صدر للكاتب غسان صليبي كتاب بعنوان "انتفاضة 17 تشرين"، وذلك عن "دار نلسن" للنشر.
يواكب تتابع المقالات المنشورة في هذا الكتاب، بالتحليل والموقف، أحداثاً سياسيّة وإجتماعيّة تعاقبت عبر الزمن ابتداءً من سنة 2017 وحتى منتصف 2020. ما يجمع بينها هو انها كُتبت بهدف اتّخاذ موقف من أحداث اعتبرتها مهمّة في حينه.
وعنه يقول الكاتب: "لم يكن مقصوداً ان تبدأ كتابتي لهذه المقالات مع بداية عهد ميشال عون، بل جاء ذلك مجرّد صدفة متقاطعاً مع إستقالتي من عمل بدوام كامل وتفرّغي للعمل كخبير أو كمستشار، بدوام حرّ ومتقطّع. مما وفّر لي بعض الوقت لملاحقة الأحداث السياسيّة والإجتماعيّة في بلدي والتعليق عليها.
لكنّها تبدو لي اليوم مصادفة مفيدة بالمعنى السياسي، إذ ان مقالاتي تكاد تؤرّخ لعهد بدأ معها ويبدو وكأنه انتهى مع مقالاتي الأخيرة التي تتناول إنتفاضة 17 تشرين 2019 اللبنانيّة.
هذا البعد التأريخي للكتاب، ولو بدون هدف ومنهجية تأريخيتين، لا يحجب الغرض الأساسي من وضعه، إلاّ وهو مقاربة الإنتفاضة اللبنانيّة كظاهرة إجتماعيّة، والإستعانة بالمقالات السابقة لها، كخلفيات سياسيّة وإجتماعيّة يمكنها ان تضيء على مسبّباتها وأبعادها.
ولا تأتي الكتابة عن الإنتفاضة منفصلة، على المستوى الفكري، عمّا سبقها من أحداث، بل وكأنّها امتداد لفكر واحد كان يتمنىّ حصولها ويحرّض عليها ولو بدون الكثير من الأمل. لكن التركيز على الإنتفاضة، في العنوان وفي الغرض من جمع مقالات الكتاب، لا يُغني عن إعطاء الأهمّية للأحداث التي سبقتها.
لم أشأ إدخال تعديل على نصوص المقالات، رغم نقدي اللاحق لبعضها، وحاجة البعض الآخر للمزيد من التطوير. أحببت ان تبقى المقالات، والتي نشرت بمعظمها في جريدة "النهار"، متصالحة مع الزمن الذي كتبت فيه، ومع نظرتي للأمور في هذا الزمن الذي عبرت فيه عن مواقفي. أي ان تبقى في آن واحد، إنعكاساً لموضوعية سعيت إليها دائما، ولذاتية لم أكن لأكتب بدونها".
ويتابع: "صحيح انه يمكن الاكتفاء بقراءة القسم الخاص بالانتفاضة، أي القسم الأخير من الكتاب، لمركزية الموضوع ولطول الكتاب بعدد صفحاته في آن واحد، لكني أدعو القارئ للإهتمام بالجزئين الآخرَين، الجزء السياسي والجزء الإجتماعي، ليس فقط كخلفية للانتفاضة بل أيضاً كمواضيع مستقلّة. فالقسم الأول يصف لنا ملامح السياسة التي تتحرك ولا تزال باستقلاليّة عن الدستور وفي إطار بلد لم يعد فيه مقوّمات وطن. والقسم الثاني يقارب القضايا الإجتماعيّة في ظل نقابات ضعيفة ومؤسّسات للحوار الإجتماعيّ شبه معطّلة.
ولا شكّ ان الانتفاضة اللبنانيّة، التي تحرّكت بسبب الفراغين، السياسي والاجتماعي، تعطّلت مسيرتها بسبب استمرار هذين الفراغين.
يحتوي القسم السياسي، والذي جاء تحت عنوان "سياسة دون دستور ولا وطن"، على مقالات تتناول السياسة بمعناها الواسع، الذي يتجاوز تصرفات السياسيين ومواقفهم، ليشمل ما يسمّى بالشأن العام والمواطنيّة، كحق يكفله الدستور".
