كانّ…
أفلام جيمس غراي كان لها دائماً وقع عاطفي كبير في داخلي. تمس فيَّ أشياء، وحده مَن عاش في مجتمع مركّب يستوعبها. تحملني إلى حافة الدموع أحياناً. المواجهة بين الفرد ومحيطه لا يكاد أحد في السينما المعاصرة يتحدّث عنها كما يفعل هذا السينمائي: بالرومنطيقية اليائسة التي ترينا كلّ شيء هباءً بهباء، ومع ذلك هناك دائماً مكان ينبع منه الأمل. جديده “يوم هرمغدون" معروض في مسابقة مهرجان كانّ (17 - 28 الجاري) مع 20 فيلماً آخر سيحكم عليها فنسان لاندون ولجنته. يعود هنا غراي إلى طفولته المشاغبة في نيويورك خلال عهد رونالد ريغن، أي في مطلع الثمانينات، في لحظة سياسية مصيرية وصعبة، مستعيراً عبارة تخرج من فم الرئيس الراحل، للاشارة إلى صراع الخير والشر، لعنونة فيلمه. كما هي الحال في أعماله السابقة، يروي فصلاً من فصول الاختلاف، من خلال الطفولة التي تشق طريقها إلى عالم الكبار فتفقد براءتها كلما عاشت وشاهدت واتجهت صوب الخيارات.
كما في معظم أفلامه، اليهودية حاضرة بقوة، هنا في الأحاديث على الطاولة عندما تجتمع العائلة والأقارب لعشاء صاخب، وأيضاً في الهوية التي يحملها مَن ينتمي إلى أقلية دينية تحدده إلى الأبد. في عائلة تعاني من أزمات، ينشأ الصبي بول غراف (الأنا الأخرى لجيمس غراي - مايكل بانكس ريبيتا) وفي داخله ميلٌ إلى الفن، الشيء الذي سيضعه في مواجهة مع أهله، لا سيما مع الوالد القاسي، في اعادة تدوير ناجحة للتيمة الأساسية التي يدور عليها معظم أفلام غراي: العلاقة الاشكالية بالأب. واذا كان النزوع إلى الفن الذي يكتشفه وهو يزور متحف غوغنهايم يولّد نزاعاً بينه وبين الأهل، خصوصاً انه تلميذ غير مجتهد، فلا يمكننا الا ان نتخيّل بقية الحكاية: حكاية إنقاذ إنسان على يد الفنّ.
طفولة مشاغبة.
ونحن نشاهد الفيلم-السيرة، نكتشف من أين جاء ماضي غراي السينمائي. منَ هو الأب الفعلي لهواجسه. فغراي يتعرى تماماً هنا. ما عادت هناك حاجة عنده لخلق شخصيات وتغذيتها بصراعات. يستطيع ان ينسبها إلى نفسه. يشير بالاصبع إلى أشياء كثيرة، وصفها أو تعدادها "جريمة" لأنه ينبغي اكتشافها على وجه بول الذي يحمل جزءاً كبيراً من جمال الفيلم والثقل العاطفي الذي ينبع منه على مدى ساعتين الا ربعاً.
سبق لغراي ان اقترب من السيرة - ليس بهذه الشخصانية - ، يوم أنجز "المهاجر" من وحي ذكريات جدَّيه الأوكرانيين الروسيين اللذين وصلا إلى أميركا في العشرينات، ليتحولا من غرايزرشتاين إلى غراي. لكن الفيلم ليس عنه فحسب. يفتح غراي ستارة منزله ومنها ينظر إلى المارة على الرصيف. فيصبح الحديث عن العنصرية تجاه السود في أميركا ليس بدافع جذب التعاطف. ربما لأن جد بول (أنتوني هوبكنز)، هو الذي يتولى مواجهتها، هذا الرجل الحكيم الذي حوّل معاناة أسلافه درساً إنسانياً، والألم الذي توارثه حكمة. يروي الفيلم التربية العاطفية لجيمس غراي، التي تجلعه صلباً أمام أي كارثة تعصف به. وعندما "يُزَجّ" به في مدرسة لأبناء وبنات نخبة المجتمع يديرها والد دونالد ترامب، وتلاميذها من أشد العنصريين، نجده ينزع عن نفسه كلّ ما تعلّمه في الصف والبيت ليصبح فرداً له كيانه وشخصيته وأحلامه. من خلال هذا كله يصوّر غراي الصراع الطبقي، “الموضوع المسكوت عنه في أميركا”، على حد تعبير المخرج.
عشق غراي للموجة الفرنسية الجديدة ليس سراً، لذلك غير مستغرب ان يشبّه بعض النقّاد فيلمه هذا بـ"الحياة الماجنة" لتروفو. هناك الدرب نفسه المحفوف بالتحديات الذي سيحمل إلى السينما صبياً مصنوعاً من المعاناة ومعجوناً بالقسوة. آه، نسينا ان نذكر أيضاً ان ضوء مدير التصوير داريوس خونجي "فرجة" ترفع من شأن الفيلم.
العائلة مجدداً أمام كاميرا السينمائي الأميركي الكبير.