النهار

عن مشروع منع "باربي": وزير الثقافة ‎يتحسّس عقيدته كلّما سمع كلمة ثقافة!
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
عن مشروع منع "باربي": وزير الثقافة ‎يتحسّس عقيدته كلّما سمع كلمة ثقافة!
"باربي"، فيلم أميركي لغريتا غرويغ.
A+   A-
‎هكذا إذن!
 
‎يريد وزير اللاثقافة محمد وسام عدنان المرتضى منع فيلم "باربي" في لبنان بعدما أُجيز عرضه في معظم البلدان العربية، حتى تلك التي كانت تناصب السينما العداء في الماضي القريب.
 
‎تفصيل لا بد منه: لم يشاهد المرتضى الفيلم الذي يودّ منعه ولا يبدو مهتماً بذلك. لقد سمع به، وعنه، وهذا يكفيه. مسؤول سياسي يعلن قراره منع فيلم بناءً على كلام وصل إلى مسامعه. هكذا تُدار شؤون هذه البلاد ولا جديد في الأمر. قيل له إنه "يروّج للشذوذ والتحوّل الجنسي ويشكّك في ضرورة الزواج وبناء أسرة". في بيان أصدره، يقول: "تبيّن أن الفيلم (…) يتعارض مع القيم الأخلاقية والإيمانية ومع المبادئ الراسخة في لبنان، إذ يروّج للشذوذ والتحوّل الجنسي ويسوّق فكرة بشعة مفادها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم وتسخيفه والتشكيك في ضرورة الزواج وبناء الأسرة، وتصويرهما عائقاً أمام التطور الذاتي للفرد ولا سيما للمرأة".
 
‎يؤكد وزير الثقافة أن الفيلم (الذي لم يشاهده) يروّج لأنماط اجتماعية منافية للدين والقيم. فعلاً؟! عن أي دين وعن أي قيم يتحدّث؟! هل أصبح لدينا دين واحد وقيم واحدة في لبنان؟! معظم اللبنانيين لا يتشاركون دين الوزير وقيمه، حتى الذين يعتقد هو أنهم يشاركونه إياهما. إن كان الفيلم يشكّل خطراً على قيم هذا الشخص ودينه، فالحلّ بسيط وهو الآتي: فليمتنع عن مشاهدته! الأفلام لا تدخل، كالميليشيات المسلّحة، بيوت المشاهدين بالقوة. هم الذين يذهبون إليها.
 
‎أما مسألة التشكيك التي يتحدّث عنها البيان ("يشكّك في ضرورة الزواج وبناء أسرة")، فهذه مهزلة المهازل. شخص عُيِّن لإدارة شؤون الثقافة في البلاد، لا يعرف أن الثقافة عموماً والسينما خصوصاً، هما فنّ التشكيك. لا أحد يذهب إلى السينما لمشاهدة يقين. لكن، طبعاً، أحد أبرز شروط أن تكون مسؤولاً سياسياً في لبنان هو أن تجهل مثل هذه البديهيات، أو أن تكون ضدها.
 
‎يجب القول إن كلّ ما جاء في هذا البيان هراء بهراء. لا ينطوي الفيلم على أي من الأفكار التي يدّعيها الوزير. فـ"باربي" عمل سينمائي تقدّمي عن تمكين المرأة، لم يعجبني شخصياً ووجدته مباشراً وسطحياً، لكن شتّان بين عدم الإعجاب بعمل والمطالبة بمنعه في بيان "فاشي"، وذلك لأسباب مضحكة مثل معاداة الأسرة وزعزعة الميول الجنسية للأطفال.
 
‎في أي حال، يصعب فصل هذا البيان ونبرته عن الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصرالله أخيراً، مُطلِقاً فيه معركته ضدّ المثليين. تزامن ذلك مع شيوع جوّ من رهاب المثليين شاركت فيه كلّ القوى الرجعية في البلاد وجماهيرها، ممّا يؤكّد مرة جديدة أن ما يشغل هؤلاء يختلف تماماً عمّا يشغل المواطنين في واقعهم اليومي.
 
