كثر من قلة ما زالت تولي اكتراثاً للشأن العام بعد التدهور الحاصل والعجز عن الفعل الفارض نفسه، يفتقدون بطبيعة الحال حضور رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ويتطلعون إليه في المختارة أو كليمنصو فيلقونه أقرب الى "الانكفاء" الاختياري عن أي فعل آخر.
الحال هذه سمة مستمرة عند الزعيم الاشتراكي منذ ما يقرب من شهرين حتى إن ثمة من بات يردّد من باب التندر إحصاءً فحواه أن جنبلاط قد نذر للرحمن صوماً عن الكلام المباح واستطراداً عن الحراك والفعل الى درجة أن كل ما صدر عنه خلال الأسابيع الثلاثة الماضية هو عبارة عن ثلاث تغريدات معظمها تخطى الإطار المحلي الضيّق.
أداء ولا ريب مستغرب من جانب الزعيم الاشتراكي الذي ما اعتاد انقطاعاً عن الكلام والفعل في أوقات أكثر يسراً وسلاسة فكيف والوضع على ما هو عليه من مستويات التعقيد والاحتدام. وهذا إن دل على شىء فإنه يشي بأمور ثلاثة:
– أن جنبلاط يبدو المطمئن الوحيد في وقت ارتفع فيه منسوب القلق عند الشريحة الأوسع من الساسة.
– أنه مقيم على قرءاة سياسية ثابتة لمستقبل الوضع الآخذ بالتصعيد، وهو ينبئه بأنه لن يكون من الخاسرين قطعاً مهما كانت نتائج سير الأمور.
– أنه يملك علم اليقين بالمسارات المتوقعة للأوضاع فيما باقي القيادات والمكوّنات تعيش مرحلة اللايقين من أي شيء. وهو في هذا الوضع يأبى المغامرة وكثرة الحراك ويؤثر في المقابل السكون والسلامة في انتظار اللحظة المؤاتية التي تبيح له استئناف ما بدأه ووصل ما قطعه.
ولكن كل تلك المقدمات على بداهتها لا تنطوي على الجواب المطلوب للسؤال الملح: هل سيد المختارة بكّر برسم خريطة طريق واضحة ومحدّدة المعالم لا يتوه بعدها ولايضلّ وسط هذا الجوّ الغارق بالالتباس والضياع، وهي ستفضي به حتماً الى سكة السلامة لذا لم يكن عليه إلا أن يسلك هذا المسلك البعيد عن الصخب على رغم أنه منافٍ لطبيعته ومغاير لأداء زعامة المختارة العريقة في اللعبة السياسية؟
يجنح الراصدون بدقة لأداء جنبلاط السياسي الى تبنّي الاستنتاج أن جنبلاط أيقن منذ أن لاحت في الأفق معالم الشغور الرئاسي أن الأمور متجهة الى فراغ سياسي مديد وأن ما من قوة محلية مهما أوتيت من عناصر القوة بقادرة على ملء هذا الفراغ وإشغاله أو حتى إحداث تموجات فيه. وبناءً على هذه القرءاة فإن جنبلاط انطلق باكراً في إنفاذ خطة مدروسة عنوانها العريض: سأبذل كل ما أوتيت من جهود لكي لا يوجّه لي أحد في يوم من الأيام إصبع المسؤولية والاتهام عن أي فعل خاطئ ولكي لا أسأل عن تداعياته الآتية.
وبناءً على ذلك ما كان من جنبلاط إلا أن زان الأمور بميزان الذهب البالغ الحساسية وكان مبادراً في إطلاق معالم أول تسوية سياسية مدروسة بعناية عنوانها العريض: دعونا نمضِ الى رئيس توافقي في أسرع وقت يكون من خارج كل الاصطفافات ولا يثير استفزاز أي جهة. وعلى هذا الأساس لنبنِ ما بقي من مكوّنات السلطة قبل فوات الأوان.
