إلى جدّي عادل الذي كان يحبّ كالأمّهات.
أحبّنا جميعًا وصبر علينا، حتى انطلق مع صوته الذي ملأ السهول والوديان ناحية الله.
إلى أمّي التي كانت الأب والسند لعادل الصغير.
ليلى I
طهران 2018
الأربعاء 24 كانون الثاني
اليوم أيضًا رأيتها. كان النهر يهدهد جسدها ببطء ويأخذه إلى حيث لا نعلم. إلى حيث لن نجدها بعد اليوم. كان وجهها مقلوبًا إلى الأسفل وعيناها مفتوحتين على وسعهما. ماذا ترى في الأسفل يا ترى؟ لا أعرف. أنا لم ألمس ماء النهر يومًا حتى أعرف. أخافه وأخاف السباحة. لكن هي. هي كانت سبّاحة ماهرة. ومع ذلك، رأيتها الليلة مجدّدًا، تطفو بهدوء على سطح الماء، وشعرها الأسود الداكن ينطلق من فروة رأسها لينتشر في النهر، كأنّه أذرع أخطبوط طويلة. أخطبوط أسود بلون الليل.
كلّ شيء كان هادئًا حولنا هذه المرّة. هادئًا إلى درجة أنّ أصوات دعسات قدميّ وأنفاسي المتسارعة أصبح لها صدًى مرعبٌ. كلّ خطوة على حافّة النهر وكلّ نَفَس يجد له صدًى مدويًّا في رأسي. لا زقزقات عصافير، لا حفيف أشجار، حتى خرير الماء تراجع خلف صوت أنفاسي. أراه فقط يتابع جريانه ويسحبها معه ببطء، بينما أنا أمشي إلى جانبها. هي تنزلق وأنا أمشي. تنزلق وأمشي. أحاول أن أتبعها، أن أبقى في محاذاتها. لم أرها يومًا بهذا الضعف أو على هذا القدر من السكون. لا يمكن أن تكون قد ماتت! رحلت بالبساطة التي يجري فيها الماء. أرفع غصن شجرة عن الأرض. أمدّه ناحيتها وأنكزها به. لا تصدر منها أيّ حركة. أنكزها مرّة أخرى فيتحرّر فجأة، من فروة رأسها، ذاك الأخطبوط الأسود ليقترب مسرعًا ناحية وجهي. يصبح قريبا جدًّا منه، يستعدّ للالتصاق به حين أستيقظ مذعورة.
تذكّرت منامي من الليلة السابقة، وأنا أقف أمام صفّ طويل من الأزهار والنباتات. لا أدري كيف دهمتني رؤياي وحاصرتني هناك. اقتربت أمدّ يدي لأتفحّص إحدى النباتات، فعادت لتخرج أمامي، من بين بتلاتها الطويلة، خصلات شعرها الأسود. شعرت حينذاك بدوار خفيف فاتّكأت على الرفّ أمامي وأغمضت عينيّ. لا أعرف كم مضى من الوقت، وأنا على هذه الحال، قبل أن تعيدني إلى الحياة يد إحدى الموظّفات في المحلّ، لمست ظهري بخفّة، وهي تسألني عمّا إذا كنت بخير. نظرت إليها بتعب وتمتمت أنّني كذلك. ثمّ سألتني عمّا إذا كنت بحاجة إلى كوب من الماء، فأجبتها بحركة نفي سريعة من رأسي، وابتسامة وددت لو تنفي صفة المرض عنّي.
نظرت حولي، فبدا كلّ شيء ضبابيًّا. لم أعد أعرف لِمَا دخلت هذا المكان أصلًا. محلّ أزهار كبير وأنيق تنير أضواء النيون اسمه. كنت قد مررت قربه مرّات عدّة قبلًا من دون أن أفكّر يومًا في دخوله. ابتعدت عن الرفّ، وأردت فقط مغادرة المكان. لم أدرك أنّ جميع العاملين في المحلّ كانوا قد لاحظوا أنّني لست على ما يرام. وأنا أتّجه نحو الباب، سمعتهم يسألون العاملة التي اقتربت منّي: «لماذا لم تحضري لها كوبًا من الماء؟»، فاعترضت هي: «عرضت عليها ذلك لكنّها رفضت!». ربّما كان عليّ أن أبقى في المنزل اليوم، فكّرت وأنا أمشي مبتعدة عن محلّ الأزهار. كانت حقًّا فكرة سيّئة. أين أذهب الآن؟ لا أعرف.
لم أشترِ نبتة ولم أذهب للقاء بنيامين. أنا، على كلّ حال، لا أعرف أيّ شيء عن النباتات والأزهار، لا أنواعها أو أسمائها أو كيفيّة الاعتناء بها. أنا لا أحبّها حتى! لا أعرف كيف وجدت نفسي أخطو خطواتي الثقيلة اليوم، داخل ذلك المحلّ. وبنيامين؟ أعتقد أنّني سأؤجّل تلك الزيارة. لكنّني لم أتّصل به حتى لأعلمه أنّني سأزوره. هو لا يتوقّع زيارتي المفترضة، وأنا ما زلت لا أعرف ما سأقول له. فما نفع الذهاب إليه والوقوف أمامه، صامتة كالبلهاء. سيكرهني أكثر إن ذهبت إليه ولم أجد شيئًا أقوله. سيزداد غضبه وحنقه عليّ، إن لم أعتذر على الأقلّ. وقفت حائرة قليلًا على الرصيف. ماذا أفعل؟ الطقس بارد لكنّه ليس ماطرًا. لا بأس في ذلك، معطفي الخمري سميك. لا يزعجني البرد طالما أنّ الثلج لا يتساقط. يمكنني أن أتمشّى قليلًا. أنظر إلى هاتفي، إنّها الحادية عشرة صباحًا. أسير قليلًا من دون هدف وأنا أفكّر. سيّارتي ما زالت مركونة في باركينغ المبنى الذي أسكنه. فوق المربّع الأبيض الذي يحمل الرقم 35. رقم شقّتنا أنا وبنيامين (أو على الاقلّ شقّتنا معًا حتى يوم الإثنين الماضي). فضّلت ألّا أقود بنفسي اليوم. الآن عليّ أن أركب سيّارة أجرة، أو أن أسير إلى محطّة المترو إذا أردتُ الذهاب إلى أيّ مكان. هل أذهب للتنزّه قليلًا في بارك «جمشيدية» على كتف الجبل؟ في هذا البرد؟ ربّما يكون «الكافيه» أفضل اليوم. الرحلة ستستهلك نصف نهاري على الأرجح في ازدحام طهران، الأمر الذي كان يجب أن يسعدني بما أنّه كان سيلهيني عن وحدتي وعن الكآبة التي أعيشها، لولا أنّ مجرّد التفكير في كلّ ذلك الازدحام يرهقني اليوم كأنّني أنا من يجلس خلف مقود السيّارة! ربّما من الأفضل أن أنسى كلّ ذلك وأعود إلى المنزل وحسب.
أمام المغسلة، في صالة الاستحمام، النظر في المرآة وحده يكشف لي حجم تعبي. هالات سودٌ حول عينيّ، لوني شاحب ومظهري غير مرتّب، مع أنّني أذكر أنّني حاولت جاهدة أن أبدو بمظهر لائق قبل أن أخرج من المنزل هذا الصباح. يبدو واضحًا أنّني لم أنجح! مساكين. لا بدّ أنّني أخفتهم في محلّ الزهور. لا بدّ من أنّني وقفت أحدّق طويلًا في رفّ النباتات ذاك قبل أن أشعر بالدوار. أعرف نفسي، عندما أكون متعبة يمكنني أن أنسى نفسي وأنا أحدّق طويلًا في شيء واحد ولا أراه. هكذا كأنّني تجمّدت في الزمن. لا أدري كم راقبوني وأنا على هذه الحال. لا أعرف كم من الوقت لبثت هناك. لا بدّ أنّني أثرت ريبتهم حتى لفتُّ انتباههم جميعًا. كان عليّ فعلًا أن أبقى في المنزل اليوم، أو أن أختار على الأقلّ محلًّا أصغر، محلًّا للمبتدئين مثلي. كشك صغير، ليس فيه سوى صاحبه وزبونة وحيدة هي أنا. أختار منه أوّل نبتة تقع عليها عيني، فيخبرني صاحب الكشك كيف أعتني بها، وأغادر. وهكذا، بهذه البساطة، ينتهي الموضوع. أنا أضيع في الأماكن الكبيرة. في الأماكن التي ينشغل فيها الموظّفون بأناس كثر فلا أعود أشعر بثقل أعينهم تراقبني. أنا ممّن يحتاجون إلى تلك الأعين عليهم. أحتاج إليها لأشعر بضرورة الحفاظ على تركيزي واتزاني، لأبدو أنّني منهم، امرأة أخرى فقط بينهم. عندما تغيب نظرات الغير عنّي، أفقد القدرة على مراقبة ذاتي فتجد أشباحي فرصتها للهجوم. تخرج من خلف الأغراض، من بين الثقوب الصغيرة، من العدم، من الظلام وبقع الضوء على حدّ سواء. هذه المرّة مدّت أذرعها من هناك، من خلف كلّ تلك النباتات المتلاصقة والمصفوفة على الرفوف. كلّ تلك البقع المظلمة، الفجوات بين الحائط والنباتات، كلّها أماكن مناسبة تمامًا لتختفي خلفها كما لتخرج منها. أنا من أوقع نفسي في فخّها هذه المرّة. هل كان عليّ أن أحيط نفسي بكلّ تلك الغابة؟ بكلّ تلك البقع المظلمة؟ لم أكن ذكيّة كفاية هذه المرّة لأتجنّبها.
