قال بونابارت "الناس في الثورة نوعان، من يقومون بالثورة ومن يستفيدون منها"، هذا ما حصل مع ثورة الأرز، تلك الثمرة التي رعاها الشبّان بكلّ حبّ وعناية وغيرة وقطفها السياسيون، فشوّهتها الحيل السياسية وأضعفتها، ولكنها لم تقضِ عليها. بعضنا ولد يوم 14 آذار 2005، استفاق على حال لبنان، تعرّف على الوصاية السورية التي لم يتجرّأ أهله أن يتحدّثوا عنها له يوماً... ولدوا من جديد بفضل صانعي الثورة، الشباب اللبناني الذي ناضل وضحّى وخطط وسهر الليالي، حرس ساحة الشهداء وحرّر أرضه من الجيش السوري. هؤلاء، لم تغرِهم المناصب ولا المنابر ولا النجومية، عملوا بصمت لتحريك عجلة ثورة الأرز وتحقيقها، فولدت قوى 14 آذار على أكفّ شبّان خاب اليوم أملهم وخذلهم من سلّموهم الأمانة.
كواليس الثورة
أمضى الشبان 72 يومًا في ساحة الشهداء لتحقيق مطلبهم وهو رفع الوصاية السورية عن لبنان. 72 يومًا من الأمل والقوّة والشجاعة لم يتخللها لحظات من الضعف والخوف واليأس. للاستعلام عن كواليس ثورة الأرز وكيفية التحضير لها، أردنا التحدّث مع الشيخ سامي الجميل الشاب وليس السياسي الذي راح يروي لـ "النهار"، أبرز حقبات 14 آذار: "بعد استشهاد الرئيس الحريري، عمّت المظاهرات بيروت وكان اللبنانيون يجولون بمسيرات يومية من مكان الاستشهاد إلى مكان الضريح، وقد استمرّت مسيرة الدفن لثلاثة وأربعة أيام. كان ذلك في 17 و18 شباط 2005 أي بعد مرور ثلاثة أيام على استشهاد الرئيس الحريري، كنّا نتخوّف من توقف هذه الحركة، لذا تفادياً لهذا الأمر، رحنا نفكر في طريقة للمحافظة على هذه الوتيرة ونقلها لمرحلة ثانية. في وقتها كانت ألسنة الثورة البرتقالية تلتهب في أوكرانيا، حتى أدت إلى إسقاط الرئيس الأوكراني. حينها نصب الثوار في أوكرانيا الخيم أمام مجلس النواب وخلقوا مكانًا للتجوّل الدائم." أثرّت الثورة البرتقالية في الشباب اللبناني الذي "اعتمد الطريقة نفسها. أخذنا الكثير من التجربة الأوكرانية، وقررنا في 18 شباط، نصب خيمتين لتكونا ككرة ثلج، على أمل أن يتشجع اللبنانيون على وضع الخيم والجلوس فيها". يستذكر جميّل "نصبنا في أوّل ليلة أول خيمتين على أرض من البحص مقابلة للضريح، حاولنا النوم في ليل 18- 19 شباط، ولكننا لم نتمكّن من ذلك، إذ تسبّب البحص لنا بألم في الظهر. فبحثنا بالتالي عن أكثر مكان مريح في المنطقة وكان العشب بالقرب من تمثال الشهداء هو الأنسب، فنقلنا الخيم إلى ذلك المكان لنتمكن من النوم ليلاً لأنه أكثر راحة. جاءنا في أول ليلة ثلاثة أو أربعة شبان من التيار الوطني الحرّ، وكانوا قد رأوا الخيم التي نصبناها فسألونا عمّا نفعله، فشرحنا لهم وقرّروا البقاء معنا. عندها توجهت إلى المنزل وجلبت لهم خيمة أخرى صمدت لمدة 72 يوماً وكرّت المسبحة. في ثاني ليلة بدأت الأمور تكبر وفي ثالث ليلة أصبح لدينا مخيّمًا بكلّ ما للكملة من معنى. من هذا المخيّم، بدأنا تنظيم كلّ الحراك لثورة الأرز حيث بقينا سبعين يوم". ويستمرّ الجميّل في الحديث قائلاً "يوم 14 آذار، كنا نعتقد أنه سيتم إزالة المخيّم، فاستنفرنا كلّ الليل، حرسنا المكان كلّ الليل، كنا حوالي 200 شاب في حالة