بين الأوّل من تشرين الأول 2019، ليلة تقاطرنا إلى قصر سرسق للمشاركة في عرض فيلم "Varieté" الصامت، إنقاذاً لسينما "متروبوليس"، وليلة الاثنين التي شهدت افتتاح الدورة الخامسة من "مهرجان السينما البرازيليّة"، عمرٌ أشبه بدهرٍ، وقصص رهيبة بفصول متشعّبة. قبل أقلّ من شهر على السنويّة الثانية لفاجعة المرفأ، استقبلَنا القصر البيروتيّ في باحته مُعيداً شيئاً ممّا فقدناه.
ليس "الحياة اللامرئية لأوريديسي غوزماو"، الفائز بجائزة "نظرة ما" في الدورة الـ72 لمهرجان كانّ الدوليّ، فيلماً جديداً، وبالتأكيد ليس باكورة السينما البرازيليّة، وليس عملاً لم نُشاهد مثله من قبل، بل يُمكن وصفه بالميلودراما الخصبة الخارجة من برازيل الخمسينيات، والتي تُميّزها الصورة الحسيّة ذات الألوان الصاخبة. ومع ذلك، نجح التعاون بين السفارة البرازيليّة في بيروت والمركز الثقافي البرازيليّ - اللبنانيّ (Brasiliban) وجمعية "متروبوليس".
"اشتقنا"، همست سيّدة في العقد السادس في أذن رجل يكبرها بسنين قليلة، قبل أن تستوي على كرسيّ خشبيّ. راحا يطلقان ضحكات خفيفة أشبه بتمتمات الأطفال بين الفينة والأخرى، وبعد انتهاء الفيلم سألته بلهجة لاتينيّة: "هل أحببت العرض، أنتونينو؟". ومن يدري؟ ربّما كان اسمه طانيوس أو أنطوان وبات "أنتونينو" لشدّة التأثّر بالفيلم!
يقتحم العمل المقتبس من رواية لمارتا باتالا (2015) عائلة برازيليّة تبقى خلفيّتها مجهولة تقريباً طوال ساعتين وثلث السّاعة. تُفصل شقيقة عن شقيقتها بطريقة مأسويّة. الأولى حلمت بالحبّ الجارف والتحرّر من العوالق الاجتماعيّة والعائليّة، والثانية يُراودها حلم العزف على البيانو؛ وتدور الفكرة الرئيسيّة حول إشكاليّة ربط السّعادة برضى الوالدَين.
"المخرج البرازيليّ من أصل جزائريّ كريم عينوز صادق في طرحه"، كتبت "النهار" في سياق تغطية كانّ - 72، "لكنّه لا يُمسك بخيوط الموضوع كاملة (...). في المقابل، يبرع في خلق وحدة مسار ومصير بين الفتاتَين بالرغم من المسافات التي تُبعدهما، وبالرغم من أنّ واحدة منهما عاشت، وهي تبحث عن الحرية، والأخرى أذعنت إلى حدّ ما للأعراف الاجتماعيّة".
أشدّ التفاصيل أهميّة في ليلة الاثنين هي احتضان بيروت مشهداً ثقافياً مكثّفاً. بدا الجمهور بحاجة ماسّة إلى فسحة دراميّة يحاكي مصائر شخصيّاتها، من منطلق "اللي بيشوف مصيبة غيره بتهون مصيبته". وفي نهاية العرض، علا التصفيق الحارّ، قبل أن يخفت ويهمّ الجميع بالمغادرة بصمت ورهبة، وسط ثرثرات مكتومة وغمغمات خافتة، كمؤمنين خرجوا لتوّهم من رتبة مقدّسة.
بدَت بيروت جميلة ليلة الاثنين بالرغم من السواد الحالك الذي غرقت فيه. في الشارع الهادئ، حيث يربض قصر سرسق، سار رجل وحده. خرج من العرض مُثقلاً بأفكاره التي تغذّيها الليالي البيروتيّة. مشى بمحاذاة "سينما متروبوليس"، التي أُقفلت مطلع العام 2020 الرهيب؛ هناك، على شبّاك التذاكر، ناداه الحبّ للمرّة الأولى قُبيل العرض الأخير لفيلم يستحضر مآسي إلتون جون.
كان صوت أماليا رودريغز في أغنية "طريقة حياة غريبة"، التي شاء مخرج "الحياة اللامرئية لأوريديسي غوزماو" أن يختم بها تحفته، يتخبّط في رأسه. يذكّره بأغنياتها التي تعرّفها بصوت داليدا، وحمّلها همومه. بدت بيروت جميلة. "كانت عاطلة؟ يمكن... بس كانت مدينتي"، حدّثته نفسه بكلمات ناديا تويني. طارده قدر أوريديسي غوزماو، هل استحقّت العذاب الذي ألمّ بها؟ هل استحققنا عذابات بيروت؟
تحوّلت إشارات المرور أمامه فجأة إلى حمراء. كانت أشبه بالمحظورات التي كبُر خائفاً من المساس بها، أو ربّما، أنوار شجرة العيد التي نهته أمّه عن العبث بها. لم يكترث للأضواء الحمراء الصارخة. كان الشارع فارغاً، فاجتازه، وغاب في سواد زقاق عصفت مأساة المرفأ بأبنيته، وتنبعث منه رائحة ياسمين.
نعود إلى ما كتبته "النهار" في الحديث عن عمل كريم عينوز، "يقول الفيلم إنّ الكلّ، سواء تمرّدوا أم خضعوا، مصيرٌ واحدٌ في انتظارهم".