بنيامين لم يشترِ لي يومًا أزهارًا، لا خلال فترة مواعدتنا ولا بعد زواجنا. ليس لأنّه يفتقد الرومانسية، إنّما، صراحة، أنا طلبت منه ألّا يشتريها. قلت له منذ البداية إنّني لا أحبّها، حتى أنّي، إن تلقيتها، غالبًا ما لا أعرف ما أفعل بها، فأنتف أوراقها بعصبية بين يديّ، أو إن كنت في مزاج أفضل أرميها في أقرب سلّة مهملات في الشارع، قبل أن أصل إلى البيت حتى. لا أدري لما لا أشبه معظم النساء في حبّهنّ للورود، لكنّني لطالما كنت أمّية في موضوع الأزهار. حجم ثقافتي في هذا الموضوع لا يتعدّى التعرّف إلى زهرتين اثنتين! الـmarguerite التي أتذكّرها من كتابي في المدرسة. زهرة بيضاء، مرسومة بوضوح وبكلّ تفاصيلها، لتملأ وحدها صفحة كاملة من كتاب اللغة الفرنسية. كنّا نقرأ تحتها: marguerite. كرّرنا الاسم كثيرًا، تحت تلك الصورة العملاقة، مع المعلّمة، حتى حفظناه. كرّرناه إلى درجة أنّني كنت سأتعلّمه حتى لو أصررت على ألّا أفعل. ما اسمها بالعربية؟ لا أعرف. الكتاب كان يخبرنا فقط باسم الزهرة بالفرنسية، وأنا لم أهتمّ يومًا لأعرف اسمها بالعربية أو بأيّ لغة أخرى. كنّا كلّما ذهبنا جنوبًا مع أبي، تعرّفت إليها من نافذة السيّارة. Marguerite، أقول في نفسي. ومن رحلاتنا إلى الجنوب أيضًا تعرّفت إلى الأقحوانة الحمراء، بعينها السوداء، Coquelicot. ذكرت مرّة أمّي اسمها باللغتين فحفظته. حفظته لأنّها كانت مصدر إزعاج كبير لي. كان أبي كلّما توقّف إلى جانب الطريق لقطفها لنا، وإعطائي إحداها، كنت أرميها بسرعة، لأنّها كانت دائمًا تخبّئ داخلها حشرات صغيرة، وما إن كنت أمسكها، حتى كانت تخرج من باطنها المظلم لتشنّ هجومها عليّ، فأنفض ثوبي وشعري بسرعة، وإن لم يطاولهما شيء، وأرميها من النافذة.
هذا تقريبًا كلّ ما أعرفه عن الأزهار، وعن كلّ الذكريات التي تشغل ذاكرتي عنها وعن أبي على حدّ سواء! هذا كلّ ما أمكنني التعرّف إليه وحدي.
2
كلّ شيء هنا شاحب! ألوان المدينة شاحبة. الغبار يتمدّد فيها ويستقرّ عليها، فيكسوها بهذا اللون الباهت. لا يهمّ كم عمر المباني أو الطرقات في المدينة، ففي كلّ الأحوال، بعد أيّام قليلة من بنائها، سيجتاحها الغبار، ويلتصق بأضلعها، فتشيخ سنوات كثيرة في أيّام قليلة، وتصبح كأنّها في عمر كلّ ما حولها. تحدّثت مع بنيامين مرارًا عن لون طهران هذا. قال إنّه الغبار الذي يأتي من الجبال المحيطة بنا. نحن عالقون بينها، ولا مفرّ من الغبار الذي ترسله ناحيتنا. إنّه كالتفل في فنجان القهوة، عليه أن يستقرّ عند سفح الجبل في النهاية، أي في المدينة نفسها.
بنيامين يكره لون المدينة هذا. يتحدّث عنه دومًا بانزعاج. «كأنّنا نعيش في فيلم الخيال العلمي Interstellar»، يقول، قاصدًا اليوم الذي يبدأ فيه الغبار باجتياح العالم، فيقتل الناس ومحصولاتهم الزراعية، ثمّ ينتهي به الأمر بالقضاء على الحياة على الكرة الأرضيّة! «هكذا نموت نحن والأرض!»، فنتشاحن قليلًا حول الموضوع. إنّها واحدة من المرّات النادرة التي يكون فيها بنيامين صاحبَ النظرة الأبوكاليبتيكية لا أنا، والتي أراني فيها أقول له لا داعي لكلّ هذا التشاؤم والسوداوية، وإنّني أرى الموضوع بطريقة مختلفة. فهذا الغبار، ولو أنّه يضفي صبغة حزينة على طهران، إلّا أنّه مع أشجار «التشينار» المعمّرة فيها، يعطيها طابعًا رومنسيًّا وشعورًا غريبًا بالإلفة. تبدو المدينة كلّها من صنع خيالك، كأنّها معلّقة بين العالم الحقيقي وعالم خيالي، ضبابي.
أقفل نافذتي المطلّة على الجبل، وأتلفّت قليلًا حولي. أنا اليوم كالقطّ الذي يتجاهله صاحبه، فيلفّ حول ذيله طيلة النهار ليسلّي نفسه، ويموء بتعاسة. لا عمل ألجأ إليه، بما أنّ الخميس هو أوّل أيّام العطلة الأسبوعية في طهران، ولا موعد لي مع صديقتي الوحيدة أناهيتا. لقد سافرت شمالًا اليوم مع باقي الطهرانيين من أجل تمضية عطلتها الأسبوعية هناك.
أنظر إلى الساعة، إنّها العاشرة صباحًا. لديّ الكثير من وقت الفراغ لأملأه. أفكّر في أن أتناول فطورًا سريعًا. أفتح البرّاد، ولا أجد فيه سوى بعض الخضروات البائتة، وعلبة زبدة فستق أصبحت فارغة تقريبًا. لا داعي للقول إنّني لا أجيد الاهتمام بنفسي كثيرًا متى تُركت وحدي. لا أشعر بالجوع أبدًا، وأصلًا ليس ما في البرّاد ما يشجّعني على الأكل، لكنّني إن شغلت نفسي بالفطور، فسأضيّع ربّما ربع ساعة من يوم لا أعرف كيف أمضيه. أعدّ لنفسي فنجان شاي، وأمرغ ما تبقّى من زبدة الفستق على قطعة توست وآكلها ببطء. أفكّر في أن أركب المترو بعد ذلك إلى منطقة الإمام الحسين، لعلّي أنجح في تحسين مزاجي قليلًا، وأشتري حاجيّات المطبخ، فأحضّر شيئًا للغداء. أعرف أنّ الوجود في أماكن مزدحمة ليس أمرًا ملائمًا لي ربّما، خصوصًا بعد ما حصل في محلّ الأزهار البارحة، لكن لا يمكن تجنّب رحلة المترو هذه، إذ إنّ الذهاب بالسيّارة من شمال طهران إلى شرقها أمر بالغ الصعوبة في زحمة السير الخانقة في المدينة. إضافة إلى أنّ المترو مختلف. المترو يزدحم بوحدة الجميع لا بحيواتهم. لن تتذمّر من راكب كثير الكلام فيه، بل العكس. الصمت ثقيل في المترو، وهذا أمر يناسبني جدًّا. الكلّ يريد أن يُترك في حاله، ليفكّر مطأطئ الرأس، في كلّ ما يجعله يقوم بهذه الرحلة اليومية. الجميع ينظر بعيون فارغة إلى الباعة المتجوّلين الذين يصعدون وينزلون بين محطّة وأخرى، ومن النادر أن أرى أيًّا من الركّاب يشتري منهم شيئًا. يحملون شنطًا ثقيلة، وفجأة يفردون أغراضهم كالأكورديون أمامك. رغم الألوان الفاقعة واللمّاعة في أحيان كثيرة لهذه الأغراض، إلّا أنّها لا تنجح بإعادة الحياة إلى أيّ من العيون المحدّقة فيها. تبقى معلّقة هناك في الهواء، كأنّ لا أحد يراها. لطالما حيّرني أمر هؤلاء الباعة الذين يبحثون عن رزقهم في هذا المكان!
