السبت - 21 أيلول 2024
close menu

إعلان

جورج قرم المفكّر الحضاريّ الاقتصاديّ السياسيّ اللبنانيّ العروبيّ الإنسانيّ الأريستوقراطيّ العلمانيّ التنويريّ الرؤيويّ الاستشرافيّ (1940-2024)

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
Bookmark
المفكر جورج قرم.
المفكر جورج قرم.
A+ A-
التقيناه قبل نحوٍ من شهر، في أحد مقاهي وسط العاصمة القتيلة. اصطحبتني إلى الموعد، السيّدة النبيهة العارفة رينيه أسمر هربوز، كريمة مؤسّس "الندوة اللبنانيّة" ميشال أسمر، بُعَيد أيّامٍ من الاحتفاء، في جامعة القدّيس يوسف للآباء اليسوعيّين، بمئة عام على ولادة العلّامة الملفان يواكيم مبارك (20 تموز 1924 – 24 أيار 1995)، الذي ذهب، على قول جورج قرم، مكسور الخاطر، وفي قلبه أكثر من غصّة ومرارة، على مستوى الإصلاح الكنسيّ، والعلاقات الدينيّة، كما في السياسة على السواء. جلوسه المتهالك، قبالتنا، كان يوحي أنّه لم يعد موجودًا كثيرًا "هنا"، بسبب نهش المرض المتقادم. كان الرجل، في الغالب، موجودًا "هناك"، في "المكان البعيد"، ومتعبًا كان، لكنْ هادئًا هدوء المبصرين المفكّرين والفلاسفة. كلامه القليل المتباطئ كان محكمًا ولا يحتاج إلى شروحٍ مستفيضة، مليئًا بالعلامات والإشارات، الأقرب إلى الاستشراف النبوئيّ، ولا سيّما بالنسبة إلى الشرق الأوسط، وفلسطين، والقضيّة الفلسطينيّة، وإسرائيل، والصهيونيّة، والغرب، و... لبنان. توقّف عند الذكريات، ذكريات الأمكنة والأزمنة، والإرث القرمي (نسبةً إلى عائلته)، وإشكاليّات الحضارات، والهوّيّات، والأديان، والمذاهب، والطوائف، والأحزاب، والأفكار، والعقائد، والإيديولوجيّات، وأوروبا، والشقاء العربيّ، المشرقيّ، اللبنانيّ، الفلسطينيّ المستديم. تحدّث عن الكوزموبوليتانيّة التي كوّنت شخصيّته في الإسكندريّة، والقاهرة، ودمشق، وبيروت، وباريس، وعن قضايا العرب، والغرب، وحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في غزّة، ومجمل فلسطين، وروى لنا أنّه أنهى، أو يكاد، كتابة مذكّراته، الشخصيّة والعائليّة والثقافيّة والفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة. عرضتُ عليه أنْ تنشر له "النهار" فصلًا من المذكّرات، فابتسم قليلًا، وكان افتراره مضفورًا بغيومٍ كثيفةٍ في عينيه. ذكّرتُهُ بأنّ "الملحق"، "ملحق النهار"، وكان الياس خوري آنذاك رئيسًا لتحريره، وكنتُ مديرًا للتحرير، أجرى معه حوارًا (السبت، 7 حزيران 1997)، فابتسم أيضًا. قليلًا. ثمّ، فجأةً، في 14 آب الجاري، خرج جورج قرم من الحياة. وقبل الأوان. تكريمًا له، ولمكانته المعرفيّة الخلّاقة، نعيد تلخيص بعض أهمّ الأفكار والآراء والمواقف التي تضمّنها ذلك الحوار الجامع الذي جرى قبل 27 عامًا، وكأنّه يُجرى الآن، لما ينطوي عليه من بعدٍ راهنيٍّ واستشرافيّ، ولا سيّما بالنسبة إلى المسألة الوجوديّة الساخنة في فلسطين ولبنان والشرق الأوسط.