النهار

من مملكة داود إلى ملكوت الله
دخول السيد يسوع المسيح إلى أورشليم (مرقس 9:11-10).
A+   A-
في أحد الشعانين تُحيي الكنيسة ذكرى دخول يسوعَ أورشليمَ قبل آلامه ببضعة أيّامٍ راكبًا على حمارٍ، طرح تلميذان عليه رداءَيهما، وبسط كثيرون أرديَتَهم في الطريق، وفرش آخرون أغصانًا قطعوها من الحقول، وكان الذين يتقدّمونه والذين يتبعونه يهتفون: "هوشعنا! مبارك الآتي باسم الربّ! مباركةٌ المملكةُ الآتية، مملكةُ داودَ أبينا. هوشعنا في العُلى" (مرقس 9:11-10). يقول البابا بندكتُس: "ربّما بدا هذا الأمر، اليوم، تافهًا بالنسبة إلى القارئ؛ إلاّ أنّه كان مليئًا بالمعاني الخفيّة لمعاصري يسوع من اليهود. فموضوع المُلك ماثلٌ هنا بكلّ وعوده". ويُضيف أنّ هذا الحدث يُذكِّرنا بما فعل داود حين سلّم المُلكَ إلى ابنه سليمان. فنقرأ في سفر الملوك الأوّل (33:1-34) أنّ المَلِكَ داودَ أمر الكاهنَ صادوق والنبيَّ ناتان وبنايا بنَ يوياداع، قائلاً: "خذوا معكم خَدَمَ سيِّدكم وأَركِبوا سليمانَ ابني على بغلتي، وانزلوا به إلى جيحون، وليمسحْه صادوق الكاهم وناتان النبيّ مَلِكًا على إسرائيل". وعن فرش الأردية يقول البابا: "لفرش الأردية تقليدُه في مُلكِ إسرائيل (أنظر 2 ملوك 13:9). وما قام به التلميذان هو عمليّة تولية، جريًا على عادة الملكية الداودية، وبحسب الرجاء الماسيويّ، الذي تطوّر انطلاقًا من هذه العادة"[ البابا بندكتُس، يسوع الناصريّ، الجزء الثاني، ترجمه عن الألمانية الدكتور نبيل الخوري، منشورات Vinea ، 2014، ص 23-24].

لكنّ يسوع لم يأتِ ليُنشئَ مملكةً زمنيّة، إنّما جاء ليُنشئَ ملكوتَ الله، كما قال لبيلاطس: "مملكتي ليست من هذا العالَم. فلو كانتْ مملكتي من هذا العالَم لكان حرسي دافع عنّي لكي لا أُسلَمَ إلى اليهود. ولكنّ مملكتي ليستْ الآن، من ههنا. فقال له بيلاطس: ’أنت إذن ملك؟‘ أجاب يسوع: ’أنتَ قلتَ. إنّي ملك. لهذا وُلِدتُ، ولهذا جئتُ إلى العالَم: أن أشهدَ للحقّ" (يوحنا 36:18-38). ملكوتُ الله هو ملكوتُ الحقّ، وملكوتُ الشهادة للحقّ حتى الموت.

