بعدما شهدت فرنسا منذ حوالي عشرة أيام موجة الحرّ الأعنف في تاريخها، أتى دور ولاية ألاسكا الأميركيّة لكي تسجّل بعض مدنها الرقم القياسيّ الخاص بها في هذا المسار. يوم الخميس الماضي، وصلت الحرارة في أكبر مدن الولاية، أنكوريج، إلى 32.2 درجة مئويّة وهي الأعلى المسجّلة في المدينة على الإطلاق. وتمّ تسجيل الرقم القياسيّ السابق في 14 حزيران 1969 حين وصلت الحرارة إلى 29.4 درجات. تخطّي درجات الحرارة عتبة الثلاثين في مدن ولاية تقع أطرافها الشماليّة ضمن الدائرة القطبيّة ليس أمراً جديداً ولكنّه مع ذلك يعيد إلى الأذهان التوقّعات بأن تتعرّض المناطق الواقعة في هذه الدائرة للاحترار الأسرع في العالم. وتشير الدراسات الحديثة إلى أنّ ذلك يحدث فعلاً.
الإنذارات الأولى
يصعب الجزم حاليّاً بأنّ موجة الحرّ هذه ترتبط مباشرة بالاحترار العالميّ، لكنّ حدّة هذه الموجات تسترعي الانتباه. ذكر خبراء أنّ ارتفاع الحرارة في موجات الحرّ المتطرّفة سيكون ضعف متوسّط ارتفاع الحرارة على الأرض بسبب التغيّر المناخيّ. وما شهدته أنكوريج والمدن المحيطة بها كما دول وسط وغرب أوروبا خلال الأيّام القليلة الماضية قد يكون واقعاً في هذا السياق.
لكن ما يلفت الأنظار أنّ الحرارة القياسيّة على مستوى الولاية ككل تمّ تسجيلها في مدينة فروت يوكون سنة 1915، أي حين كانت مفاعيل الاحتباس الحراريّ ضئيلة جدّاً. حينها لامست الحرارة 38 درجة مئويّة. أمكن أن تكون موجة الحرّ تلك السنة استثنائيّة، علماً أنّ مدينة فيربانكس سجّلت حرارة بلغت 37.2 درجة في تمّوز 1919. بذلك لن يكون من المستبعد أيضاً تشكيل تلك الأرقام الإنذارات الأولى عن توجّه الأرض إلى الاحترار.
أخدود للعواصف الثلجيّة
أشارت تقارير غربيّة إلى الموجة الحاليّة تعود إلى "قبّة حراريّة" وهي منطقة من الضغط الجوّي المرتفع سيطرت فوق جنوب الولاية. تتعرّض الولاية للضغوط المرتفعة في فصل الشتاء أيضاً فتؤثّر على طقس الولايات المتّحدة أيضاً. وقد يرتبط مناخ ألاسكا بمناخ جزء كبير من المحيط المتجمّد الشماليّ الذي يطلق سلسلة من التفاعلات الجوّيّة فوق البلاد تظهر بشكل أوضح خلال العواصف الثلجيّة العنيفة التي تضرب قسميها الأوسط والشرقيّ والتي قد تتضاعف في السنوات المقبلة. ورأت خبيرة المناخ جينيفر فرنسيس أنّه حين تكون حرارة المحيط الهادئ أعلى من معدّلاتها في الشتاء وتتزامن مع حرارة عالية بالقرب من ألاسكا يتشكّل "أخدود" يدفع الهواء القطبيّ البارد نحو الوسط أو الشرق فتتساقط الثلوج في مناطق غير معتادة على ذلك.
وعادة ما يكون تفاوت توزيع الضغوط بين شرق وغرب الولايات المتّحدة أمراً طبيعيّاً لكنّ حدّة هذا التفاوت وتأثيرها على الأحوال الجوّيّة الأميركيّة وربّما المناخ الأميركيّ على المدى البعيد يعدّ أحد محاور تركيز العلماء. بالتالي، تصبح ألاسكا منطقة متأثّرة ومؤثّرة بالتغيّر المناخيّ أو بتداعياته، نظراً لمحاذاتها للدائرة القطبيّة الشماليّة. ولذوبان الجليد القطبيّ تداعياته على مضاعفة أثر الاحترار العالميّ.
