يكاد لا يمر يوم إلا وتنفذ فيه الطائرت الإسرائيلية غارات تستهدف إما منشآت مدنية ومنازل في الجنوب أو في العمق اللبناني أو تستهدف كوادر لـ"حزب الله" في مناطق بعيدة عن الحدود، خارقة قواعد الاشتباك في شكل واسع ضمن حرب متغيّرة تستدرج فيها لبنان مع تهديدات تتوالى من مجلس الحرب الإسرائيلي ووزراء في حكومته بشن هجوم لإبعاد "حزب الله" عن الحدود وإزالة ما تسميه التهديد الأمني بما يضمن عدم العودة إلى ما قبل 8 تشرين الأول 2023. وفي وقت حذر فيه السيد حسن نصرالله من أن استهداف المدنيين سيقابل برد مناسب، ورغم تأكيده أن الإسرائيليين لا يجرؤون على استهداف المدنيين، إلا أن ردود "حزب الله" بقيت ضمن معادلة القواعد ذاتها في المعركة من دون أن تتوسع نحو المدن الداخلية الإسرائيلية.
في المواجهة الحالية التي يشدد فيها "حزب الله" على مساندة غزة، دخل لبنان في حالة استنزاف مديدة، مرتبطة في شكل وثيق بما ستؤول إليه أوضاع غزة، في حال وصلت المفاوضات في باريس إلى الاتفاق على الهدنة قبل بدء شهر رمضان أو قررت إسرائيل شن حرب على رفح. وحتى الآن لا أحد يمكنه الجزم بنجاح المفاوضات، طالما أن إسرائيل تعمل وفق آلية مختلفة وتحدد المسارات بعد تجاوزها للضغوط الاميركية التي لم تصل إلى نتيجة مع استمرار تدفق إمدادات الذخائر للجيش الإسرائيلي، إذ لا أحد يعرف ما ستقوم به قوات الاحتلال، إن كان في رفح أو في الجنوب، ولذا تتكثف الاتصالات والمشاورات على أكثر من خط وتركز على تهدئة جبهة لبنان ومنع توسع المواجهات قبل الوصول إلى هدنة في غزة.
وفق الوقائع يتركز الجهد الدولي في لبنان على تجنب توسع الحرب في الجنوب، ويتقدم على حساب انضاج تسوية لانجاز الاستحقاقات الدستورية. وقد كان هذا التركيز واضحاً في الوساطة الفرنسية من خلال الورقة التي قدمتها حول الجنوب، وايضاً المبادرة البريطانية المتعلقة بأبراج المراقبة، إضافة إلى مهمة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين التي لم تحرز تقدماً حتى الآن لكنها مستمرة وراء الكواليس وفق مصدر ديبلوماسي متابع يقول أن لا أحد من الأطراف الدولية يمكنه إحراز تقدم في ملف الجنوب غير الأميركيين الذين يحصرون اهتمامهم بوضع هذه الجبهة في ما يتعلق بلبنان، وذلك على الرغم من حركة السفيرة الاميركية الجديدة ليزا جونسون حول مختلف الملفات. وهذا التركيز الاميركي أدى إلى ظهور اختلافات في وجهات النظر بين دول الخماسية وأرجأ مؤتمر دعم الجيش اللبناني في باريس.
فرض التصعيد الإسرائيلي وتوسيع دائرة استهدافاته ضد لبنان، واقعاً جديداً، ينذر بحرب واسعة، ويضع "حزب الله" أمام خيارات إما الرد الواسع وهو ليس بوارد ذلك لأسباب تتعلق بحسابات داخلية وإقليمية، أو البقاء ضمن قواعد اشتباك منضبطة تفلت أحياناً باستخدام أنواع جديدة من الصواريخ والطائرات المسيرة، أو تنفيذ عمليات نوعية محددة، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى مواجهة مفتوحة. ويعني هذا الوضع في الجنوب أن كل الملفات اللبنانية معلقة إلى حين، لكنه يفرض على "حزب الله" الإجابة عن تساؤلات كثيرة في الداخل اللبناني، خصوصاً عما إذا كان وضع الجبهة سيستمر على هذا المنوال ويزيد من حالة الاستنزاف اللبناني في ظل التصعيد الإسرائيلي المستمر، وايضاً عما إذا كان الحزب بوارد التفاوض حول الوضع في الجنوب بمعزل عما ستؤدي إليه المفاوضات حول غزة.