شيء واحد فقط، متى التقطته عيناي في عربة المترو، أثار اهتمامهما. شعر السيّدة روشَنا الأحمر! لا أعرف تلك السيّدة. لم أكلّمها يومًا ولا سبب لديّ لأفعل. كلّ ما أعرفه هو أنّنا نلتقي دائمًا في المترو، إذا ما ركبته عند الظهيرة من محطّة «تهرانپارس». تترجّل هي دومًا على بعد ستّ محطّات، في سبلان، بينما أنا أترجّل بعدها بمحطّتين. لا أعرف من أين تنطلق، لكنّني أعرف أين تترجّل.
لا يمكنك سوى أن تلاحظ روشَنا خانم في مقطورة المترو. اعتقدت بدايةً أنّ شعرها هو ما شدّ انتباهي عندما رصدتها جالسة في مقعدها أوّل مرّة، لكن بعد التفكير الآن، لا أعرف إن كان ذلك صحيحًا، إذ إنّ كلّ شيء فيها وحولها يصرخ بالاختلاف، فلا تعرف فعليًّا ما رصده عقلك أوّلًا. هل بدأت بشعرها ثمّ تنبّهت إلى القفص المغطّى بشرشف رماديّ اللون إلى جانبها، ثمّ عينيها؟ أم كان القفص أوّلًا ثمّ الشعر وبعده العينين؟ لا أدري، من الصعب تتبّع الخطى التي سلكها عقلك أحيانًا. لكن، ممّا لا شكّ فيه، أنّ ما من أحد يمكنه أن يصعد إلى «مقطورة روشَنا خانم» ولا يلاحظ وجودها. هي تنظر دائمًا حولها بعينين حذرتين. ليستا عينين حذرتين مذعورتين كأنّ أحدًا يطاردها، بل حذرتان كأنّها عميلة سرّية تنتظر أن يأتي عميل آخر ليجلس فجأة إلى جانبها ويخبرها بأنّه من كانت تنتظر. أسترق النظر إليها بطرف عيني معظم الوقت. من النادر أن تترك إحدانا للأخرى فرصة انعكاس وجهها في عيني الأخرى. لهذا، لم تتح لنا فرصة أن نتبادل ما تعرفه الواحدة منّا عن الأخرى قطّ. جسدها النحيل والصغير، يشعّ بالكثير من الضوء. صدق أهلها عندما سمّوها «روشَنا»، أي «المشرقة» أو «صاحبة الإشراقة» كما أحبّ أن أترجمها. أتخيّل أنّهم عندما حملوها أوّل مرّة بين أيديهم، شعروا بها تشعّ كبقعة ضوء كبيرة. فجأة، لم تعد الأسماء كلّها التي فكّرت أمّها في أنّها ستمنحها إيّاها قبل ولادتها، مهمّة. حملتها بين يديها أوّل مرّة، ابتسمت، ونطقت فورًا باسمها. منحتها إيّاه من دون أن تفكّر. نطقته كما نطق أرخميدس بـ«Eureka»، روشنا.
بشرتها ناعمة، ناصعة البياض، لا تشوبها شائبة. عيناها خضراوان، وشعرها أحمر، أضافت الصبغة التي تستعملها إلى لونه قوّة، فبرز بياض بشرتها أكثر. يظهر النصف الأمامي من شعرها من تحت شال شتوي، لفّت به رأسها، اختارته اليوم أخضر يحاكي لون عينيها. تمسّد شعرها بحركة خفيفة من يدها بين الفينة والأخرى، لتتأكّد أنّ الدبابيس التي وضعتها فيه ما زالت ثابتة مكانها. مع أنّها في منتصف العقد السابع من العمر، إلّا أنّ بشرتها ما زالت نضرة، والتجاعيد لم تغيّر كثيرًا في تعابير وجهها الطفولي الملامح. كأنّ لديها تعويذة تبعد عنها الخريف وتبقيها في ربيع العمر. لا شيء سوى النظر إلى تلك السيّدة المشرقة بين المتعبين، المتقاعدة بين اللاهثين خلف لقمة عيشهم، يرسم ابتسامة على شفتيك.
لكنّ ملاحظاتي هذه عن شكلها ربّما لا تهمّ أحدًا غيري من ركّاب المترو، فروشَنا خانم لم تكتسب شهرتها بسبب شكلها، إنّما بسبب اتّهامها من البعض بالتفريط بجوهرة المترو وأثمن ما فيه: المقعد! فهي دائمًا ما تضع القفص المغطّى بالشرشف الرمادي، الذي يرافقها في جميع رحلاتها، على المقعد إلى جانبها وترفض الانتقاص من مكانته وحشره بين رجليها على الأرض مهما طلب منها الركّاب الآخرون ذلك. فتحجز هي وعصفورها مقعدين بدل المقعد الواحد. كثيرًا ما أثارت غضب بعض الركّاب وحنقهم عندما كانت ترفض بهدوء وإصرار دائمين أن ترفع «غرضها» عن المقعد ليجلسوا هم. عندما يقترب أحدهم ليتناول علّاقة قفصها، تمسك يده بسرعة وثبات، تنظر في عينيه وتقول ببطء وإصرار لا يعطي الآخر فرصة للجدال بعد ذلك: «يا هذا، أنا دفعت ثمن بطاقة إضافية لعصفوري وهو سيبقى مكانه!». وللذين لا يرضون بهذا التبرير، ويعتقدون أنّهم سينجحون بانتزاع المقعد منها إن أخبروها بأنّه لا يحقّ لها أن تحجز مقعدًا لعصفورها بينما هم يُضطرّون إلى الوقوف، أو أنّ ما تفعله غير قانوني وأنّهم سيشتكون عليها، تكتفي روشَنا خانم بالردّ عليهم: «أنا دفعت ثمن بطاقتين، لذا يحقّ لي أن أضع عصفوري حيثما يحلو لي»، أو «اشتكوا قدر ما شئتم ولمن تريدون. أنا لا أخالف أيّ قانون». مهما قرّر الركّاب خوض الجدال معها، فقد أصبح عارفوها يدركون أنّ مجادلتها لا تؤدّي إلى تنازلها هي أبدًا، بل إلى ابتعادهم هم مكسورين دومًا.
لم تُتح لي شخصيًّا رؤية العصفور الذي تحمله معها يوميًّا، لكن من زقزقاته التي تفلت من عتمة الشرشف من وقت إلى آخر، عرفت أنّه كناري، تمامًا كعصافير الكناري التي كان يربّيها جارنا أبو موسى، صاحب الدكّان في المبنى الذي كنّا نسكنه مع أمّي في ضاحية بيروت الجنوبية.
كانت جميعها لا تختلف بشيء عن بعضها بعضًا، بالنسبة إلى عيني طفلة في التاسعة من عمرها وأذنيها، لم تخرج من أحياء بيروت الإسمنتية إلّا مرّات معدودة. كانت كلّها عصافير صغيرة صفراء لها زقزقات جميلة. قد يكون ريش بعضها الأصفر موشّحًا ببعض السواد أحيانًا، نعم، لكن في النهاية كانت لا تزال صفراء. فقط «نانو»، كان عصفور الكناري الوحيد ذا الريش الأبيض الذي كنت قد رأيته أنا أو أبو موسى على حدّ سواء. لذا، كان يعامله كأنّه طابع نادر بين مجموعة طوابعه، يحبّه بشكل مختلف عن باقي عصافيره، بينما كنت أمرّ لأتفقدّه يوميًّا بعد المدرسة. حتى جاء اليوم الذي قتلت فيه زوجة أبي موسى «نانو»! أرسلته إلى حتفه عندما جعلته يشارك، عن غير قصد، كما أخبرني أبو موسى يومذاك، القفص مع ذكر آخر. فنقره في عنقه وقتله حتى يستمرّ في الغناء وحده للأنثى في القفص المحاذي لقفصه. أخبرني الدكّنجي الستّيني بذلك وهو يحمل الكناري المدمّى العنق بين يديه كأنّه يحمل طفله الوحيد. جمع يديه كأنّهما نصف العالم وجعله ينام فيهما. عندما رآني، مدّهما إليّ ليريني «نانو» داخلهما، ونظر إليّ بعينين رأيت فيهما حزنًا بحجم العالم كلّه. كان كأنّه يسأل ابنة التاسعة: «ما العمل؟»، رفعت كتفيّ. «لا أدري». فتنهّد بعد ذلك وانطلق لدفنه في أحد مرائب السيّارات المجاورة.