"ان مراجعة ولو سريعة لعناوين القسم السياسي تتيح للقارئ تلمّس تنوّع المواضيع المعالجة وتأشيرها للأحداث التي تطالها بالتحليل والموقف. فبالإضافة إلى الإشكاليات الوطنيّة من مثل الاستقلال والتبعية والتحرير والطائفيّة والعنصريّة والحرب، جرى متابعة مسألة الانتخابات النيابيّة والخلافات والسياسات الحزبيّة، إلى جانب قضايا شغلت الرأي العام وانقسم حولها، من مثل منع فرقة "مشروع ليلى" من تقديم حفلتها في جبيل، إلى تبرئة زياد عيتاني بعد سجنه لسنتين بتهمة العمالة لإسرائيل، إلى قضيّة العمالة الأجنبيّة وسعي وزارة العمل إلى تنظيمها، إلى حراك 2015، إلى التحركات المدنيّة المطلبيّة التي تلته.
يتطرّق القسم الثاني الإجتماعي والذي أُدرج، تحت عنوان "قضايا إجتماعيّة بدون مؤسّسات ولا نقابات"، إلى بعض القضايا الإجتماعيّة من مثل الفقر والضرائب والتعليم الرسمي وسلسلة الرتب والرواتب، ويعالج مشكلة الحوار الإجتماعي الثلاثي مع تفصيل لواقع الحركة النقابيّة اللبنانيّة ممثّلة بالإتحاد العمّالي العام، الذي فقد مع الزمن ديمقراطيته واستقلاليته وفعّاليته.
أما القسم الثالث والأخير، وهو موضوع الكتاب، فيتناول ظاهرة الانتفاضة اللبنانيّة التي انطلقت في 17 تشرين الأول سنة 2019، وشكّلت حدثاً وطنيّاً مميزاً في تاريخ لبنان الحديث.
كتبت كمنتفض، حوالي 40 مقالا حول الموضوع، جاءت بتسلسلها الزمني كمتابعة شبه أسبوعيّة لتطور الإنتفاضة، في تركيبتها وأهدافها واستراتيجياتها وأساليب الضغط التي استخدمتها، مبيّناً نقاط قوتها ونقاط ضعفها على السواء.
وغلبت في معالجتي، المقاربة السوسيولوجيّة للظاهرة كحركة إجتماعيّة نشأت وتطوّرت في إطارها السياسي والإقتصادي والإجتماعي. ولكن هذه المقاربة لم تخلُ من اندفاعات باحث ملتزم بالإنتفاضة، يرغب في التأثير في اتجاهاتها إلى جانب فهمه لمسارها. فكانت بعض المقالات بمثابة رد على الخصوم، كما شكّلت مقالات أخرى مشاركة من قبلي في النقاشات الدائرة في أوساط مجموعات الإنتفاضة.
لعل أبرز مثال على هذا الدمج بين دور الباحث والمنتفض، هو مقالي الأول عن الإنتفاضة بعد يوم واحد من إندلاعها: "إلى شعبي المنتفض: احصروا مطالبكم بالشأن الإقتصادي الإجتماعي".
يمكن اعتبار هذا المقال استشرافي لما آلت إليه الإنتفاضة، وهو يتوجّه مباشرة وبتعبير عاطفي إلى المنتفضين، ويحذّرهم من المخاطر والعقبات الذي ستواجه التوجّه "السياسي". وقد أثبت المسار العام للإنتفاصة صحّة توقّعاتي".
ويضيف: "لكن هذا لم يمنعني كمننتفض ينتمي إلى الإنتفاضة، وبعد إتخاذها بعداً شعبياً شاملاً، من الانخراط في المسار الذي اختارته الإنتفاضة، ومحاولة مساعدتها كباحث على تخطّي الصعوبات التي قد توقّعتها في مقالي الأول.
وهكذا كان بالنسبة لمحطات أخرى سلكت فيها الإنتفاضة طرقاً واستخدمت أساليباً لم أكن أحبّذها. لكني مع ذلك بقيت منتمياً لها متفاعلاً مع بعض مجموعاتها، مقدّماً رؤيتي كباحث لتطوّر الأمور.
