وجوههم طريّة وموجعة بإصرارها على إظهار هذا الاستخفاف الهشّ بالعالم الخارجي، وهذا التحدّي الأولي الرقيق بإطلالته، وهذه الثقة بالنفس الظاهريّة التي تتسلّل تدريجياً إلى القلب.
ثقة مُتصدّعة في النفس.
وقلب مرن يختصر عشرات القصص التي لا تنتمي إلى عالم الطفولة.
قلب صغير يدّعي التمرّد والحكمة.
ارتباك "عفريت".
خجل يخفي - يا إلهي كم يخفي – "شيطنات" و"مرجلة" زائفة.
عرفوا حياة الشارع وابتعدوا من الدراسة والعلم قبل العودة إلى الكتاب.
اليوم وبعد فترة طويلة أمضوها بعيداً من عالم الدراسة بفعل حوادث باب التبّانة وجبل مُحسن، اكتشفوا أن لديهم أحلاماً لم تولد بعد، ولكن ها هو طيفها يطلّ من شبابيك الأمل.
اليوم يعترفون من أعلى درجة من سنهم الصغيرة بأن "الألف باء قصّة كبيرة".
عندما يكبُرون سيجنون الكثير من المال، وسيحققون كل الأحلام التي لم تتسنَّ لهم الفرصة بعد بزخرفة إطارها الافتراضي.
سيرسمون على جدران المدينة التي لطالما عُرفت "بأم الفقير" تماماً كبطلهم رسّام الغرافيتي محمد الأبرش.
سيحافظون على طرابلس التي لطالما أصرّت على كتابة قصّة أقل خيبة من بعض قصص عبرت ولوّنت جدرانها بلون العنف والدماء.
سيُساعدون من كانت ظروفهم، تماماً مثلهم، مُعارضة وغير مؤاتية.
هم مُتأكدون من أنهم سينتصرون على الظروف.
كلماتهم قليلة ومنقّطة بطيف الأحلام التي لم تُكتب بعد. يعبّرون في غالبيّة الوقت من خلال ابتسامة صغيرة خائفة وفي الوقت عينه تشي بكل ما تعلّموه في الشارع من حيل وبعض احتيال مُحزن ببراءته.
يضحك محمد الأبرش عندما يرتبكون أمام كاميرا "النهار".
يعرفهم الشاب الأقرب إلى نجم في مدينة طرابلس جيداً، "يلّا بلا حركات".
فريق عمل جريدة "النهار" يمضي ساعات صباحيّة طويلة برفقة محمد الأبرش وهؤلاء الأولاد الذين عادوا إلى المدرسة بعد فترة طويلة من الغياب بفعل الظروف. وهم يُساعدونه على إنجاز رسمة مخصّصة لهذا العدد، تنطوي على أهمية التعليم والثقافة على جدار داخل حرم جامعة "العزم"، راعية هذا الحدث، والداعمة لكل ما يُنجزه الأبرش من مشاريع.
وجامعة "العزم" تبنّت الأبرش بعدما أثبت موهبة حقيقيّة في الرسم. وقد اختار، بدايةً، جدران مدارس "أم الفقير" لاسيما تلك التي سيّجتها الجدران المُتصدّعة والأخرى المُدمّرة كلياً التي أعاد ترميمها. أرادها الكانفا التي ينشر من خلالها الوعي حول أهميّة التعليم والمدرسة والاهتمام بالمدينة.
الطلاب وقعوا في حُب هذا الشاب الذي عرف بدوره الحياة العبثيّة بعيداً من المدرسة، وقد ابتعد 10 سنوات عن العلم قبل العودة إلى الكتاب بعزم واندفاع.
وهو اليوم ابن جامعة "العزم" التي تُقدّم له العلم وكل ما يحتاج إليه من أدوات فنيّة لينجز المشاريع الكُبرى في المدينة التي أحبها وأحبته.
وهؤلاء الأولاد هم أصدقاء محمد. وهو يُرشدهم ويحميهم. يدفعهم إلى التقدّم ويدعوهم إلى الحلم، ويُمازحهم باستمرار.
لكنهم يرتبكون أمام الكاميرا. يروون قصّتهم باقتضاب وبأسلوب مُحبّب وغير مُنمّق.
الحياة خارج المدرسة؟ لا حياة فيها. تنطوي على مُشاهدة التلفزيون طوال النهار، والمواجهات العنيفة مع الماما أو البابا أو الأشقاء والشقيقات واللعب "الهمجي" في الشوارع.
العودة إلى المدرسة؟ "أكيد أحلى".
الدراسة هي مملكتهم الجديدة.
بالأمس، كانت الشوارع مملكتهم الوحيدة.
مملكة هي في الواقع سجن.
في نهاية النهار، تُصبح ابتسامتهم أكثر تعبيراً، وهي تشي عن روح عفريتيّة جميلة ببراءتها.