سألته عمّا إذا كان يجب أن نغضب من زوجته لأنّها قتلت «نانو»؟ أجاب بأنّها غلطته. أمّنها على أرواح لم تكن تعرف كيف تهتمّ بها. اضطرّ إلى أن يقصد ضيعته ليلة واحدة فقط، لتقديم واجب عزاء. وما الذي يمكن أن يحدث لها في ليلة غياب واحدة؟! طمأن نفسه. ستصمد حتى يعود. أخبر زوجته كيف تطعمها وترويها وتغيّر لها قصاصات الجرائد في أرض الأقفاص حتى لا تبقى مع أوساخها، وكيف تسدل الشراشف على الأقفاص متى حان موعد نومها. لكن، لم يخطر في باله قطّ أنّها ستفكّر «في تغيير رفقته». قلت له لا بدّ أنّ زوجته كانت تفضّل غناء الكناري الأصفر، المختال، الممتلئ، على غناء «نانو» الأبيض الذي لم يكن يسمن مهما أطعمه. ابتسم ابتسامة حزينة، وقال إنّه لا يظنّ ذلك. غضبت لأنّه رفض أن يغضب معي. طبعًا، كان هو الراشد بيننا، فحزن هو وغضبت أنا. كان هذا الكناري الجالس داخل قفص مغطّى بشرشف رمادي اللون، ويحظى بمقعد له إلى جانب روشَنا خانم، أبيض اللون، تمامًا كـ«نانو»، كناري أبي موسى. هكذا تخيّلته دائمًا.
لو كنت أريد أن أحلّ موضوع مقعد روشَنا خانم برمّته، لكنت عرفت كيف أفعل ذلك. عليك أن تكون ذلك الشخص الذي تحذر عيناها منه. تقترب فجأة، وبسرعة قبل أن يتسنّى لها الوقت الكافي لتمنعك، ترفع القفص، تضعه على ركبتيك، وتهمس لها في أذنها ما تعرفه جيّدًا على الأرجح، وترفض الاعتراف به لنفسها. الكناري يكشف الغاز لا الانهيارات، هذا إن دُرِّب على ذلك طبعًا. هكذا يخبرنا المنطق والعلم. بعد ذلك، لن تعود روشَنا خانم إلى المترو أبدًا، هي أو عصفورها. لكن لِمَ أفعل ذلك؟ ولِمَ تشغل بالها هي بأمور كهذه؟ لمَ أرفع عنها خيمتها وهي أغلب الظنّ كشفتني أيضًا وحافظت على خيمتي. أهكذا أردّ المعروف؟! أنظر إليها وأعرف أنّها تحاول. أنّنا نحاول سويًّا. وجودها في حدّ ذاته يطمئنني. خوفها مسكّن لخوفي. لذا، يقول طبيبي النفسي إنّه لا بأس من أن أتّخذ منها نقطة مركزية تنسيني خوفي. «الأشياء الصغيرة»، قال. «ركّزي على الأشياء الصغيرة، ستساعدك». لكنّه وعدني أيضًا بأن أنام إذا ما تناولت قرص المهدّئ الذي وصفه لي، خلال أيّ كارثة، كبيرة كانت أم صغيرة. «ستنامين كطفلة»، قال. ثمّ أضاف: «تناوليه قبل الصعود إلى الطائرة، ولن تشعري بأيّ شيء، ستنامين خلال الرحلة». نصحني بأن أتناوله أيضًا عندما تراودني أفكار مروّعة كما عندما ينتابني هوس بأنّني مصابة بالسرطان مثلًا وبقي لديّ أيّام معدودة لأعيشها، أو أنّ الإرهابيين على مقربة من المدينة، سيحتلّونها قريبًا ويحزّون رقابنا جميعًا... «لا تتناوليه أبدًا، وأنت في اجتماع، أو عندما تكونين بحاجة إلى إلقاء خطاب (هذا لا يحدث معي) لأنّك عندئذ ستشعرين بأنّ رأسك ولسانك ثقيلان، والحروف لن تخرج من فمك بشكل طبيعي»، قال. لو نمت خلال نوبات الهلع تلك أو تلكّأ لساني أمام الناس، لكان سيكون ذلك رائعًا فعلًا، لكنّني لا أعرف عمّا كان يتحدّث طبيبي لأنّني لم أنم يومًا بسبب القرص المهدّئ الذي وصفه لي، أو أيّ مهدّئ آخر وصفه أطبّاء آخرون بعد ذلك! قلقي صاحٍ إلى هذه الدرجة! حتى ضربه على رأسه بقرص مهدّئ لا يجعله يفقد الوعي. يترنّح فقط، لكن لا يفقد الوعي أبدًا. جرّبت نصف القرص وجرّبت القرص بكامله ولم يتغيّر شيء. لا أنام إلّا إذا اخترت أنا أن أنام! أي إنّه قرص منوّم جيّد نسبيًّا، إذا ما ارتديت البيجاما وتناولته وذهبت بملء إرادتي إلى السرير. سأنام بعد ذلك كطفلة، أقرّ له بذلك. لكن، أن أنام وأنا في أمسّ الحاجة إلى ذلك، وأنا متوتّرة، وأمرّ بأيّام صعبة تؤرقني؟! لا، أبدًا! حتى أنّه لا يجعل قلقي يختفي. يختبئ ربّما خلف ستارة تُظهر رجليه، لكن لا يختفي خلف سحب كثيفة أبدًا.
القلق هو عين الله التي ظهرت للعلن، لتراقب قابيل بعد ارتكابه الجريمة الأولى على الأرض، كما صوّرها فيكتور هوغو في قصيدته «الضمير». حاول قابيل أن يهرب من عذاب ضميره بعد قتلِه أخاه هابيل، إلّا أنّ عينًا كبيرة ظهرت له فجأة، في السماوات التي اسودّت حدادًا على أخيه! صار قابيل يهرب ويختبئ من عين مفتوحة على وسعها في الظلمات، تراقبه بشراسة من علوّها أينما ذهب، ولا تحيد قيد أنملة عنه. وصل إلى سفح جبل، فنظر إلى أعلى ورآها هناك تبادله النظر، فقال: «أنا قريب جدًّا». ثمّ تابع وعائلته مسيرة التيه، فمشى ثلاثين يومًا وليلة، حتى وصل إلى البحار، إلى حدود العالم. صنع له هناك ابنه جابل من القماش، شادرًا يختفي تحته، ثم سُئل عمّا إذا كان لا يزال يراها، فأجاب: «نعم، ما زلت أرى هذه العين!».
شيّد له أبناؤه بعد ذلك حائطًا برونزيًّا ليحميه، وعندما كانت العين لا تزال تراقبه، تدخّل أبو الحدّادين طوبل قابيل، وبنى له مدينة مهولة، جهنّمية، فردت مداميكها الثخينة ظلالها على القرى المجاورة لها، فحلّ الظلام فيها، وكُتِبَ على مداخلها عبارة: «ممنوع دخول الله». ثمّ وُضِعَ قابيل في قلعة داخلها. وعندما أُنهِيَ البناء الشاقّ سألته حفيدته تسيلا، وهي ترتجف: «أبتاه، هل اختفت العين؟». أجاب: «كلا. ما زالت هنا!». قرّر قابيل بعد ذلك أنّ مخبأه الوحيد من هذه العين التي تصرّ على اللّحاق به والتحديق فيه من أعلى، هو تحت الأرض. وعندما حفر قابيل قبره بيديه ونزل ليسكنه، وجد العين قد سبقته إليه، تقبع هناك في الظلام، منتظرة! خلال هذه الرحلة، يصف هوغو قابيل، وهو يهرب مجتازًا مسافات شاسعة ليختبئ من عين الله، أنّه كان أخرس، أشعث، شاحب اللّون وحذرًا، لا يجرؤ على النظر خلفه. يتابع مسيره من دون هدنة أو راحة أو نوم.
أنا وروشَنا خانم ومن مثلنا، نحاول أن نختبئ، طيلة الوقت من عين القلق التي تجلس على عرشها فوق وتراقبنا. لا يمكن الوصول إليها لنكزها بغصن شجرة أو لفقئها بمخرز. كلّ ما يمكننا فعله، هو سلوك طريق الملعونين، طريق قابيل، والهرب في الوعر، داميتين في بعض الأحيان، ومقاربتين الموت أحيانًا أخرى، إلّا أنّنا نقف مجدّدًا ونتجاهل قدر المستطاع أنّها تراقبنا حتى نعيش. ننسج خيمة وهمية فوق رؤوسنا لا تقي الملعون عين ساحره، إنّما فقط نتمنّى أن تقينا عيون الناس. نحاول أن نخفي ضربات قلبينا المتسارعة، تعرّقنا وتوتّرنا طوال الوقت. نرتدي عباءة وهميّة نخفي تحتها أشباحنا. نخفيها تحت جلد نعتقد أنّنا جعلناه سميكًا كفاية حتى نمنع الآخرين من التلصّص علينا، واكتشاف سرّنا. نحن الذين نقول لوساوسنا «صصصص»، اسكتي! عندما نكون محاطين. أنا وهي ومن يشبهوننا، المصابين بالقلق المرضي، نرسم في رؤوسنا دائمًا خطّة الهروب واحد واثنين، ثلاثة وأربعة إن اقتضى الأمر.