لكن السؤال الاساسي يبقى في ما إذا كان "حزب الله" سيرد بقوة على التصعيد الإسرائيلي لخلق توازن في القتال أو ما يسميه توازن الردع من دون أن يؤدي ذلك إلى اشتعال الحرب، خصوصاً وأن الحزب كان يحذر ويهدد إن كان عبر أمينه العام أو في بياناته بأنه سيرد بقوة على اي عمليات تستهدف العمق اللبناني، وهو ما لم يحصل، لكنه وضع الحزب في مأزق مع تكبده خسائر بين كوادره، والاخطر أنه زاد من حالة الاستنزاف اللبناني، وهو ما سيدفعه إما إلى إعادة صوغ وجهة جديدة لمواجهة الاحتلال تعيد التوازن، أو يختار التفاوض، وهما خياران لا يبدوان متاحين الآن في سياسة "حزب الله" في ظل استمرار حرب غزة، وهو ما يعني أن إسرائيل فرضت معادلة جديدة في حربها المتغيرة على لبنان، وكرست قواعد ستكون اساسية في أي تفاوض مقبل حول ترسيم الحدود وتطبيق القرار 1701.
في هذا السياق، يتبين في الوساطات تجاه لبنان أن هناك اختلافاً في المقاربات بين الدول. فبينما تركز دول الخماسية خصوصاً فرنسا وقطر على انجاز الاستحقاقات واستكمال تشكيل السلطة، وهو ما ينعكس تهدئة في الجنوب، حيث يمكن ضمن هذا المسار دفع "حزب الله" ومرجعيته الإيرانية إلى التفاوض، إلا أن الاميركيين مقتنعون بأن التقدم في مفاوضات الجنوب لا سيما من خلال مهمة هوكشتاين بات مرتبطاً بتطورات غزة، وإن كانت جرت محاولات أميركية لفصل الجبهتين. وهذه القناعة مستمدة من تقارير تستند إلى ما وصلت إليه المفاوضات غير المباشرة مع الإيرانيين، والتي تبين إصرار طهران على أن يكون لها دور في اي اتفاق في غزة، وهو أمر ينسحب على "حزب الله" وفق المصدر الديبلوماسي، والذي يرفض التفاوض أو التهدئة قبل وقف النار في غزة، وهو ما يفسر عدم عودة المبعوث الأميركي لاستئناف مهمته بين إسرائيل ولبنان، وانسداد الأفق حول فتح المسار التفاوضي على جبهة الجنوب. وعليه باتت كل الاستحقاقات اللبنانية مرتبطة بالوضع في الجنوب، بما في ذلك الرسالة السورية حول ملف الأبراج البريطانية، وهي رسالة احتجاج لم تظهر الا بعدما طرحها البريطانيون في جنوب لبنان ورفضها "حزب الله".
بالنسبة إلى لبنان، الرهان الوحيد الآن هو على التوصل الى هدنة في غزة في ضوء مفاوضات باريس، تنسحب تهدئة على جبهة الجنوب، وتفتح الطريق للتفاوض، طالما أن هناك اختلافات في الرؤى بين اطراف الخماسية خصوصاً بين الفرنسيين والأميركيين. لكن حتى لو نضجت الهدنة، فإن الخطر يبقى محدقاً بلبنان وفق المصدر الديبلوماسي، إذ لا أحد لديه القدرة على منع الإسرائيليين من تنفيذ تهديداتهم بالحرب أو توسيع نطاق عملياتهم، إلا إذا زادت الضغوط الأميركية المرتبطة ايضاً بأمن إسرائيل ومصالحها، علماً أن مهمة هوكشتاين التي منعت حتى الآن شن هجوم على لبنان، لم تستطع ضبط التصعيد الإسرائيلي بضرب العمق اللبناني وهو الامر الذي يهدد بتوسع الحرب أو تفلتها في المنطقة. ويعني ذلك وفق معادلة إسرائيل العدوانية أن جبهة لبنان ستستمر مشتعلة، فيما خيارات "حزب الله" تبقى مرتبطة بغزة وتتصل بحسابات إقليمية، قبل الحديث أو اي تفاوض حول تطبيق القرار 1701، وهو ما يبقي لبنان في حالة استنزاف إلى أن تنضج الحسابات للتفاوض على حل في الجنوب!.
Twitter: @ihaidar62