وأول خطوة عملانية نحو هذا الهدف البيّن خطاها جنبلاط كانت في اتجاه القوة المحورية وهي "حزب الله" وذلك عندما رتب وصول وفد قيادي من الحزب ضمّ حسين الخليل ووفيق صفا الى كليمنصو. وكان كلامه للوفد الزائر في حينه مباشراً وخالياً من أي مواربة: تعالوا معي الى كلمة سواء لنمضي الى رئيس توافقي يرضي كل الأطراف الداخلية ويشكل عامل ثقة للخارج وتخلوا عن مرشحكم المجاهر به لأن ثمة صعوبات تحول دون ضمان وصوله الى سدّة الرئاسة الأولى. ولم يفت جنبلاط أن يحذّر زواره من أن الوقت ليس بالضرورة لمصلحة توجّهاتكم واجعلوني معياراً للتسوية التي أبشّر بها ولن تجدوا مني إلا كل خير. بعد تلك المقدمة ذهب جنبلاط الى بيت القصيد فأخرج لائحة الأسماء الثلاثية الشهيرة التي تضم كلاً من الوزير السابق جهاد أزعور والنائب السابق صلاح حنين وقائد الجيش العماد جوزف عون.
وتلى ذلك اللقاء كما صار معلوماً محطات مماثلة لوفود من الحزب وتكتل اللقاء الديموقراطي الى كل من بكركي ومعراب وقبلهما عين التينة. تعمّد جنبلاط في ذلك الحين ألا يستثني أحداً وألا يظهر بمظهر المتحدّي لأي جهة.
ولعل ذروة الضوء في عملية التسويق الجنبلاطية لهذه المبادرة كانت في عين التينة، إذ يروي الرواة أن جنبلاط أبلغ حليفه القديم رئيس مجلس النواب نبيه بري ما مفاده: أنا جادّ في مبادرتي ودعوتي وأتمنى من كل قلبي الفلاح والسداد، لكن أريد أن تثق بأنني قد وضعت نصب عينيّ هدفاً أساسياً وهو أنني سأعمل كل ما في وسعي ألا أصطدم في يوم من الأيام بحزب الله على خلفية التباين على انتخابات الرئاسة.
ويومها وحسب عارفين فإن سيد عين التينة الفاهم جيداً لأبعاد تحركات رفيق الرحلة السياسية الطويلة والحافلة بالتجارب والعبر وأدائه السياسي، استنتج أن لمبادرة جنبلاط حدوداً وصلاحية ستنتهي يوم يستشعر أنها ستتحول الى صدام خيارات مع حسابات الحزب وتوجهاته، وأنه بالتالي يحاذر هذا الصدام.
وفي المقابل فهم الرئيس بري أيضاً أن لمبادرة زعيم المختارة حدوداً زمنية ومكانية وأنه بناءً على ذلك سيبادر الى طيّها ووضعها على الرف وأنه ليس مستعداً لاستبدالها بأي مبادرة أخرى.
وهذا ما حصل، فجنبلاط بعد أقل من أسبوع على تلك المبادرة بادر بأقل قدر ممكن من الضجيج الى سحب تلك المبادرة من التداول السياسي وأعطاها صفة المبادرة الأرشيفية المرجعية انطلاقاً من فرضية معروفة وهي أن زمن التسوية الكبرى لم يحن بعد وأن المطلوب أن تاخذ الأمور مداها الطبيعي وحدّها الاقصى ليلعب كل من يريد كل أوراقه ويجرّب خياراته...
وبناءً على كل هذا فإن المحيطين بدار المختارة والمطلعين على بواطن تفكيرها يقدّرون أن المطلوب وفق تلك الرؤية الجنبلاطية:
– على المستوى السياسي العام يُحظر فتح أي سجال أو اشتباك سياسي يمكن أن يتطور حتى وإن كان الآخرون هم البادئين بالمشكل.
– على مستوى الأرض المطلوب الحذر من فتح أي مشكل والابتعاد قدر الإمكان عن المواجهة.
– وخلال هذا الوقت المستقطع وضع جنبلاط نصب عينيه مهمة إدارة الوضع في الجبل بأريحية ودقة ووفق إدارة يومية تجتمع كل صبيحة لدرس كل التفاصيل والخيارات المتاحة.