لكنّنا قويّتان لأنّنا نحاول أن نكون كذلك يوميًّا، ونتخطّى رحلة أخرى ضرورية في المترو. ربّما هناك ثالثٌ مثلنا بين الجموع ينظر إلى عصفور روشَنا خانم، ثمّ ينظر إليّ أراقبها ويعرف. يحاول معنا. ليس بصخب مثلها لكن بهدوء مثلي. لا أعرف ما إذا كان هذا الشخص موجودًا بيننا، لكنّ وجود روشَنا خانم على الأقلّ، يكفيني. يخبرني بأنّني لست وحيدة.
سرّ العصفور بسيط. هي تحمله، لأنّه عندما يأتي اليوم الذي ينهار فيه كلّ شيء، ويطبق هذا النفق على أنفاسنا، سيقودنا عصفورها، هذا الكناري الصغير، إلى الضوء، إلى الأمان. أو هكذا تقنع نفسها. هي لا تريد أن تزعج أحدًا، تتمنّى لو أنّه لم يكن عليها فعل هذا، لكنّ طنين الأفكار في رأسها وغليان الهواء في صدرها يحتاجان إلى ما يسكّنهما. هي تتمسّك بعصفورها، كما أتمسّك أنا بالقرص المهدّئ المكسور إلى نصفين، والذي أحمله دائمًا معي. وهل القرص الذي أتناوله لأسيطر على خوفي أكثر فاعلية من الكناري خاصّتها؟ نحن فقط نتناول مهدّئين مختلفين. هي عندما تجزع تحتاج إلى صديقها ذي الريش الأبيض إلى جانبها ليطمئنها، وأنا أحتاج إلى تلك الخلطات الكيميائية حتى تعلّق، فترة زمنيّة بسيطة، شعوري الدائم بالألم والخوف. قد لا أكون أعرف قصّة روشَنا خانم، لكنّني أعرف كيف يولد الخوف في أنفسنا، وكيف يحاول كلّ منّا مداواته على طريقته.
رغم المعاناة اليوميّة التي أعيشها بسبب هذا المرض، لا أستطيع القول إنّني أكرهه. في السابق أجل، كنت أكرهه وأكره نفسي أيضًا معه. إلى أن كان مرضي، بطريقة ما، سببًا لمعرفتي بنيامين، السعادة الوحيدة في حياتي.
أذكر جيّدًا يوم لقائنا الأوّل. ركبت المترو يومذاك أوّل مرّة. ليس في مدينتي الصغيرة مترو، حتى أعرف أنّه شيء آخر على لائحة الرعب الذي يأكلني، فذهبت إليه من دون تحضير. هناك، في النفق المظلم، ومع صرير العجلات على سككها، والضوء الذي ينقطع ويعود، شعرت كمن دخل قبره ليعود ويحيا من جديد كلّما دخل المترو محطّة جديدة. ثمّ يعود إلى الموت من جديد فالحياة. فالموت من جديد... فكّرت في كلّ تلك الثواني والدقائق المظلمة وكلّ ما يمكن أن يحدث فيها. ينهار النفق، يتعطّل المترو، فنعلق بين حائطين ونموت اختناقًا، يصطدم مترو بآخر، وأشياء أخرى لا أعرف كيف اخترعتها بهذه السرعة. في لحظات قليلة، تجمّعت حبّات العرق على جبيني، وبدأت يداي ترتجفان. تناولت بسرعة من حقيبتي علبة العدسات اللاصقة، وحاولت أن أفتحها، لكنّ الأمر استعصى عليّ. لم يكن باستطاعتي تثبيت يدي دقيقة واحدة حتى أفتح غطاء العلبة الصغيرة. فجأة أمسك غريب إلى جانبي بيدي، أخذ منها العلبة بهدوء وثقة من دون أن ينظر إلى وجهي. فتح العلبة بسهولة بالغة وناولني إيّاها، فعل ذلك هذه المرّة وهو ينظر في عينيّ مباشرة وابتسم. أخذت أنا العلبة من يده، ورغم توتّري، حاولت أن أبادله ابتسامته. نظرت إلى أرض المترو وابتلعت نصف القرص الموجود داخل علبة العدسات اللاصقة. سمعت حينذاك صوته أوّل مرة. قال إنّه لم يرَ أشخاصًا كثرًا يستخدمون علبة العدسات اللاصقة لهذا الغرض. فأصبحت ابتسامتي أعرض واحمرّ وجهي خجلًا.
«لا أعرف شيئًا آخر أضع فيه نصف قرص الطوارئ هذا. أحتاج إلى نصف قرص. نصف قرص فقط. هو صعب الكسر. عليّ أن أكسره في منزلي، ثمّ لا أعرف كيف أحمله معي...»، أمسك بيدي اليمنى فجأة، فأوقف ارتجافها، ثمّ نظر إليّ وابتسم. منذ اللّحظة الأولى التي رأيت فيها تلك الابتسامة، فكّرت في أنّني لا أستحقّ كلّ هذا. لا أستحقّ ابتسامة تعطيني كلّ هذه الطمأنينة. أنا يجب أن أتعذّب! يجب أن أخاف وترتجف يداي وتتعرّقان. يجب أن ينظر الناس إليّ في لحظات خوفي بفوقيّة وازدراء ويمضون. لِمَ هذا الغريب يمسك بيدي ويبتسم؟ يطمئنني... يحبّني.
لم أؤمن بالحبّ من النظرة الأولى قطّ. حياتي لا تسمح بأن أؤمن بخرافات كهذه. لكن إن كان موجودًا، فاللعنة، ها هو ينظر مباشرة إلى عينيّ!
3
على بعد أمتار قليلة من محطّة المترو، صوت تقليب البوشار في آلة التحميص اليدوية هو أوّل ما يصل إلى مسامعي. لقد وصلت إلى السوق. يحجز بائع البوشار لنفسه فيه زاوية ليست بصغيرة. لا يحتاج هذا البائع إلى أن ينادي على بضاعته، أو إلى أن يفعل أيّ شيء غير مزاولة عمله، ليلفت انتباه الناس إليه. يكفيه أن يقف في زاويته وآلة التحميص في يده اليمنى، يلوّح بها بساعده القوية إلى الأمام وإلى الخلف فيعلو البوشار فيها ويهبط ليصدر صوتًا ورائحة، يقودان من كان يشتهيه أو من لم يكن يفكّر في شرائه، إليه، بسهولة. عادة ما أحبّ هذا الصوت وهذه الرائحة، لكن اليوم يصعب عليّ التفكير في أيّ متعة وإن كانت بصغر هذه. التنزّه في السوق مع كيس بوشار في اليد، لا يليق بمن يحمل همًّا ثقيلًا مثلي، بل هو لمجموعات المراهقين الذين يمرّون بخفّة الفراشات، أو لمن يتنزهّون في السوق وحدهم بوجوه متأمّلة وابتسامات خفيفة عليها، لا يعرف ما خلفها غيرهم. أبتعد عن زاوية بائع البوشار لأبدأ رحلتي داخل السوق.
السوق تعجّ بالناس اليوم. هذه فرصة مناسبة لأختفي، مع ذلك تلتقطني عند إحدى الزوايا سيّدة مسنّة تحمل بيدها مبخرة. تقترب منّي بسرعة لتبخّرني مقابل ما قد أمنّ عليها به من فتات المال. هي لا تستجدي النقود من المارّة، بل تبخّرك من أجل المال. غيرها يجلسون في السوق أيضًا طيلة النهار جنب ميزان إلكتروني بسيط. هؤلاء أيضًا يقدّمون «خدمة» وزنك مقابل تومان واحد. أنظر إلى المرأة المسنّة مع ابتسامة اعتذار، وأُبعد المبخرة عنّي بحركة يد خفيفة، فتفهم أنّ لا رزق لها عندي اليوم. صناديق الفواكه والخضار، جبال البهارات الصغيرة الملوّنة عند بائع البهارات، كروش البقر المنظّفة حتى أصبح بياضها ناصعًا، أمخاخها الصغيرة وقوائمها، كلّها مرتّبة في صناديق وأوان للعرض واجتذاب الزبون في محالّ مفتوحة، من دون واجهات زجاجيّة.
