لم يكن نهار الجمعة عادياً بالنسبة إلى الكاتب في مدينة #النبطية التي زارها مصادفة بداية العام الجاري 2019!
وحتى يكون دقيقاً، زار جارتها كفررمّان قبل نحو ستة عشر عاماً، ثلاث مرات، لمقابلة دكتوره المشرف على الماجستير حسن محمد نور الدين، رحمه الله. يذكر جيداً حين زاره بعد المناقشة برفقة والده عبد الحميد، رحمه الله، كي يشكره... ويذكر جيداً حديثه آنئذٍ عن مآثر النبطية وعالِمها الكبير الصبّاح، حيث وصلوا إلى نتيجة مفادها أن لا مستحيل مع الإرادة!
مرّ نحو عقد ونصف العقد على حديثهم الأخير... وفي هذه المرة غدا أستاذاً جامعياً وما زال يسمع بعالمٍ مخترعٍ كبيرٍ عبقريٍ اسمه الصبّاح، مع أنه درس عنه في كتب القراءة بالمرحلة الابتدائية، وعرفه عالماً فذّاً، وسمع منذ طفولته عن مدينته التي طالما حلم بالتجول في ساحاتها وأسواقها وطرقاتها وبيوتها القديمة.
لا يدري سبب عدم زيارته لها، مع أنها ليست ببعيدة، ومع أنه كان متلهفاً لزيارة ضريح ذاك العالم. وقال مرة في نفسه: لمَ لا تبحث عن أقربائه لتزورهم وتسألهم عن العالم الراحل؟
وصل إليها في الموعد المحدد لرؤية الطبيب الذي تأخر. تذكّر اسم الصبّاح. قال: سأمشي قليلاً وأصوّر الطرق وبعض البيوت القديمة. فبدأ يصوّر ويمشي ويراقب بعض المباني العتيقة، إذ باسم العالم يستوقفه. خفق فؤاده. قال: وصلت إلى حيث كنت أحلم. سأل رجلين خمسينيين: أيمكنني الدخول؟ قالا طبعا.
دخل. وقف في أول الممر. بدأ يلتقط صوراً للذكرى. في نهاية الممر عثر على الضريح كمن وجد قريباً لم يغيبه الموت. دخل، إذ برجل خمسيني يتصور مع طالبتين من كلية العلوم، ويحدّثهما عن عظمة العالم الصبّاح الذي توفي العام ١٩٣٥، وعمره لم يتجاوز الثلاثين عاماً!
_ أيمكنني التقاط صور هنا؟
_ أهلا بك.
سأله: هل العالم قريبك؟ أجاب بكل فخر: نعم، هو ابن عمي!
قال في نفسه: وجدتها، ردّد ذلك كمن وجد كنزاً وحبيباً غائباً!
نعم، تعرّف إلى هذا الرجل الخلوق النبيل الوفي اسمه عبد الأمير الصبّاح. سأله وكان يجيب كمن يروي حكايا الأمومة! إنه وفيّ لابن عمه مع أنه لم يره. يؤدي دور الدليل السياحي مع أنه ليس كذلك، فهو يبقى في المعلَم هذا كل أيام الأسبوع، من الثامنة حتى الثالثة ما عدا الأحد.
قال له: هل يمكن إجراء مقابلة سريعة معك؟ قال: بكل سرور!
_ ما سبب وجودك الدائم ههنا؟ قال: الدافع إنساني شخصي عائلي ومقاوم.
_ ماذا يعني لك حسن الصبّاح؟
يعني لي الكثير، فهو إنسان مناضل مكافح للوصول إلى أعلى قمة في العلم، وفعلاً وصل وقطع أشواطاً، ولقِّب بفتى العلم الكهربائي، ولقِّب بفتى مؤسسة مهندسي الكهرباء الأميركية.
_ كونك ابن عمه، ما شعورك؟
أشعر بالفخر، فهو ابن الجنوب الصامد، ما يؤكد أن لنا مخزوناً من العلماء. انظر يا دكتور أنور إلى هذه الخرائط. هو الذي اخترعها، وهناك اختراعات مشفّرة عديدة طالبنا بها لكن دون جدوى، وفيها اختراعات لم يفهمها سواه!
وأخذ عبد الأمير يقصّ بإسهاب فاجعة موته: "حادثة مقتله تثير إشكاليات جمّة، يقال إنه وجد نفسه مظلوماً من شركة جنرال إلكتريك التي عمل بها في أميركا، فكان نصيبه من كل نظرية يخترعها دولاراً واحداً، وبالمقابل تبيع الشركة الإنجاز بملايين الدولارات. فأحبّ الرجوع الى بلده. بعث رسالة الى أهله، ومن ثم للملك فيصل. ومن جملة ما ورد فيهما أنه سيرجع إلى لبنان، ثم السعودية.. وسيحوّل صحراء الخليج إلى جنّة. الرسائل ونيّته بالعودة كانت على ما يبدو مراقبة من الأميركان.
بعد ذلك، "قالوا" طلع بالسيارة وتوفي بحادث".
ويتابع السيد عبد الأمير كلامه بالحديث عن الجثة التي كانت محنّطة على بوابة الضريح الحالي وفي تابوت زجاجي يراه الناس، وبقيت ثلاثين سنة هناك حتى نفذ إليها الهواء فصارت الجثة تتحلل. وبعد مشورة، دفن هنا. ويحيي المحبون ذكراه سنوياً في شهر نيسان!
وفي كلام مؤثّر ذات دلالة، قال عبد الأمير إن العالِم الكبير بقي ثلاثين سنة بلا كهرباء مع أنه اخترع المصباح الكهربائي. ويتحمّل مسؤولية الإهمال الناس والدولة والرسميو..
عبارات مؤلمة أشعلت حرقة المحاور، قالها السيد عبد الأمير قبل أن تتصل به سكرتيرة الطبيب قائلة: وصل الطبيب الآن!
ترك الضريح مسرعاً... وقلبه بقي محفوراً مع العالِم الكبير الذي عشق عقله الخلاّق الذي قلب وجه العلم والتاريخ!
إنه العالِم حسن كامل الصبّاح رائد الثورة الإلكترونية الكهربائية، الساعي إلى استنباط الطاقة النووية واستغلالها. ويبدو أن إنجازاته طُوِّرت وأحلامه الكبرى حُقِّقت، من دون أن نفيد منها نحن العرب!
اقرأ للكاتب أيضاً: "شعراء جبل عامل المعاصرون": موسوعة "الوحدة الوطنية" الأدبية وكتّاب الهمّ الإنساني
أستاذ في الجامعة اللبنانية