يكفي أن يقرر المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين العودة إلى استئناف مهمته، لتأكيد صحة المخاوف من احتمال شن إسرائيل عملية عسكرية واسعة في الجنوب ضد "حزب الله" ومحاولة انشاء منطقة عازلة جنوب الليطاني تمتد ما بين 7 و10 كيلومترات. ذلك أن تحذيرات سبقت الزيارة المقررة لهوكشتاين تشير إلى تغيير في تقديرات واشنطن بعدما كانت ضغطت في السابق على إسرائيل لمنعها من تنفيذ حملة عسكرية، إذ عبر مسؤوولون في الإدارة الأميركية والاستخبارات، وفق تقارير إعلامية أنهم يشعرون بالقلق من أن إسرائيل تخطط لغزو برّي في لبنان، قد ينطلق في أواخر الربيع أو بداية الصيف، لا سيما إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في دفع "حزب الله" بعيداً عن الحدود الشمالية مع إسرائيل.
يستأنف هوكشتاين مهمته في ظل تغييرات شهدتها جبهة الجنوب على وقع الحرب الإسرائيلية المتغيرة التي باتت اشد عدوانية عبر التصعيد المتمادي بالقصف والتدمير والاغتيالات لفرض أمر واقع في القرى الحدودية يمنع عودة الأهالي إلى منازلهم، وهو ما يعني إطالة أمد الحرب، بغض النظر عن أي هدنة محتملة في غزة. فقد نفذت إسرائيل خلال الأسابيع الثلاثة الاخيرة ضربات تدميرية لمعظم القرى الحدودية أدت إلى تهجير ما تبقى من مواطنين، ستستغلها في أي مفاوضات محتملة حول القرار 1701. وتأتي هذه الخطة الإسرائيلية وفق مصدر ديبلوماسي متابع لفرض أمر واقع قد يقيّد وساطة هوكشتاين، اي تحقيق هدف المنطقة العازلة بالقوة عبر افراغ القرى والاستفراد بمقاتلي "حزب الله" فيها، بحيث تصبح عودة النازحين شبه مستحيلة إلا بشروط تبدأ بانسحاب "حزب الله" من المنطقة، وهو أمر ترفضه المقاومة، ما يعني أن الحرب ستستمر وتتوسع اقله في منطقة جنوب الليطاني، فيما تستهدف إسرائيل نقاطاً للحزب وتنفذ ضربات واغتيالات في العمق اللبناني.
لا يزال الأميركيون يمارسون ضغوطاً على إسرائيل لمنعها من شن حرب على لبنان، وهذا واضح في رسائلهم المتعددة للحكومة الإسرائيلية. لكن هذه التحذيرات لم تنجح في لجم التصعيد الإسرائيلي. ويدرك هوكشتاين مع استئناف مهمته أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، ما لم يحصل تفاهم على آليات تفاوضية لا تزال مقفلة فعلياً خصوصاً في ما يتعلق بالقرار 1701 الذي يشكل قاعدة للانطلاق نحو معالجة المشكلات الحدودية بين لبنان وإسرائيل. أما في حال التوصل إلى هدنة في غزة وانسحبت على جنوب لبنان، فإنها قد لا تؤدي إلى الاستقرار ما لم تفتح المفاوضات مسار حل سياسي يبدأ بتطبيق القرار الدولي من الجانبين ثم معالجة النقاط العالقة وصولاً إلى ترسيم الحدود.
هذه المرة تأتي زيارة هوكشتاين في ظل ارتفاع سقف الشروط الإسرائيلية عبر التصعيد وتكثيف الضربات العسكرية والأمنية ضد "حزب الله" الذي لا يزال يرد ضمن قواعد اشتباك مضبوطة، على الرغم من استهداف إسرائيل لمراكزه واغتيال كوادره. ويعني ذلك أن المبعوث الأميركي سيناقش في لبنان ملف التفاوض على وقع تغيّر المعادلة جنوباً، إذ أن جولاته السابقة كانت تركز على مدى التزام "حزب الله" بوقف النار، وفصل الجبهتين، فيما تعلن إسرائيل اليوم عدم التزامها بوقف الحرب على جبهة لبنان حتى مع اي وقف لإطلاق النار في القطاع.