يعلو فجأة صوت شجار في أحد الأزقّة. أَصِلُ متأخرة، فلا أعرف كيف بدأ الشجار. أرى فقط رجلًا يتهجّم على سيّارة تمرّ إلى جانبه ليركل بابها، فيفتح صاحبها الباب، ويعلو صراخهما مجدّدًا. لا أعرف خَطْب الرجلين، ولكن ليس خافيًا على أحد أنّ الرجل على الرصيف يبالغ في ردّ فعله ويصرخ ملء حنجرته، ليحظى بلحظة إعجاب من المرأة التي ترافقه. لقد نجحت خطّته! أبتعد عنهم لأجد نفسي إلى جانب مسمكة الآغا بيجان الذي لاحظني بسرعة بين المارّة. لا أعرف كيف صراحة، لكنّها موهبة العاملين في الأسواق بالتأكيد. يرفع يده ليلوّح لي ويناديني في الوقت ذاته. يسألني عمّا إذا كنت أريد سمكًا اليوم. أجيب بحركة نفي برأسي وأكمل سيري، لكن بعد خطوات معدودة فقط، أعود إليه مسرعة. قد يكون طهو سمكة اليوم أسهل من تحضير أيّ شيء آخر. يبتسم بيجان البائع عندما يراني عدت أدراجي لأدخل محلّه، فيخرج بمئزره الأبيض بفخر من خلف منضدة عمله:
«غيرتِ رأيك سيّدة رمضاني؟».
«أنت لا تُقاوَم بيجان آغا!».
فيبتسم ويخفض رأسه خجلًا، ويقول: «اثنتان كالعادة سيّدة رمضاني؟».
«كلّا، واحدة فقط تكفي اليوم».
ينظر إليّ باستغراب، ثمّ ينتشل سمكة ترويت واحدة من حوض الماء، من دون أسئلة. ننظر إليها نحن الاثنين بصمت وهي تتخبّط وتنازع ببطء في الحوض الجافّ. عندما سكنت نهائيًّا، حملها بين يديه. «أقطع الرأس؟»، سأل.
«أجل».
يدوّي صوت ارتطام سكّينه، مرّة واحدة، بقوّة على طاولة عمله، فيطيح رأسَ السمكة، ثمّ يتحوّل الصوت إلى خشخشة بسيطة وهو ينظّفها. يغلّفها بورقة، قبل أن يضعها في كيس أبيض، ويسلّمني إيّاها. ما إن خرجت من مسمكة الآغا بيجان، حتى وقعت عيني على عقد أزرق في واجهة أحد محالّ الفوبيجو المواجهة للمسمكة. أجد نفسي أقترب ببطء من الواجهة لأتأمّل العقد عن قرب. إنّه جميل! رغم أنّ سعره ليس مرتفعًا، إلّا أنّه يعطي انطباعًا أنّه أغلى مرّتين على الأقلّ، من سعره الحقيقي. أنظر إليه، وأتذكّر فجأة صديقتي المقرّبة من أيّام الثانوية. كانت سنتنا الأخيرة في المدرسة، وقبل موعد عيد ميلادها بأسبوعين، وكنت أفكّر في الهديّة التي سأهديها إيّاها وأبحث عنها. لينا كانت أفضل صديقة حظيت بها حتى ذلك الوقت. وأنا كنت صديقتها الوحيدة خلال معظم سنوات دراستنا المدرسيّة. كنّا في المدرسة، وفي عطلة نهاية كلّ أسبوع، نمضي معظم أوقاتنا سويًّا. أخبرها بكلّ ما يحقّ لي أن أخبرها إيّاه عنّي وعن عائلتي، وهي تفعل الشيء ذاته، ونبقي الزيارات المنزلية بيننا نادرة جدًّا، بينما نذهب إلى الحفلات والسينما ومطاعم الوجبات السريعة والشاطئ في الصيف دائمًا سويًّا. وكنّا نضحك كثيرًا. هي تلقبّني تارة بأسماء أشجار لا أفهمها، تبرّرها دائمًا بطول قامتي، وتارة أخرى تعطيني ألقابًا متنوّعة ومختلفة، تقول إنّها استوحتها من شخصيتي. تضحك بعد ذلك على الألقاب التي اختارتها بفم مفتوح على وسعه، وأضحك معها لأسعدها. بينما أحفظ أنا عن ظهر قلب مقاطع من أفلام نحبّها، وأُؤدّيها أمامها فنضحك وتقول، ربّما لإسعادي أيضًا: «سأصبح يومًا ما مخرجة مشهورة وأطلبك للتمثيل في أفلامي».
بيننا نحن الاثنتين، كنت أنا، مع الوقت الذي أمضيه في مراكز التسوّق وقراءة مجلّات المراهقين والموضة، الأفضل بالتأكيد في الشوبينغ. أحد أفضل إنجازاتي معها، بالنسبة إليّ، كان يوم اشترينا لها ثوب سباحة. اخترت لها مايوه أزرق سماويًّا، لونها المفضّل، مؤلّفًا من قطعتين، وأقنعتها بأن تلبسه أوّل مرّة على الشاطئ بعد أن كانت لا تذهب إلّا بسروال قصير وبلوزة خفيفة، خجلًا من وزنها الزائد. الموديلّ الذي اخترته لها بدا مناسبًا جدًّا لجسدها، ولونه الأزرق، بدا لائقًا جدًّا على بشرتها السمراء وشعرها الأسود المنسدل على كتفيها. كنت مقتنعة بأنّها لو لم تشعر بجمالها فيه، لما رضيت بأن تخرج به أمام الملأ. فسعدت بنجاحي هذا. أمّا في الدراسة، فكانت لينا أفضل منّي. أفضل منّي بأشواط. هي الأولى في صفّنا، وأنا، حسنًا، لنقل أنّني كنت أكتفي بأن أنجح في سنتي من دون أن أكون منافسة لأحد. ليس لأنّني كنت أكره الدراسة، بل لأنّني كنت أكره البقاء في المنزل مع أمّي وأختي، فكنت أمضي معظم وقتي خارج البيت، في مراكز التسوّق أو في الـ«فيرجن ميغاستور» أقرأ وأستمع إلى الموسيقى طيلة النهار وأتعرّف هناك إلى أشخاص، أتسكّع معهم قليلًا، نتبادل أرقام هواتفنا، لكنّنا لا نعاود اللقاء خارج تلك الدائرة أبدًا.
كانت والدة لينا عكس والدتي في كلّ شيء تقريبًا، مع ذلك كنت أشعر بالنفور ذاته منها. والدتها كانت تتّبع معها نظام «المكافأة والعقاب» منذ ولادتها. إن أتى ترتيبها أوّل في الصفّ، تحصل على كلّ ما تطلبه، وإن حلّت ثانية، كانت تحجزها في غرفتها، تمنع عنها الزيارات وتمتنع هي ووالدها عن الكلام معها فترة غير محدّدة، أو حتى تشعر بأنّها قادرة على النظر في عيني ابنتها مجدّدًا. فحلولها في المرتبة الثانية، في أيّ شيء، يعني أنّها «لا شيء»! كائن غير موجود، لا يستحقّ أن يُنظر إليه حتى أو أن يعيره أحدٌ انتباهه. فتقفل عليها باب غرفتها الفارغة من كلّ شيء، إلّا من مكتبة ليس فيها سوى كتب المنهاج الدراسي. يمكنها فقط أن تفتح الباب لتأخذ صينية الطعام من أمام الباب، وتعيدها فارغة.
رغم صداقتنا، لم تخترني لينا مرّة واحدة حتى في الصفّ، لأكون ضمن حلقتها الدراسية، عندما يطلب منّا الأستاذ أن نحلّ الفرض سويًّا ونقدّمه له كمجموعة. وعلى الرغم من كلّ ذلك الوقت الذي كنّا نمضيه سويًّا، كانت تبعدني عن قصد، عن حلقاتها الدراسية التي كانت لا تضمّ إلى جانبها سوى أصحاب الترتيب الثاني والثالث والرابع، في الدراسة في صفّنا. كان الموضوع يزعجني طبعًا، لكنّني كنت أتفهّم تصرّفها. أفهم الضغط الذي تلقيه والدتها على كاهليها. كلّما رأيتها تقهقه بفمها الكبير في اجتماعات الأهالي في المدرسة، مغرورة، مختالة، سعيدة بحلول اسم ابنتها في أعلى لائحة الشرف، كرهتها. كرهتها لما يفعله ضعفها بلينا وبصداقتنا.
قلت للينا مرّة بعد أن كنت فهمت قليلًا ممّا يحصل في منزلها: «أنت لست سوى كلبة أخرى إذًا». فنظرت إليّ باستغراب وتعجّب شديدين وأجابتني بلهجة حادّة: «أمّي تحبّني! هي تفعل ذلك من أجلي. هي تحبّني كثيرًا». ثمّ وقفت وغادرت الكافيه الذي كنّا نقرأ فيه، وبقيت تتصرّف بغرابة معي حوالى أسبوع. لمت نفسي على اختياري هذا التعبير. لم يكن عليّ أن أقول ذلك. أخطأت وجرحت شعورها. لم تكن تعرف بعد أنّ أمّها لا تحبّها، فليس الجميع معتادًا أن تجمع أمّهاتهم اللّعاب في أفواههنّ ثمّ يبصقنه في وجوههم ويصرخن: «كلاب!»، بصراحة ووضوح بالغين كأمّي. عندما قلت إنّها كلبة، لم أقصد أن أكون متعجرفة. لكنّني قصدت أنّها كلبة أخرى فقط. كلبة مثلي. لكن أظنّ أنّ بعض الناس يحتاجون إلى وقت أطول ليفهموا ذلك، فكلاب المنازل ترفض أن تقارن نفسها بالكلاب الشاردة!