ثمّة فرقٌ كبيرٌ بين مملكة داود وملكوت الله. فمملكة داود، على غرار سائر الممالك الزمنية، هي مملكةٌ محدودة في الزمان والمكان. فهي مؤقتة في الزمان ومحصورة في مكانٍ ضيّق. أمّا ملكوت الله فيتخطّى الزمان والمكان. فكما أنّ الله لا يحدُّه لا زمانٌ ولا مكانٌ كذلك ملكوتُه، كما قال الملاك عندما بشّر مريم العذراء بأنّها ستلدد ابنًا: "إنّه سيكون عظيمًا وابنَ العليِّ يُدعى، ويُعطيه الربُّ الإله عرشَ داودَ أبيه ويملك على بيت يعقوبَ أبدَ الدهر، ولا يكونُ لمُلكه انقضاء" (لوقا 32:1-33). وملكوتُ الله ليس محصورًا في شعبٍ واحدٍ، كما كانت مملكة داود المقتصرة على الشعب اليهوديّ، بل هو مدعوٌّ إلى أن يجمعَ كلَّ الشعوب، كما أوضح ذلك يسوع في مثل حبّة الخَرْدَل: "يُشبِه ملكوتُ السماوات حبّةَ خَرْدَلٍ أخذها رجلٌ وزرعها في حقله. إنّها أصغر البقول جميعًا. غير أنّها إذا نمتْ صارتْ أكبرَ البقول كلِّها، بل تصير شجرةً حتّى إنّ طيورَ السماء تأتي وتُعشِّش في أغصانها" (متى 31:13-32). وفي المعنى عينه يُشبِّه يسوع الدعوةَ إلى الملكوت بالدعوة إلى عشاءٍ عظيم صنعه رجلٌ "ودعا إليه كثيرين". وإذ رفض بعض المدعوّين، قال الرجل لغلامه: "اخرجْ إلى الطرق والأسيجة واضطررهم إلى الدخول (لا بالضغط طبعًا، ولكن من دون تمييزٍ بين شخصٍ وآخر)، حتى يمتلئَ بيتي" (لوقا 24:14).
الفرق الثاني بين مملكة داود وملكوت الله هو أنّ مملكةَ داود، على غرار سار الممالك الأرضيّة، تُؤسَّس على التسلُّط، أمّا ملكوتُ الله فيُؤسَّس على الخدمة، كما أوضح ذلك يسوع لتلميذَيْه يعقوب ويوحنّا عندما طلبت منه أمُّهما أن يجلسَ أحدُهما عن يمينه والآخرُ عن يساره في مُلكه. فدعا يسوع تلاميذَه وقال لهم: "تعلمون أنّ رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماءَ يتسلَّطون عليهم. وأمّا أنتم فلا يكنْ فيكم مثلُ هذا، بل مَنْ أراد أن يكونَ فيكم كبيرًا، فليكن لكم خادمًا. كما أنّ ابنَ البشر لم يأتِ ليُخدَمَ بل ليَخدُمَ وليبذِلَ نفسَه فديةً عن كثيرين" (متى 21:20-28).

في الصلاة الربّيّة دعا يسوع تلاميذَه إلى أن يصلّوا" لِيأتِ ملكوتُكَ" (متى 10:6)، ويعملوا على تحقيق ملكوت الله على الأرض. فإذا كان "الله محبة" (1 يوحنا 16:4)، فبنشر المحبّة في العالَم يتحقّق ملكوتُ الله على الأرض. وإذا كان يسوع قد "أتى ليخدُمَ وليبذِلَ نفسَه فديةً عن كثيرين"، فتلاميذ المسيح مدعوّون إلى أن تكونَ حياتُهم حياةَ خدمةٍ وبذلٍ للذات، وليس حياةَ أنانيّةٍ وطمعٍ وجشع. يقول القديس غريغوريوس النيصيّ في تفسيره للصلاة الربِّيّة: "إنْ كنّا نطلبُ "أن يأتيَ الملكوتُ" علينا، هذا ما نلتمسُه من قدرة الله: ليتني أتخلّصُ من الفساد، وأتحرَّرُ من الموت، وأُعتَقُ من قيود الخطيئة، ولا يعودُ الموتُ يملكُ عليَّ، ولا يعودُ يؤثِّرُ فيّ طغيانُ الرذيلة، ولا يعودُ العدوُّ يسيطرُ عليَّ ويأسرُني بالخطيئة؛ بل "ليأتِ ملكوتكَ" عليَّ، لكي تبتعدَ عنّي، أو بالحريِّ أن تذهبَ إلى العدم، الأهواءُ التي تسيطرُ وتملكُ عليَّ الآن. عندما يأتي ملكوتُ الله علينا، كلُّ الأمور التي تسيطرُ علينا الآن تختفي. فالظلمة ُلا تحتملُ ظهورَ النور، والمرضُ لا يبقى عندما تتغلّبُ الصحّة، والموتُ يزول، والفسادُ يضمحلُّ عندما تملكُ الحياةُ فينا ويسودُ عدم الفساد. "لِيَأتِ ملكوتُكَ!" كلمةٌ عذبةٌ. عندما يظهرُ ملكوتُكَ ينهزمُ الوجعُ والحزنُ والتأوُّه، ويحلُّ مكانها الحياةُ والسلامُ والسرور"[ القديس غريغوريوس النيصي، عظات في الصلاة الربّيّة، ترجمه عن اليونانية المطران كيرلّس سليم بسترس، سلسلة "أقدم النصوص المسيحيّة"، المكتبة البولسيّة، 2022، ص 58-59]. هذا ما نطلبه في احتفالنا بأحد الشعانين كلّ سنة.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium