لطالما غبطت أولئك الّذين لا يجلسون سجناء المقاعد الدّراسيّة، إلى أن أتت معلّمة التّربية المدنيّة لتحدّثنا عن عمالة الأطفال، أولئك الّذين كنت أظنّ أنّهم يتنقّلون بين الشّوارع بحريّة، لا أقلام تتعبهم، ولا علامات تقلقهم... إلى أن رنّت في أذني كلمات الختام: "سوف نذهب الأسبوع المقبل للقاء طفل يدعى "أبو الهمم"، نظرًا لهمّته العالية في جني المال بين أترابه".
بتُّ متشوّقة للقائه، وقد أعددت له باقة أسئلة متنوّعة لأقف عند تفاصيل حياته، ويومًا بعد يوم، بدأ شوقي يزداد لهذا اللّقاء المرتقب للتّعرف على حياة هؤلاء، والّتي خلتها جميلة لبساطتها.
أتى اليوم الموعود، وشقّت الحافلة طريقها، وما لبثت أن وصلت، ترجّلت وأصدقائي من الحافلة وكلّي توق لرؤية تلك الحياة الخالية من القيود.
دخلت ذلك المكان فإذ بي بين أبنية قديمة تلتصق ببعضها، وقد شُقّ وسطها ممرّ ضيّق وسخ لا يعرف معنى للشّمس، فقد هجره النّور منذ الأزل، تلفتُّ حولي فرأيت بيوتًا من حجارة قديمة ملأتها الشّقوق، وأكل الدّهر وشرب على جدرانها، فإذ بلسعات الهواء البارد تتسلّل لتنخر العظام.
وصلنا إلى بيت إبي الهمم، سقف حديديّ صدئ قديم ومهترئ، وغرفة واحدة تختصر كل البيت. كان أبو الهمم يتصدّر الغرفة كملك مهيب. جلست قبالته وبدأت بطرح الأسئلة وتدوين ما تيسّر لي فهمه لأنّه يتكلّم بلكنة غريبة، وبينما نحن على هذه الحال، قاطع شريط أفكارنا صراخ وعويل وأنين، هبّ أبو الهمم كاللّيث الغضبان، فإذا به يرى ابن عمّه البطل صريعًا، لقد شرب قارورة "تنر" ظنّاً منه أنّها قارورة ماء، رغم أنّه مكتوبٌ عليها بالخطّ العريض "إحذر، سمّ قاتل"، لكنّ أولئك الأطفال لا يقدرون على فكّ الحرف، فكيف يقرأون جملة؟
ومن فوري رحت أصرخ: "لقد شرب سمّاً قاتلاً، هاتوا لي كوب حليب بارد بسرعة". أشربناه الحليب البارد ونقلناه بباص المدرسة إلى أقرب مشفى، حيث استطاعوا إنقاذه لأنّ الحليب شكّل حاجبًا في الجهاز الهضميّ فأبطأ عمليّة امتصاص السمّ.
هتف الجميع لي "لقد أنقذت البطل"، فقلت في قرارة نفسي، صحيح أنّني أنقذت البطل، لكنّه بدوره أنقذني من غفلة عشتها لأعوام طوال، لقد أدركت حينها أنّني كنت مخطئة، فالمدرسة نعمة من نعم الحياة، والتعلّم حقّ من أجمل الحقوق، وهو حقّ يجب أن يتمتّع به الجميع.