مع اقتراب عيد ميلادها السابع عشر، وفي سنتنا الدراسية الأخيرة، وكنت أريد أن أهديها شيئًا مميّزًا. فكّرت في أنّه إذا صنعت لها ربّما هديّة بنفسي، فستعرف مدى حبّي لها وتقديري لصداقتنا. فكّرت كثيرًا في ما أصنع، وأنا أفكّر، لملمت بعض أوراق الأشجار من الطرقات. فكّرت في أنّني سأحتاج إليها إن اخترت أن أصنع لها دفترًا مليئًا بصورنا مثلًا، وأضيف هذه الأوراق اليابسة إلى جانب الصور... إلى أن وقعت عيناي على ذلك العقد الأزرق، في واجهة أحد المحالّ، فتركت أوراق الشجر ترحل لمصيرها. كان مصنوعًا بإتقان، من حجر أزرق يجعل تفريقه عن حجر الفيروز الطبيعي أمرًا صعبًا. بدا في لحظة معيّنة أنّه الهديّة المثالية، كأنّه الشيء الذي كنت أبحث عنه. بدا ساحرًا، وعرفت في تلك اللحظة أنّه لا يمكنني أن أصنع شيئًا بهذا الجمال! مستحيل! قرّرت أن أشتريه فورًا، رغم أنّ ذلك تطلّب منّي صرف كامل مدّخراتي. كنت متحمّسة جدًّا لرؤية ردّ فعل لينا عندما أقدّمه لها وتكشف ورق الهديّة عنه.
بعد أيّام، عندما استلمت لينا العقد الأزرق، كشفت عنه ورقة الهديّة، نظرت إليه ببرود ورمته جانبًا! لم تعره الكثير من الاهتمام، وعندما حلّ عيد ميلادي بعد ذلك لم تشترِ لي شيئًا! ادّعت أنّها لم تكن تعرف تاريخ ميلادي عندما سمعت زملاء صفّنا الآخرين يتمنّون لي عيدًا سعيدًا، ونحن كنّا قد أمضينا سنوات كثيرة قبل ذلك نحتفل به سويًّا! كان ذلك، عندما بدأت تتقرّب من زميلة أخرى لنا، ليال، وهي في المرتبة الرابعة على لائحة الشرف. كتبت يومذاك في دفتر مذكّراتي بخطّ كبير وأنا أبكي: «لينا ليست صديقتي. ليست صديقتي. أتمنّى أن تختفي من المدرسة ومن هذه الدنيا على حدّ سواء!».
ربّما لم يكن يحقّ لي أن أحزن. ربّما لم تكن قد سامحتني بعد على ما قلته لها في المقهى ذلك اليوم. هل بقيت حاقدة كلّ ذلك الوقت؟ ألم تستطع أن تتخطّى الموضوع أو تسامحني يومًا؟ لا أعرف. لكن هي أيضًا كانت تجرحني في الصميم مرارًا وتكرارًا، عندما يحين وقت اختيارنا الفريق الذي سنحلّ فرضنا ضمنه، وتطلب منّي، من دون أيّ خجل، أن أذهب لأجد فريقًا لي، بما أنّ فريقها، الثلاثة الأوائل الآخرين في الصفّ، أصبح جاهزًا لحلّ الفرض! هي أيضًا لم تكن تفكّر في شعوري في كلّ تلك المرّات! ثمّ إنّها لم تكن بحاجة إلى قوى فريق «العباقرة» هؤلاء كلّهم لحلّ فرض مدرسيّ، أعرف أنّها كانت هي أو أيّ منهم قادرًا تمامًا على حلّه وحده بسهولة. أو أنّه كان بإمكانها، على الأقلّ، أن تختار اثنين منهم وتترك الكرسيّ الرابع لصديقتها المقرّبة. لم يكن ليضرّها هذا الموضوع في شيء. لكن لا، كان على فريقها أن يكون «مثاليًّا» مثلها! أن تُدَوَّن أسماؤهم اللمّاعة، هم الأربعة، دائمًا جنب بعضها بعضًا على لائحة الأساتذة. حسنًا، لكن بعد ذلك، لم يعد هناك شيء «مثاليّ» في حياتها. قبل التخرّج، لم نعد نلتقي أنا وهي سوى دقائق قليلة في المدرسة، نسأل فيها عن أحوال بعضنا بعضًا بسرعة ونفترق. وبعد أن ذهبت كلّ منّا إلى الجامعة التي اختارتها، اتّصلت بها مرّات قليلة بداية. تمنّيت أن يكون لهذه الصداقة جذور، أن تعود للظهور بعد انتهاء موضوع ليال، لكنّ لينا صارت تستعمل معي صوتها وتعابيرها الجاهزة، المهذّبة التي تخصّصها عادة للغرباء. فهمت عندذاك أنّ لا شيء نحييه هنا، وتوقّفت عن الاتّصال. عرفت لاحقًا من زميلة كانت معنا في الصف، أنّ سنوات الجامعة كانت صعبة جدًّا عليها. فكانت تهرب من الزملاء الذين انتقلوا معها من المدرسة إلى الجامعة نفسها، وتتجنّب مصادقة أيّ شخص جديد. بين ثلاثمئة طالب في صفّها يتنافسون على المراكز الأولى، اختفت هي. لم تعد أولى ولا ثانية ولا حتى عاشرة، وعندما لم يعد باستطاعتها وضع رقم إلى جانب اسمها اختفت كلّيًّا. عزلت نفسها عن العالم طوال تلك السنوات ولم تصبح بعد ذلك عالمة ولا مخرجة ولا حتى موظّفة براتب عالٍ كما كانت تريد لها أمّها أن تكون، بل هي الآن معلّمة عادية في ثانوية، ليست حتى من الأفضل أو الأهمّ في البلاد! عندما سمعت الخبر، لم أفرح حقيقةً، لكنّني تساءلت عن أحوالها اليوم؟ كانت أمّها ستموت لو ظنّت يومًا أنّ ابنتها يمكن أن تكون «عادية» بهذا الشكل. هل تحرّرت لينا أخيرًا منها ومن كلّ ما كانت تريده لها؟ ماذا حدث ليصبح شيء عاديٌّ، كعملها في تلك المدرسة، قادرًا على إرضائها؟ هل إرضاء والدتها لم يعد يهمّها أخيرًا، وأصبحت تبحث عن سعادتها هي؟ وإن لم يكن هذا ما خطّطته لنفسها، فعليّ إذًا أن أخاف عليها! هذا يعني أنّها خسرت رهانها في الحياة. لا أنكر أنّ جزءًا منّي ما زال يهتمّ بأمرها ويخاف عليها كثيرًا. فأنا تربّيت على قبول الخسارة وتحمّلها، أمّا هي فلا. هي كلبة منزل. وبيننا نحن الاثنتين، لطالما اعتقدت أنّ فرصها هي في النجاة، كانت أفضل من فرصي بكثير. كنت أظنّ أنّه يمكنها أن تصل إلى السعادة، بينما أنا محكوم عليّ بالموت. لا أريد أن أصدّق أنّنا نحن الاثنتين فشلنا!
رغم مرور أكثر من عشر سنوات على تاريخ إهداء لينا ذلك العقد الأزرق، ما زال تذكّر الموضوع يؤلمني ويرسم ابتسامة مرارة على شفتيّ. ورغم جمال العقد الذي أراه في الواجهة أمامي الآن، إلّا أنّه ليس بجمال ذلك الذي أهديتها إيّاه أبدًا. فكّرت في ذلك، وابتعدت عن محلّ الفوبيجو ذاك، وبعد أن اشتريت القليل من الحاجيّات، قرّرت أخيرًا العودة إلى المنزل.
4
في طريق العودة، فكّرت في أنّه اليوم الأوّل الذي أخرج وأتبضّع فيه بعد رحيل بنيامين. اليومان الأوّلان أمضيتهما في السرير، أجترّ ما حصل صباح الاثنين في رأسي وأعيده مرارًا وتكرارًا ومن دون كلل. لولا أنّ برّادي أصبح فارغًا تقريبًا، لكنت أمضيت اليوم أيضًا كاليومين اللذين سبقاه على الأرجح.