تأهبّ لأننا سمعنا أنه سيتم إزالة المخيم لمنع تجمع 14 آذار. لم ننم، بقينا مستيقظين حتى الصباح، ساعدنا اللبنانيون في الدخول إلى ساحة الشهداء لأنّ الجيش كان قد أغلقها، ولكننا وجدنا مداخل لإدخال الناس عبرها حتى فتح الجيش الطريق". بكلّ فخر يضيف الجميّل "اعتبرنا يومها أننا حققنا استقلال لبنان، وبالأخص الشباب الطلاب والحركة الطلابية التي ناضلت في الجامعات على نحو 10 سنوات لغاية الـ 2005، اعتبروا أنهم حقّقوا هدفهم، وأنّ اللبنانيين قد أعطوهم حقهم". وعند سؤاله عما إذا شعر بالندم أثناء ثورة الأرز قال "كانت الثورة مكتملة لم أندم على شيء، فالمشكلة بعد انتهاء ثورة الأرز إذ دخلت السياسة إلى 14 آذار وبدأت بتشويه كيانه". اليوم بقي في داخل الشاب سامي الجميل مبادئ 14 آذار المرسخة التي لا يمكن لأحد أن يؤثر عليها: "سياسياً تمزّقت 14 آذار، ولكن مبادئها ما زالت نفسها: الاستقلال، السيادة، والحريّة، والديموقراطية والانفتاح وغيرها من القيم التي تمثلها 14 آذار، والتي تناضل من أجلها الكتائب منذ 80 سنة، باقية لا يمكن لأحد إلغائها، المبادئ باقية بغض النظر عن الأشخاص". ويوجه أخيراً الجميل رسالة إلى الشبان المناضلين "اليوم يجب استكمال النضال الذي بدأناه في الجامعة لبناء دولة حرة سيدة ومستقلة. تمكنا من إخراج السوري من لبنان، ولكن ما زال أمامنا واقع داخلي يحتاج إلى التحسين. ثمة دولة وديموقراطية وحياة حضارية تحتاج للبناء. هذا البلد بلدنا لا يجب الاستسلام وتركه لأحد أو للفاسدين ولمن لا يؤمن به".
الطلاب دينامو الثورة
عندما نتحدّث عن ثورة الأرز و14 آذار، نفكّر فوراً في طلاب جامعة القديس يوسف – هوفلان الذين ناضلوا كثيراً ضدّ الاحتلال السوري والذين كانوا محرّك ثورة الأرز. في هذا الإطار، يتحدّث ي.ج. رئيس الهيئة الطلابية للعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، لـ "النهار" عن أهمية الحركة الطالبية في ثورة الأرز: "كان عددنا قليلاً، ولكن مفعولنا كبير في العلوم السياسية. فقد أنجزنا أكثر من معرض للصور عن الاحتلال السوري، وعقدنا الندوات عن الرئيس الحريري وشاركنا بالمظاهرات. وكان الدكتور سمير قصير أستاذنا في الجامعة يوجّهنا قبل اغتياله، ويجلب لنا المنشورات وعلم الاستقلال والأعلام اللبنانية، مؤمّناً كلّ المستلزمات لنا. قبل تلك المرحلة كانت الأحزاب تتكفل في تنظيم المظاهرات في حرم هوفلان والـ NDU . أما نحن كمجلس طلبة، فكنا مستقلين وغير تابعين لأيّ حزب سياسي، كان اتكالنا على الناس وليس الأحزاب لإعطائنا المنشورات والأعلام، حتى إننا نصبنا خيمة للعلوم السياسية في ساحة الشهداء". عند سؤاله عمّا إذا كانوا يشعرون بالخوف في تلك المرحلة قال "رفضت أقلية الطلاب في الجامعة النزول والاعتصام، ولكن بعد عملية الاغتيال التي هزّت الجامعة حينها والتحركات الشعبية لم يعد هناك من خوف، فتحركت الأغلبية. والفرق أنّ هذه التحركات قد أصبحت متنوعة طائفياً، إذ كانت قبل الاغتيال تجري من قبل الأحزاب التي تسمّى مسيحية. لذلك كانت عملية التجييش التي قام بها مجلس الطالبة سهلة لأنّ الجميع كان مقتنع بالقضية". ويضيف