تراجع الجليد.. لماذا يرفع حرارة الأرض؟
يشكّل الجليد بسطحه الأبيض عاكساً أساسيّاً لقسم كبير من أشعّة الشمس بل القسم الأكبر منها. بناء على ذلك، كلّما تراجعت المساحات الجليديّة في القطبين الشماليّ والجنوبيّ والمناطق المحيطة بهما، تراجعت كمّية الحرارة التي تستطيع الأرض التخلّص منها. وينطبق الأمر نفسه على الثلوج والأنهار الجليديّة في الجبال الشاهقة، وإن بنسب أقلّ. يشرح "المركز الوطنيّ لبيانات الثلج والجليد" أنّ هذه المساحات قادرة على أن تعكس 80% من أشعّة الشمس التي تصطدم بسطحها.
لكنّ المشكلة لا تقتصر على تقلّص الجليد العاكس للحرارة. المياه الحلوة الناتجة عن ذوبان الجليد تتميّز بلونها الداكن وبالتالي هي تعزّز الاحترار، بما أنّها تمتصّ أشعّة الشمس أكثر فترتفع حرارتها قبل أن تعود وتذيب الجليد المحيط بها، فتطلق حلقة مفرغة من الأسباب والنتائج التي تؤثّر على آلة طبيعيّة مهمّة في تبريد الأرض والحفاظ على اعتدالها. وبالعودة إلى الأرقام التي يقدّمها "المركز الوطنيّ لبيانات الثلج والجليد"، بدلاً من أن يعكس الجليد 80% من حرارة الشمس، تقوم المياه الداكنة بامتصاص 90% منها. وحتى في المناطق التي لا يزال الجليد يغطّيها، تكمن المشكلة في أنّ سماكته آخذة بالتقلّص مع مرور السنوات.
"طقس أيار في آذار"
نظراً لقربها الجغرافيّ، ستتأثّر ألاسكا بهذه الظواهر. وعلى أيّ حال، لم يكن تمّوز وحده ما أطلق موجة حرّ قياسيّة في بعض مناطق الولاية. ما شهدته الأخيرة في شباط وآذار كان أكثر إثارة للقلق.
"العديد من المناطق هي على طريقها كي تكون الأعلى حرارة في سجلّات شهر آذار". هذا ما قاله ريك ثومان، متخصّص في الشؤون المناخيّة في "مركز ألاسكا لسياسات وتقييم المناخ" الأميركيّ، لوكالة الصحافة الفرنسيّة في آذار 2019. وأضاف: "لدينا الآن طقس نيسان أو أيّار في آذار".
من هنا، يمكن فهم إشارة "الإدارة الوطنيّة للمحيطات والغلاف الجوّي" سنة 2018 إلى أنّ درجة حرارة سطح وهواء القطب الشماليّ ترتفع بمقدار ضعف احترار سائر مناطق الكوكب. وارتفاع الحرارة الذي تشهده ألاسكا يعود جزئيّاً بسبب هذه الظاهرة، بحسب موقع "لايف ساينس" الأميركيّ.
"أسوأ مخاوفي"
إنّ المخاوف من ارتفاع درجات حرارة ألاسكا لا يقتصر فقط على العوامل الطبيعيّة بل تنبع أيضاً من تغيّر نمط عيش السكّان بسبب تأثّر الموارد الزراعيّة وصيد الأسماك والطيور والملاحة وهي ناتجة عن التغيّر المناخيّ.
ولخّص ثومان مخاوفه ل "أ ف ب" قائلاً: "أسوأ مخاوفي هي سرعة التغيّر وإمكانيّة القدرة على التأقلم. الألاسكيون مرنون، ثقافتنا الأصليّة كانت هنا حوالي 10 آلاف سنة، لكنّ التغيّر لم يحصل قطّ بهذه الوتيرة".