هذا الكتاب بمجمله إعلان عن موت عهد وإنهيار وطن وولادة إنتفاضة لبنانيّة غير مكتملة.
وإذا كنت أتوخّى فائدة عمليّة من هذا الكتاب فهو مساهمته في إعادة تفعيل الإنتفاضة التي تبدو اليوم مشتّتة ومتعثرة. ولعل صورة الغلاف التي اخترتها، تعبر عن هذا التشتت والتعثر، بلونيها الاحمر والرمادي ووجوهها المشعة أو الخافتة، ولو انها تبرز بوضوح أيضاً العلم اللبناني وقبضة الثورة، كرمزين يؤكدان على وحدة المعاناة والتصميم على متابعة النضال.
وليس صدفة اني انهيت كتابي بمقالين: واحد يقترح للإنتفاضة خارطة طريق، وآخر يقول بوضوح ان لا ثورة جياع ممكنة في لبنان، بعد ان كنت قد اقترحت في مقال ثالث كتبته مع بداية تعثّر الإنتفاضة على أبواب سنة 2020، أنه لا بد من تحويل الإنتفاضة إلى "إنتفاضة مستدامة" في الشارع وفي المؤسسات. وإلاّ نحن ذاهبون لا محالة، إلى دفن الكيان اللبناني في ذكرى مئويته الأولى، والذي شئت ان أصدر كتابي في تاريخ حلولها، في 1 أيلول 2020.
أنهي كتابة هذه المقدمة بعد أيام من إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب، والذي قَتل نحو مئة وسبعين شخصا وجرح حوال ستة آلاف، وألحق ضرّراً بمعظم منازل المدينة ومؤسساتها، مشرّداً ثلاثماية ألف شخص ومعطّلاً عشرة آلاف مؤسسة، فضلاً عن التدمير الكامل للمرفأ.
لا شك أن التأثير سيكون كبيراً على السلطة التي تتحمّل مسؤولية ترك المواد الكيميائية في المرفأ لأكثر من ست سنوات، وكذلك على الانتفاضة التي عليها ترجمة الغضب الشعبي العارم.
ليس واضحاً بعد المسار الذي ستسلكه الامور.
الانفجار جعل العالم يتحرك لنجدة لبنان، بعد شبه مقاطعة دولية للسلطة، تُوج بزيارة رئيس فرنسا للبنان وعقد مؤتمر دولي لإغاثته: فهل هو انفتاح على سلطة مترنّحة أم هي بداية لتدخل دولي يساهم في إقصاء هذه السلطة؟
أرجأت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها بإغتيال رفيق الحريري من 7 آب الـ18 منه: هل هو من أجل تخفيف الضغط على الواقع السياسي في لبنان بعد الانفجار، أم هو تفادياً للتقليل من نتائج الحكم في ّظل الأجواء المأسوية التي خلفها الانفجار، وبالتالي إيجاد التوقيت الأكثر ملائمة، للمزيد من الضغط على حزب الله، المتهم الأول بعملية الاغتيال؟
قرّرت الحكومة إعلان حالة الطوارئ لشهر في بيروت وتكليف الجيش بالسلطات المناسبة: هل هي محاولة لاستباق ردات الفعل الشعبية على الانفجار وقرار المحكمة الدولية ووضع الجيش في المواجهة، أم بداية للعب الجيش دوراً سياسياً؟
الأجوبة على الاسئلة الثلاثة مترابطة، ولا شك أن طبيعة ردود الانتفاضة سيكون له تأثيره أيضاً على هذه الاجوبة. نظمت الانتفاضة حشداً كبيراً في 8 آب قُمع من قبل الجيش وقوى الأمن. بعد يومين استقالت حكومة حسان دياب واليوم يجري العمل على تأليف حكومة جديدة. فكيف ستتصرف الانتفاضة: هل ستنتهج نهجاً أكثر فاعلية من هذا الذي لجأت إليه بعد استقالة الحريري وأدى الى تراجع زخمها، وكيف ستتعاطى مع المتغيرات الدولية التي تبدو عاملاً مؤثراً في تشكيل الحكومة المقبلة.
كل ما أتمناه هو أن يجد المنتفضون في كتابي هذا ما يساعدهم على استئناف النضال الذي لن ينتهي قريباً".