أنهم كطلاب، "شكلنا لجنة تضم رؤساء الهيئات الطلابية في الجامعة اليسوعية للتنسيق مع باقي الهيئات في الجامعات. وكان الرؤساء في اليسوعية يجتمعون مرتين أو ثلاثة في الأسبوع للبحث في أساليب التحرّك، فكان لكلّ مجلس حركة خاصة به لتفادي التكرار". يروي الطالب أنّه كان ورفاقه في ساحة الشهداء لحظة استقالة حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، وقد أعطتهم هذه الخطوة الأمل لأنهم شعروا أنهم على مقربة من تحقيق هدفهم. أمّا أجمل ذكرى له فكانت "يوم انسحاب السوريين من لبنان، لأنّ نضالنا كان يهدف لذلك، أذكر أننا فتحنا شامبانيا في الجامعة يومها". وأكد أخيراً على أهمية الحركة الطلابية في الثورة قائلاً "لولا الطلاب لما كان هناك من ثورة. فالمنظمات الطلابية الحزبية والهيئات الطلابية في كلّ الجامعات هي من صنعت الثورة حينها، كنت أطلب من الطالب أن يحضر أقاربه وأهله معه إلى الساحة لإنجاحها، كنا نحن المحرّك الأساسي لها". يختم ي.ج. قائلاً "ثورة الأرز الاستقلال الثاني للبنان الذي لم يترجم بطريقة صحيحة على الوضع الداخلي اللبناني".
الشباب والسياسيون
كانت ثورة الأرز ملك الشباب اللبناني، وخطفها السياسيون من أيادٍ كانت تصونها بكلّ محبة وغيرة، واليوم نجحوا في تشويهها. ولكن، على الرغم من ذلك، تبقى ثورة الأرز ملك الشعب فقط. في هذا السياق، يتحدّث نبيل أبو شرف محام وناشط في 14 آذار، لـ "النهار" عن العلاقة التي كانت تجمع بين الشبّان والسياسيين قائلاً: " 14 آذار حركة شبابية من الأساس قادها الشبّان وليس السياسيين. صورة 14 آذار هي صورة الشباب، هي حركة عفوية، هي قيامة لبنان والشعب والوحدة. 14 آذار استقلال جديد للبنان، ولكن ما حصل لاحقاً يخيب الأمل قليلاً. ففي أوّل الأيام كان السياسيون تائهين كليّاً، كانوا يأتون إلينا للاستعلام عن التحركات وذلك ليلياً: كانت تحصل يومياً مسيرات تنتقل من السان جورج إلى ساحة الشهداء حيث كان يلقي السياسيون والشبان الخطابات. وفي الليل كان الشبان يبقون في الخيم حيث كان يشاركهم السياسيون جلستهم، وحيث كانوا يتحدثون عن لبنان والمستقبل، عن المشاريع والإصلاح وغيرها. لم نكن نستنظر ما وصلنا إليه اليوم... كنا نحلم في لبنان أفضل، أن يكون لنا دور في لبنان الجديد الذي كنا نبنيه حينها". أما عن ذكرى 14 آذار، فيستذكر أبو شرف ما قاله جبران تويني قبل اغتياله بأمل "يحق لكم فقدان الأمل بالأشخاص، ولكن لا يمكنكم فقدان الأمل بـ 14 آذار، بمرحلة 14 آذار، لأنّ 14 آذار حصلت ومن الممكن أن تتحقق مجدداً".
14 آذار 2005 تاريخ لن يتكرر، توحّد فيه اللبنانيون من مختلف الطوائف من أجل مطالبهم، هي حلم ترسّخ في الذاكرة الجماعية اللبنانية، بصيص أمل ونور أطفأته المصالح السياسية، فباتت الساحة الداخلية أرضاً للمعارك الشخصية والمذهبية. لا يجب على الثورة أن تتوقف عام 2005، يجب أن تستمرّ، أن نستكملها نحن الشباب من أجل بناء الوطن مجدداً. فالثورة الحقيقية تحتاج للكثير من السنوات كي تتحقق، وهي بدأت في لبنان عام 2005، فلنستكمل المسيرة ولنبقِ شعلة ثورة الأرز مضيئة من أجل لبنان.
Twitter:@Yara_Arja