الصهيونية ولا عقلانيّة الغرب* لفت انتباهي منذ حرب 1967، موقف الغرب اللاعقلاني بالنسبة الى مبادئه هو، من الظاهرة الصهيونية، أي هذا التعلق الشديد واللامبرر منطقياً بفكرة "عودة" يهود من جنسيات وثقافات مختلفة، متجذرين في دول "شتاتهم" منذ ألفي عام، الى فلسطين، بناء على نص إيماني وروحي، أسّس التوحيد في فروعه الثلاثة، وليس له صفة قومية. لا قومية للتوراة، كما لا قومية للمسيحية أو للإسلام. فهي رسالات للبشرية جمعاء. ولم أتمكن من فهم المبررات المنطقية لدى المفكرين والفلاسفة الغربيين في هذا الموضوع، الذين أصبحوا ينظرون الى اليهود الموجودين في مجتمعات كثيرة، بأنهم ليسوا جزءاً من هذه المجتمعات، إنما هم "شعب" له صفات قومية لم تتغير منذ وجدت ممالك صغيرة، وغير مهمة تاريخياً على جزء من أراضي فلسطين. وكان هذا الموقف ينبع في أحيان كثيرة من مفكرين علمانيين يدافعون عن فصل أي انتماء ديني عن الانتماء الوطني والقومي، وإذ بهم يتحمسون لقضية عودة الشعب اليهودي الى موطن "تاريخي".نحن العرب، كنا نفسر هذه الظاهرة بأن إسرائيل هي أداة الاستعمار، من وعد بلفور الى كل الحروب التي تلته، ثم أصبحنا نوسع التحليل، إنما في شكل مبسط، فنقول إن هناك عقدة بالنسبة الى المحرقة في عهد هتلر في أوروبا، وأخذ بعض الأوساط السياسية والفكرية العربية بالتبسيط الأكبر، وهو أن هناك مؤامرة يهودية عالمية لتقويض أسس المجتمعات، بناء على الكتاب المشهور "بروتوكولات حكماء صهيون"، الذي هو نتاج الثقافة الغربية، ولا علاقة لنا كعرب بهذا الكلام كله. وبُنيت على أساس ذلك، كل النظريات العربية عن وجود لوبي صهيوني يحرّك البيت الأبيض، ويفرض على أميركا والدول الأوروبية تصرفات معينة. أنا لم أقتنع بكل هذه الأطروحات، ورأيتُ على مدى الأعوام الأخيرة، تعاظم ما أُسمّيه ثقافة المحرقة، التي أصبحت تنتشر في كل أجزاء الثقافة والفكر الغربيين، ورأيتُ أنها ظاهرة حَرية بمزيد من الاستقصاء والتساؤل، خصوصاً أني رأيتُ في أحيان كثيرة حماسة سلطات دينية مسيحية وعلمانيين مسيحيين حيال الأطروحات اليهودية، وشهدتُ في الأعوام الأخيرة في فرنسا، المعارك الخاسرة للفرنسيين اليهود العلمانيين والمعادين للصهيونية، لإثبات آراء مختلفة. رأيتُ أساتذة جامعيين لامعين استبعدوا من كل مراكز النفوذ الثقافي. رأيتُ باحثين ورجال سياسة ورجال أعمال يفقدون أيّ صدقية لدى طرح أفكار معادية للصهيونية، وإنْ كانت هذه الأفكار تنطلق من إيمان كبير بمبادئ الديانة اليهودية ذاتها. شعرتُ حينئذ أن الثقافة الغربية نفسها، دخلت مساراً تغييرياً ضخماً، عجّل فيها انهيار الاتحاد السوفياتي والأطروحات العلمانية الالحادية كالماركسية، وعادت إلى البروز في المواقع الفكرية الغربية، أجواء حماسية أكاديمية إعلامية، لها علاقة بعودة الدين كعنصر من العناصر الأساسية في حياة الشعوب. وبدأتُ في كتابي الأخير le proche orient eclate (يومذاك)، محاولة إرساء بعض المعالم لفهم ما يجري في الفكر الغربي، ورأيتُ أن ركيزة هذه الصحوة اليهودية هي في أميركا، وأن ثقافة المحرقة، خلافاً لما كنت أعتقده، ليست أوروبية المنبع إنما أميركية، وسعيتُ الى وضع تأريخ للخطوات الرئيسية التي حفظت أميركا من خلالها، الثقافة الجديدة هذه، وعملت على نشرها عالمياً. وفي تقديري، أنه لا يمكن فهم الظاهرة الصهيونية في غياب الاطلاع على خلفيات معينة، ومنها الثقافة البروتستانتية الأنكلوسكسونية التي بُنيت عليها القومية الأميركية نفسها، والعلاقة العميقة بين المجتمعين الإسرائيلي والأميركي....
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم