النهار

"الخادمتان" لجان جينيه رؤية مبتكرة بإخراج لهاغوب درغوغاسيان
النفس الإنسانية الشريرة بارزة في أداء ممثلتين بارعتين
"الخادمتان" لجان جينيه رؤية مبتكرة بإخراج لهاغوب درغوغاسيان
A+   A-

مسرح الجيب في مونو، احتوى في صغر حجمه، عالماً شاسعاً من النفس البشرية المعقّدة، السوداء. فما تكنّه الخادمتان للسيدة الثرية، الجميلة والمستبدة، الكريمة والساحقة، من مشاعر متناقضة، يفوق الواقع، يبالغ فيه، من أجل الوصول إلى المُشاهد وحضه لأن يكون معنيّاً بالمسرحية. فمن المثل التي عليها طبخ جان جينيه بقلمه الملطّخ بالحبر المخرّب، والمدمّر، وعليها تقوم مسرحية "الخادمتان"، هي الطاعة المتقلّبة على نار الانتقام، والحب الزائف الذي تذوب مقاديره في مختبر خيالي من السم القاتل.


مسرحية "الخادمتان" لجان جينيه، البعيدة كل البعد عن المسرح الكلاسيكي وقواعده، انتظرت زمنها إلى أن دخلت في العروض العالمية وأصبحت الأكثر تمثيلاً، إن بلغتها الفرنسية أو بلغات مترجمة، وكانت لنا منها نسخة مشغولة برؤية إخراجية حذقة ومبتكرة، لهاغوب درغوغاسيان الذي دعا مؤلّفها جان جينيه ليسمعه نصّ مسرحيته في هذه الوليمة المرّة، باللغتين العربية والفرنسية، من دون تطفّل من اللغة العربية على اللغة الأصلية. الديكور، غرفة مدام، ملابس متنوّعة الملمس، معلّقة في ركن، ومرآتان تلعبان دوراً يعكس الوجه الآخر الذي تحلم به كل من صولانج وكلير الشقيقتين الخادمتين لدى مدام أن تكونه، وقد تكون المرآة حين تثور الكلمات وتنفجر بالحقد والكراهيات إنعكاسا للوجه الذي تودّان قتله. فصولانج وكلير أختان تلتحمان في نفس واحدة في حبهما لمدام أو في التخطيط للانتقام منها.
صبيّتان لم تختبرا معترك المسرح اللبناني بعد، ولم تنقشا إسميهما في النشاطات الجارية على مسارح بيروت، كان لدخولهما مساء الأربعاء، على مسرح مونو الجيبي، الحميمي، مفاجأة الاكتشاف. فمن الحركة البطيئة، المشغولة على إيقاع بناء الحدث وتعميمه، وصولاً إلى الغضب الذي كان هامداً فتوقّد، كنا أمام موهبتين نافذتين، مدعوكتين في طينة المسرح وهما لا تزالان تختبران أصوله وغموضه في فرع المسرح في الجامعة اللبنانية. إختصاص كل منهما، في الهندسة المعمارية للينا عسيران، والترجمة والمواصلات ليارا زخور، لم يضع المسرح في خانة الهواية بل رفعتاه في هذه الإطلالة الأولى على المسرح العام إلى درجة عالية من الاحتراف. في "الخادمتان"، كانا كلير وصولانج، بالإضافة إلى لعبة خيالية من المخرج، وغير منتظرة، بدخول طوني كرم الطالب في السنة الثالثة في فرع المسرح في الجامعة اللبنانية، أولاً كمرشد لمسار النص، مرتدياً الثياب الرسميّة، ثم يتحوّل بين يدي الخادمتين الشرّيرتين إلى مدام، أنثى وذكر. تعرّيانه من ثيابه وهو منقاد إلى هذا التحوّل. تلبسانه ثياب مدام، الكاشفة وجواربها وحذاءها. يغدو دمية مستسلمة لنزوات المرأتين وشهواتهما المكبوتة. فهل بابتكار المخرج من طوني كرم كائناً ذكراً وأنثى، أراد أن يؤجج به خيال الخادمتين، إن بممارستهما على هذه الدمية، طيف السيّدة الطاغية، أو بتخطيطهما لقتلها في آن واحد؟ لكن من خلال طيف السيدة في الدمية المستعارة، تواصل مدام طغيانها على الخادمتين. فها هي في لوحة رائعة للمخرج، تمسك الأختين من شعرهما كرسنين، وتجرّهما ككلبتين على الأرض.
فلعل القوّة الدرامية في هذا العمل الاحترافي إخراجا وتمثيلاً، تكمن خاصة في اللعبة الخطيرة بين الأختين. حيث تصبح كلير المدام والسلطة بين يديها، وصولانج القاسية والمغناجة في آن واحد، تسعى إلى تدجينها. كلتاهما في هذه المواجهة تحلمان بأن تكونا السيّدة الكاملة الأوصاف. التناقض يبرز عللهما النفسية بخلطهما المدام الجميلة، الطيّبة، التي ساقاها ذهب، ونكنّ لها العبادة، بالمدام التي نحن نكرهها، لأنها تذلّنا، وحين تتدثّر كلير بملابس السيّدة تتحوّل بالكلام القاسي إلى أختها. التناقض جارح: "بإمكاني أن أكون شرسة معك، ولن أنسى بأني الخادمة".
في استحالة الارتقاء إلى مستوى المدام، يعلو نمط الكراهية، شرسا، أكولاً لدى صولانج، حزينا، باكيا، لدى كلير. في هذه الازدواجية التي ارتقت بها الممثلتان إلى مستوى تعبيري غني بالانفعالات الشاهقة، يلمس المشاهد عن كثب مشاعر الأختين المتناقضة للمدام. في جو طقوسي ضاغط، تنبعث النيات من قمقمها وتتفجّر. تحضّر صولانج سمّا وهمياً لتضعه في الشاي وتعطيه لأختها كي تتدربهما على الخطوة الأخيرة التي لا بد فيها من ان تتخلص من المدام. الشيطان الشرير باتت هي، صولانج، فيما الدموع الكارجة على وجنتي كلير تفضح ربما حبها المستتر لسيّدتها. المدام لن تشرب الشاي.


[email protected]

اقرأ في النهار Premium