سيبذل هوكشتاين جهوداً مضاعفة لتثبيت التهدئة على جبهة الجنوب واطلاق المفاوضات، ليس نحو لبنان تحديداً، طالما أن "حزب الله" أعلن أنه سيلتزم بوقف اطلاق النار إذا وافقت "حماس" على الهدنة، إنما مع إسرائيل التي ترفع سقف شروطها وتهدد بالحرب. فعلى الرغم من أن جبهة لبنان باتت مرتبطة بغزة، انطلاقاً من معركة مساندة حماس التي قررها "حزب الله"، وتوسع الحرب الإسرائيلية إلى مناطق بعيدة، إلا أن الهدنة في القطاع في حال اكتملت بنودها، قد لا تشمل جبهة لبنان، وهو أمر أعلنه عدد من المسؤولين الإسرائيليين تحت عنوان أن لا وقف للنار من دون عودة المستوطنين إلى منازلهم في شمال إسرائيل. وما يعزز احتمالات استمرار الحرب على جبهة لبنان، هو انسداد الأفق حول التفاوض لتطبيق القرار 1701 بفعل الشروط المتبادلة.
المفارقة بالتوازي مع مهمة هوكشتاين أن "حزب الله" ومعه لبنان الرسمي يعتبران أن تصعيد إسرائيل وتهديداتها هو من قبيل التهويل لحسابات داخلية، وهي لا تستطيع شن حرب واسعة على لبنان، رغم كل الحشد العسكري الإسرائيلي وتوسع نطاق العمليات والاستهدافات. والواقع أنه رغم الضغوط الاميركية لا أحد يعرف ما ستقوم به إسرائيل في الجنوب، ولذا تُطرح تساؤلات عما إذا كان هوكشتاين سيتمكن خلال زيارته إلى لبنان من تحضير الأرضية التفاوضية في حال تكرست الهدنة في غزة خصوصاً في ظل الوقائع الجديدة التي فرضت جنوباً. والمعروف أن خطة المبعوث الأميركي تتألف من مراحل عدة تبدأ بمحاولة وقف العمليات العسكرية وإعادة النازحين، ثم البحث في انتشار الجيش اللبناني لضبط الوضع ومنع أي نشاط عسكري جنوب الليطاني كمقدمة لبدء التفاوض حول ملف الحدود والترسيم وحل مشكلة النقاط العالقة.
تصطدم خطة هوكشتاين بالوضع الميداني الذي يشير حتى الآن إلى توسع العمليات العسكرية الإسرائيلية، فالضغوط الأميركية وفق المصدر الديبلوماسي تمنع توسع الحرب فقط في حال موافقة الأطراف على الانتقال إلى مرحلة المفاوضات، وهي مرحلة صعبة بفعل ما رسخته إسرائيل من معادلة تمنع العودة إلى مرحلة ما قبل 8 تشرين الأول الماضي. ولذا تبرز مخاوف من احتمال تكثيف العمليات الإسرائيلية قبل الوصول الى اتفاق يرسي التهدئة ويؤسس للتفاوض. وأمام ذلك يبقى الرهان اللبناني الوحيد اليوم على الوساطة الأميركية بمعزل عن كل المبادرات الدولية للحل، إذ أن لدى الأميركيين القدرة على الضغط وإن كانت واشنطن تأخذ بالاعتبار مصالح إسرائيل وأمنها. لكن ذلك الرهان يرتبط بتكريس التهدئة وإطلاق المفاوضات وفق المصدر الديبلوماسي الذي يقول أن لا حل فعلياً من دون تطبيق القرار الدولي 1701، ليس لوقف الحرب فقط إنما لتحقيق حل مستدام، يبدأ بقبول "حزب الله" بالتفاوض وإفساح المجال أمام دخول الجيش اللبناني وتعزيز قوات اليونيفل، بالتوازي مع وقف الخروق الإسرائيلية، وصولاً إلى التفاوض على النقاط العالقة والأراضي المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وبينها حل مسالة سلاح الحزب.
لكن الانتقال إلى معالجة المشاكل الحدودية وفق خطة هوكشتاين، تواجه الكثير من العقبات، والتداخلات الإقليمية، والأهم ما حدث في الجنوب خلال الأشهر الخمسة الاخيرة من تغيير في المعادلة القائمة. وأمام الوضع الخطر جنوباً والمحدق بلبنان، تبدو مهمة هوكشتاين وكأنها تدور حول نفسها، وباتت شبه مستحيلة ما لم تحدث صدمة كبرى إقليمية تفتح مسار المفاوضات الجدية نحو الحل السياسي لكل النقاط المختلف عليها.