النهار

المحبة والرحمة والأخوّة
متى 14:6-15.
A+   A-
كان لنا منذ بضعة أيّام لقاءُ مودّةٍ مع سماحة الشيخ سامي أبو المُنى شيخ عقل طائفة الموحِّدين الدروز. فعُدْنا بالذاكرة إلى ندوات الحوار الإسلاميّ المسيحيّ المتعدِّدة التي شاركنا فيها معًا، وكان دومًا يؤثّر فيّ موقفُ سماحته المعتدلُ والمنفتحُ المبنيُّ على العقل والحكمة. وفي أثناء هذا اللقاء اختصر سماحته في ثلاث كلماتٍ ما تتميَّز به الأديان الثلاثة، المسيحيّة والإسلام والموحِّدين الدروز، من فضائل تصلح لأن يُبنى عليها العيش المشترَك بل العيش الواحد المسالم في وطنٍ متعدِّد الأديان. فقال إنّ المسيحيّةَ تتميَّز بالمحبّة، والإسلامَ بالرحمة، والموحِّدين الدروز بالأُخوَّة.

أوافق سماحتَه وأرى أنّ هذه الفضائلَ الثلاثَ هي فضائل متلازمة، تتضمَّن كلُّ منها الفضيلتين الأُخريَيْن. فالمحبّةُ لا تكتمل إن لم تتضمَّن الرحمة والأُخوَّة. والرحمةُ لا وجود لها إن لم تُبْنَ على المحبّة والأُخوَّة. والأُخوَّةُ لا تعني شيئًا إن لم تُرافقْها المحبّة والرحمة.

فإذا تصفَّحنا الإنجيل المقدَّس تبيَّن لنا بوضوحٍ أنّ السيّد المسيح يركِّز في تعاليمه على هذه الفضائل الثلاث معًا. ففي حديثه عن المحبّة، يقول: "سمعتم أنّه قيل: أحببْ قريبَكَ وأبغضْ عدوَّكَ. أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءَكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم". ثمّ يُضيف: "لكي تكونوا أبناءَ أبيكم الذي في السماوات" (متى 43:5-45). هكذا يبني محبّةَ الناس بعضِهم لبعضٍ على كونهم جميعًا أبناءَ الله الواحد، وبالتالي إخوةً بعضهم لبعض. وهذا ما يؤكّده أيضًا في قولٍ آخر: "أنتم كلُّكم إخوة. ولا تدعوا أحدًا على الأرض ’أبي‘، لأنّ أباكم واحدٌ وهو الذي في السماوات" (متى 8:23-9). ويوحنّا الإنجيليّ، عندما يتكلَّم على موت يسوع، يقول إنّ يسوع قد بذل ذاتَه "ليجمعَ في الوحدة أبناءَ الله المشتَّتين" (يوحنّا 52:11). ويتوسَّع في الرباط بين المحبّة والأخوّة، فيقول: "إنْ قال أحدٌ: إنّي أُحِبُّ الله، وهو يُبغِض أخاه (أي أخاه الإنسان)، فهو كاذب. فمن لا يحبّ أخاه وهو يراه فلا يستطيع أن يُحِبَّ الله وهو لا يراه. هذه هي الوصيّة التي لنا منه: مَنْ أحبَّ الله فليُحبَّ أخاه أيضًا" (1 يوحنّا 21:4).

وعندما يتكلَّم يسوع على الرحمة، يربطها أيضًا بالاقتداء بالآب السماويّ، فيقول: "فكونوا رحماءَ كما أنَّ أباكم رحيم" (لوقا 36:6). وهذه الرحمة تظهر بنوع خاصٍّ في المغفرة والمسامحة. لذلك يقول أيضًا: "إنْ غفرتم للناس زلاّتهم غفر لكم أبوكم السماويُّ زلاّتكم، وإن لم تغفروا للناس فأبوكم أيضًا لا يغفر لكم زلاتكم" (متى 14:6-15). وهذه المغفرة لا حدّ لها. فعندما سأل بطرسُ يسوع: "يا ربّ، كم مرّةً يخطأ إليَّ أخي وأغفر له؟ أإلى سبع مرَّاتٍ؟ قال له يسوع: لا أقول لكَ إلى سبع مرّاتٍ بل إلى سبعين مرّةً سبع مرّات" (متى 21:18022). لذلك عندما يُعدِّد بولس الرسول صفات المحبّة، يقول: "المحبّة تتأنّى وترفق، المحبة تتغاضى عن كلّ شيء، وتصدِّق كلَّ شيء، وترجو كلَّ شيء، وتصبر على كلِّ شيء" (1 كورنثُس 4:13-7).

في شباط 2019 صدرت وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة من أجل السلام العالميّ والعيش المشترَك"، وقّعها معًا قداسة البابا فرنسيس وسماحة شيخ الأزهر أحمد الطيّب إثر لقائهما في الإمارات العربيّة المتّحدة. وقد جاء فيها ما يلي: "إنّ الحرّيّة حقٌّ لكلّ إنسان: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسة، وإنّ التعدّديّةَ والاختلافَ في الدين واللون والجنس والعِرْق واللغة حكمةٌ لمشيئة إلهيّة، قد خلق الله البشرَ عليها، وجعلها أصلاً ثابتًا تتفرّع منه حقوق حرّيّة الاعتقاد، وحرّيّة الاختلاف، وتجريمُ إكراهِ الناس على دينٍ بعينه، أو ثقافةٍ محدَّدةٍ أو فرضِ أسلوبٍ حضاريٍّ لا يقبله الآخر".

إنّ الاختلافَ في العقائد بين الأديان والمذاهب لا ينبغي أن يكونَ سببًا لينعتَ المؤمنون بالله بعضُهم بعضًا بالكفر. فالله هو الكائن المطلَق، ولن يستطيعَ الإنسان، مهما حاول واجتهد، أن يُحيطَ بسرّه. وكلُّ كلامٍ فيه هو مجرَّد تلمُّسٍ لبعض ظواهر كيانه في العالَم وفي التاريخ. يقول الفيلسوف الألمانيّ هايدغر: "نحن سائرون نحو اللغة". فاللغة لا تعبّر التعبيرَ الكافي عن الفكر الإنسانيّ. فكم بالأحرى اللغة الدينيّة، التي ليست لغةً تصف الواقعَ بشكلٍ موضوعيٍّ على غرار اللغة العلميّة، إنّما تهدف إلى التقرُّب إليه تعالى لمعرفة أحكامه والعمل بوصاياه.

ليت المسيحيِّين والمسلمين والدروز في لبنان يُدركون جميعُهم تلازمَ هذه الفضائل الثلاث، المحبة والرحمة والأُخوّة، ويبنون علاقاتهم بعضُهم مع بعضٍ على هذه الركائز الثلاث، وهكذا يُطبِّقون وصيّة البابا القديس يوحنّا بولس الثاني: "لبنان ليس مجرَّد وطن. إنّه رسالة عيشٍ واحدٍ في المحبة والسلام بين مؤمنين من أديانٍ ومذاهبَ متعدِّدة".

اقرأ في النهار Premium