8 شباط: ذكرى غياب شاعر الأَرز شبلي ملَّاط (قد يكون شبلي ملَّاط (1875-1961) - وهو مَن هو في عالَم الأَدب - طليعة شعراء كبار قلائل تبَوَّأُوا منصبًا رسميًّا فَشَرَّفُوهُ. ولأَنَّ الشاعر من إِقليم آخر غير الإِدارة والسياسة ويُنصِّع أَيَّ مسؤُوليةٍ يتولَّاها، كانت لـ"شاعر الأَرز" هَيبتُهُ في منصبه سبْعَ سنواتٍ "رئيسَ القلم العربي في متصرفية جبل لبنان" (فترتئذٍ بمثابة وزير داخلية) منذ 1911 على عهد المتصرف قبل الأَخير يوسف فرنكو باشا، فطوال الحرب العالمية الأُولى ودخول الجيش العثماني جبل لبنان (بعد إِلغاء عدد من امتيازات المتصرفية) وبقي في هذا المنصب حتى 1918. وإِبان ذلك، ولو انه أَوقف جريدته "الوطن"، لم يَغِبْ عن حضوره الشعري الساطع، فمثَّل أُدباءَ لبنان نهار 24 نيسان 1913 إِلى مهرجان تكريم خليل مطران في القاهرة بدعوة من "مجلة سركيس" الذي طلب منه هناك أَن يحرِّر نصف عدد خاص من مجلته وتحرِّر النصف الآخر مي زيادة، فَفَعَل وفعَلَتْ.
هذا الحضور القويّ، شعريًّا ومنبريًّا ووظيفيًّا، عَكَسَه حفيدُه الدكتور هيام جورج ملَّاط في كتاب كان أَصدَره قبل نحو عام: "الحرب العالَمية الأُولى في ذاكرتي العائلية" (144 صفحة) وفيه ملامحُ عن جدِّه لأَبيه ("شاعر الأَرز") وجَدِّه لأُمِّه (يوسف فريفر).
من تلك "الذاكرة" في مكتبة هيام ملَّاط: وثائقُ عن تاريخ لبنان وسْط فواجع الحرب الضارية، بُلُوغًا إِلى تحوُّلات سبقَت ولادة "دولة لبنان الكبير"، وما رافق تلك الحقبة من صعوبات وقلَق الانتقال من الزمن العثماني إِلى الانتداب الفرنسي. وهو أَحسَنَ في نسْجه شريطَ الأَحداث منذ دخول تركيا الحرب العالَمية الأُولى وما كان لـ"شاعر الأَرز" من دور فاعل إِبَّان أَصعب سنواتها، فنفْي أَول موكب من اللبنانيين إِلى القدس سنة 1915، فالعلاقة النبيلة بين جدِّه شبلي والأَمير شكيب أَرسلان. ويزخر الكتاب بعدد ثمين من وثائق بالفرنسية الأَصلية وأَخرى بالعربية، مع إِشارات وتعليقات وإِيضاحات.
يلفت في "ذاكرة" هيام ملاط ما رواه عن يومٍ في طفولته إِذ كان يقرأُ في صفحة من "كتاب اللغة العربية" نصًّا عن شهداء 6 أَيار، فيها صورة جمال باشا والمشانق التي علَّق عليها الشهداء، حتى إِذا سأَل ابنُ التاسعة جدَّه عن الضرر الذي أَلْحقه جمال باشا باللبنانيين، أَجاب الجدّ معايشُ تلك الفترة أَنْ: "بلى... لكن َّكثيرًا من اللبنانيين أَضَرُّوا بشعبهم أَكثر من جمال باشا".
لم يستوعب الطفل جواب "جدُّو شبلي"، حتى تسنَّى له لاحقًا في شبابه أَن يقرأَ في عدد قديم من مطبوعة شارل قرم "المجلة الفينيقية" (1919) عن وشايات اللبنانيين بعضهم ضدَّ بعض خلال سنوات الحرب العالمية الأُولى، منها مثلًا ما وُجِدَ في محلة "الجمَّيزة": أَكياس كبيرة منتفخة بالدسائس والمكاتيب والوشايات، إِذ كان أَولياءُ الديوان العرفي جنَّدوا كثيرين من اللبنانيين المتزلِّفين إِلى الحكَّام تَمَلُّقًا ونفاقًا، فاشتدَّت الجاسوسية من أَهل البيت ضد أَهل البيت، فاقدين كلَّ حسٍّ بالانتماء.
الانتماء... هذه هي الكلمة... ولا تضعف بلادٌ كما يحصل لها حين يفْقد أَهلها حسَّهم بهويتها والانتماء إِليها. وما قاله شبلي ملَّاط لحفيده ابن التاسعة: "غدًا تَفهم أَكثر عندما تَكبَر"، فهمناه نحن أَيضًا، ونعاينه اليوم ونعاني منه كل يوم، حيال "پــيــتــانيين" يخونون لبنان كلَّما صاح الديك.
يَسْلَم قلمُ هيام جورج ملَّاط على "ذاكرته العائلية"، ففي ثنايا الذاكرة غالبًا عِبَرٌ عن الماضي تأْتي من المستقبل إِلى حاضر نبنيه كلَّ يوم وطنًا يأْمَن فيه أَولادُنا فأَولادُهم حياةً لا يهدِّدها أَحفاد يوضاس، ولا يخترقُها جواسيس جمال باشا.
[email protected]