدة التي لا تنزع من تحت أقدامهم الحرية، "إن وطنهم ليس في أرض أولاً، بل في مناخ حرية" ..." إنه آتٍ من حركة روحية نسكية، غير مرتطبة أصلاً بأرض أو بعرق ولا بقومية ولا بلغة" ... "إن المارونية عيش في اثر المسيح الذي صلب خارج أسوار المدينة". هذا ما قاله الاب حايك، فهل من يفهم كيف تكون العودة إلى الذات المارونية؟ إلى الذات المسيحية؟ ومن ثم تجاوزها إلى الأسمى؟.
وهذه الروح يختصرها الأب حايك بفكرة رائعة عن الموارنة بقوله "إذا ضيّق عليهم، رغم ضيق مداهم، احتموا في صخرة الوادي واعتزلوا وتقوقعوا، وإذا وسع لديهم المجال تدفقوا من أعالي الجرد إلى الساحل فالجنوب فالبحر حتى يصلوا إلى أقاصي الدنيا ويختبروا كل فكرة ويجرّبوا كل شعار. فهم أكثر الناس تقدّمية إذا أَمِنوا، وأشدّهم رجعية إذا فزعوا. وإذا ضمنوا الحرية نفخوا في الشرق روح التحرّر، وإذا أذلهم استعمار فضّلوا الانتحار. لقد كانوا أول من استقدم إلى الشرق فكرة الوطن فأرادوه كيانا مستقلا قائما بذاته، منعوتا بصفاته غير مضاف إليه. ومع هذا التزمت الوطني، كانوا أول من استنبط فكرة القومية ونظّروا لها وجعلوا نفسهم دعاتها، إنهم غلاة في كل شيء".


اخيراً، نطلب من الله ان يمنحنا رجالا كبارا، ليحملوا القضية المسيحية ويرفعوها الى حيث يجب ان تكون، لتثبيت الدور والوجود، فنعمل متحدين لدرء الخطر، ونحد من انعكاسات الإنفجار المذهبي الذي يعصف بالمشرق برمته، ونحن في عين العاصفة!. وعلى هؤلاء الرجال الكبار العمل على وقف التدهور الذي يصيب مجتمعنا وقيمنا الاخلاقية وعائلاتنا ومقدساتنا، وعدم السماح بإضاعة الثروات الروحية والفكرية والفلسفية في متاهات وارتجالات، حتى لا نقول في يوم من الايام، وبعد فوات الاوان، ان القضية المارونية الكبرى، حملها رجال حسبناهم كبارا... فأسقطوها وأسقطتهم، وعندها لا ينفع الندم. هذا ما قاله الاب الحايك في احدى محاضراته في اواخر السبعينات من القرن الماضي من على منبر كنيسة مار جاورجيوس المارونية في ساحة الشهداء في بيروت.


(من محاضرة القاها العميد م. منير عقيقي
في قاعة بلدية كفردبيان)

الأكثر قراءة

سياسة 11/23/2024 7:37:00 AM
أعلن برنامج "مكافآت من أجل العدالة" عن مكافأة تصل إلى 7 ملايين دولار أميركي مقابل الإدلاء بمعلومات عن طلال حمية المعروف أيضاً باسم عصمت ميزاراني
سياسة 11/23/2024 9:48:00 AM
إسرائيل هاجمت فجر اليوم في بيروت مبنى كان يتواجد فيه رئيس قسم العمليات في "حزب الله"، محمد حيدر

اقرأ في النهار Premium