‎لا شيء ضد الأخلاق (وهي للمناسبة كلمة فضفاضة ونسبية) في فيلم "باربي" للمخرجة الأميركية غريتا غرويغ الذي لم يشاهده الوزير. مع ذلك هو يودّ منعه "على السمع"، في سابقة لا يقبلها عقل. فإلى كلّ جرائمها الماضية والحاضرة والمستقبلية، تصرّ هذه السلطة على تذكيرنا بمدى ركاكتها، إذ سَلّمت أشخاصاً يملكون كفاءة ضعيفة في الثقافة، أهم ما تصنعه الشعوب (الثقافة)، بل يتعاملون معها ببلطجية، انسجاماً مع مدرستهم السياسية العريقة.
 
‎مَن يصدّق أن قَلْب السلطة السياسية في لبنان هو اليوم على المواطن، لا بل تخشى عليه من "شرور" فيلم، بعدما قمعت هذا المواطن، ونهبته، وفجّرته، ومسحت الأرض بكرامته. سلطة فاشلة حقيرة جعلتنا مهزلة بين الأمم، صار عدوّها الآن فيلم، بطلته دمية!
‎لم يسبق أن كان للبنان وزير على هاتين الرجعية والمحدودية. يكفي إلقاء نظرة سريعة (لأن النظرة الطويلة قد تتسبب بارتفاع في مستوى ضغط الدم) على حسابه في موقع "تويتر" للخروج باستنتاج سريع مفاده: هذا وزير أبعد ما يكون عن الثقافة. يجب قول الأشياء كما هي. لقد طفح الكيل: على المثقّفين الذين من المفترض أنه يمثّلهم التحرك فوراً. من دفاعه عن المطلوب للعدالة علي حسن خليل، ضارباً بيده على الطاولة بأسلوب ميليشيوي، وصولاً إلى احتفائه بالاعتداء على سلمان رشدي… مواقف هذا الرجل لا تُعد ولا تُحصى. لا يوجد وزير ثقافة في أي دولة محترمة يستخدم عمداً كلمة "شواذ". خسارة ألا يكون من وزراء دولة أوغندا ورئيسها المستبد يووري موسيفيني الذي دعا مراراً إلى إعدام المثليين.
‎كلّما سمع كلمة ثقافة تحسّس الوزير عقيدته. هناك كلمتان لا تفارقان فم الوزير: الله والشيطان. يحلل بالأول ويحرّم بالثاني. لو عادت محاكم التفتيش لوجد نفسه في صفوفها الأمامية.
 
‎ما عاد هناك أدنى شك: هذا المرتضى يجهل تاريخ لبنان الثقافي، هذا البلد الذي لطالما كان ملاذاً للأعمال الممنوعة والمغضوب عليها في البلدان العربية، في النوادي وداخل الصالات التجارية طوال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وبعدها. لكن في عهد المستقوين بالسلاح والعقيدة، تراجعت الحريات بشكل مخيف. أصبح لبنان على الشكل الذي يحلمون به، وانتشرت فيه ثقافة الموت والجهل والتعصّب. الرقابة كانت دائماً حاضرة، تمنع وتقتطع، إلا أنها لم تستقوِ يوماً على دمية ولم تدخل في تأويلات الأفلام، إلا في ما يتعلّق بالحرص على السلم الأهلي المزعوم.
 
‎بالتأكيد، ما كان لهذا الوزير أن يتمادى بهذا الشكل ويتعدّى على أبسط حقوقنا، لولا بعض الجهات ذات الأفكار الرجعية الشبيهة بأفكاره والتي تؤيده بصمت، ممّا يعطيه شرعية التصرف بحقوقنا قمعاً ومنعاً.
 
‎بعضنا يستغرب لماذا لا يوقّع مثقّفون (أو مَن بقي منهم في لبنان) عريضة للمطالبة بإقالة الوزير من منصبه. ألا يكفي تبريره الهجوم بدافع القتل على كاتب؟ هذا وزير يؤمن، بحسب تغريدة له، بعقيدة الشاب الذي اقتلع إحدى عيني سلمان رشدي والمدفوع بالجهل والتعصّب إلى مسرح الجريمة يوم 12 آب 2022! نحن في حاجة إلى مسؤول يحمي الثقافة من التجاذبات السياسية والمزايدات العقائدية والبيانات الإيمانية، لا أن تكون طرفاً فيها.
 
‎اعتدنا في السنوات الأخيرة السكوت والتجاهل، حيناً رأفة بصحّتنا النفسية وأحياناً من شدّة اليأس ومن اقتناع بأن لا شيء سيتغير مهما قلنا. لكن التاريخ يحاكم الصمت.
 

اقرأ في النهار Premium