الاثنين صباحًا، استيقظ بنيامين وأعلن أنّه لم يعد بإمكانه الاحتمال أكثر من ذلك. لم يعد بإمكانه التظاهر بأنّه يمكنه تقبّل الموضوع، وأنّ الأمر ليس على هذا القدر من الأهمّية بالنسبة إليه. «هذه خيانة لا أستطيع احتمالها»، قال وهو يحزم حقائبه بعصبية، بينما جلست أنا على الكنبة أنظر إليه بهدوء. وضّب ملابسه في الحقيبة وهو يتمتم ويشتم بصوت خفيض. أوّل مرّة، لم يكن لديّ ما أقوله دفاعًا عن نفسي. أوّل مرّة لم أحوّل ضعفي إلى ثرثرة، إلى كلمات من دون معنى. لم أبرّر، لم أخترع كذبة أحوّلها إلى حجّة وأجعله يصدّقها. اختنق صوتي، وبقيت فقط جالسة بهدوء، أراقب زوجي يرحل، وأدرك أوّل مرّة أنّني كسرت شيئًا بيننا ما عاد بالإمكان إصلاحه!
كلماته الأخيرة، قبل أن يقفل باب المنزل خلفه بقوّة، ما زالت تجد صداها في رأسي. «سأرحل. سأترك لك المنزل وأرحل. يمكنك أن تبقي هنا أو أن تعودي إلى بلادك، لا يهمّني. المهمّ أنّني لا أريد أن أراك بعد اليوم!».
لكنّني لن أعود إلى بلدي. ليس لديّ هناك من أعود إليه. أتمنّى فقط أن يكون قال ذلك في لحظة غضب. أتمنّى أن يكون، لا يعني قوله بأنّه لا يريد أن يراني بعد اليوم. هو يرى أنّ ما فعلته خيانة لعلاقتنا وأنا لا أراه كذلك أبدًا.
منذ أسبوعين تقريبًا، ذهبت مع زوجي إلى محلّ عطور. تناولت الأوراق البيضاء الصغيرة استعدادًا لبدء رحلتي بين الرفوف ومنصّات عرض الماركات الكثيرة. لكنّني لم أكن قد جرّبت عطرًا ثانيًا بعد، عندما تنبّهت فجأة إلى بنيامين وهو يلوّح بيديه، محاولًا لفت انتباهي في المحلّ. كان يقف أمام العطر الذي أشتريه عادة، 1 Million من باكو رابان. حمل قنينة بيده، وأومأ لي برأسه لأوافيه إلى الصندوق، فرفعت كتفيّ لأعترض على فكرة المغادرة وأشرت له بأوراق تجربة العطور الكثيرة في يدي. أريد عطرًا جديدًا هذه المرّة! قطّب بنيامين حاجبيه وبدا عليه الانزعاج. اقترب منّي، وقال: «أف ليلى! ألم تكوني راضية عن العطر الذي تستعملينه؟ لِمَ عليك تغييره؟ لِمَ لا ترضين بما لديك؟». قبل أن أحظى بالوقت الكافي لأجيبه، كان رامين، البائع بالبزّة السوداء الضيّقة والحاجبين المقوّسين، المرسومين بخطّين نظيفين، قد تنبّه إلى التوتّر بيننا واقترب مسرعًا. قال ممازحًا، وهو ينظر في عينيّ بتحدٍّ: «غالبًا ما تفتقد النساء الوفاء يا بنيامين آغا. يُردن دائمًا ما لم يجرّبنه بعد. ما ظهر في الإعلان الجديد لهذه الماركة أو تلك. أمّا الرجال، فهم أكثر وفاءً للماركات التي يشترونها!». فأجبته: «أعتقد أنّ اسمه انعدام مخيّلة مقابل اتّساع حبّ الاكتشاف وتجربة كلّ ما هو جديد يا رامين!».
«كلّا، يا عزيزتي! هو ببساطة اسمه وفاء!». ثمّ نظر رامين إلى بنيامين، وابتسم مضيفًا: «لكن لا تقلق يا بنيامين آغا، سأساعد السيّدة ليلى في اختيار عطر جديد يناسبها بسرعة». تنبّهنا عندذاك إلى أنّ بنيامين لم يفهم مرحنا هذه المرّة قطّ، فضرب الأرض برجله وغادر المحلّ مسرعًا، ليتركني وحدي مع رامين، ويذهب لينتظر في السيّارة. استغربت يومذاك تصرّفه هذا كثيرًا. كانت المرّة الأولى التي يبدي فيها بنيامين غضبه خارج المنزل، أو يتركني وحيدة في أيّ مكان. ومن أجل ماذا؟ رغبتي في شراء عطر جديد!
بداية، اعتقدت أنّه غضب لأنّه كان يتوقّع زيارة سريعة لمتجر العطور، أشتري فيها المعتاد ونغادر. اعتقدت أنّه كان في عجلة من أمره ومزاجه لم يكن يسمح بأن أتبختر بين الرفوف وأجرّب كلّ العطور الجديدة التي عرفت أنّها أصبحت متوفّرة في المتاجر، أو تلك التي يجذبني شكل زجاجاتها في المحلّ، فأضيفها إلى اللائحة. لكنّني لم أفهم أنّ غضبه وقلّة صبره ذاك اليوم، لم يكن لهما أيّ علاقة بمحلّ العطور، إنّما كان بنيامين قد بدأ يشكّ.
خطئي أنّني كنت أعتقد أنّ هذا السرّ بالتحديد، سيكون دائمًا بأمان. أنّه لن يخرج إلى العلن أبدًا لأنّه يعنيني أنا وحدي ولا يعرفه أيّ إنسان آخر. ومهما ظنّ بنيامين أنّه يعرف ما أخفي، فلا يمكنه أن يجد دليلًا حسّيًّا على هذه الخيانة. لا عطر على ثيابي، لا رسالة في هاتفي أو اتّصال من رقم يتردّد كثيرًا. بكلّ بساطة، إن لم أفتح فاهي أنا وأتكلّم، فلا يمكن أحدًا أن يسحبه منّي، حتى كانت تلك الليلة! حين تكلّمت في نومي وقلت اسمه. تكلّمت في نومي، وخرج اسم شيرو إلى العلن فتلقّفه بنيامين.
* * *
وصلت توًّا من السوق إلى المنزل. أصبح دخوله مملًّا بعد أن أصبحت وحيدة. أجلس وحدي ولا شيء أنتظره. بنيامين أو بِني كما كنت أناديه قبل أن يترك المنزل، لن يعود في السادسة من مساء اليوم. قد يكون اصطحب والدته، كعادته، إلى غدائهما الأسبوعي في الخارج، أو وجد لنفسه حجّة سخيفة واعتذر على أساسها عن عدم لقائها. لا أعرف. جلّ ما أعرفه أنّه اليوم، لن يعود إلى المنزل، كما في كلّ خميس، عند السادسة مساءً.
أصبحت وحيدة منذ ثلاثة أيّام فقط، وقد بدأ المنزل يصبح فوضويًّا منذ الآن. النظر إلى السرير وحده كافٍ ليضاعف كآبتي. سيحلّ الظلام قريبًا ولم أرتّبه بعد! بعض ثيابي كما بعض المحارم المكوّرة مرمية عليه، إضافة إلى كوب قهوة فارغ، علبة تشيبس كبيرة وسمّاعات الرأس مرمية هي الأخرى إلى جانبه. هل عليّ ترتيبه الآن؟ لا أحتمل الفكرة، فأبتعد قليلًا عن غرفة النوم. في المطبخ، الأواني متراكمة في حوض المجلى والملابس في الغسّالة منذ يوم الاثنين! لم أعلّقها على المنشر الداخلي بعد. أعتقد أنّ عليّ غسلها من جديد الآن! حال المطبخ، المفتوح على الصالون، ليس أفضل إذًا. أعود إلى غرفة النوم وأنظر إلى السرير مجدّدًا. الإحباط يضرب بشكل أقوى الآن. ليس فقط لأنّه عليّ أن أرتّب السرير، بل لأنّ الجزء المكشوف من المرتبة، يذكّرني بأنّه عليّ قلبها إلى الجهة الأخرى أيضًا. السرير لشخصين والمرتبة كبيرة. كيف يمكن شخصًا أن يقلبها وحده؟ لا يمكن، ببساطة. بعض الأعمال الصغيرة مصمّمة ليقوم بها اثنان، وقبل غياب الشخص الثاني لا نتوقّع أنّه لا يمكننا القيام بها وحدنا. كان من المفترض أن يكون سريرًا مزدوجًا، لكنّه الآن أصبح سريرًا لشخص واحد، ومعضلتي أنا الآن، هي كيف أقلب وحدي مرتبة سرير مزدوج؟!
منذ أشهر قليلة، خسرت الكثير من الدماء. خسرت الكثير من الدم بسبب الحيض، ولم أنتبه إلى ذلك إلّا عندما أيقظني بِني في منتصف الليل، قائلًا: «دمك يسيل. اذهبي واغتسلي». عدت من الحمّام لأراه يقف عاجزًا أمام المرتبة المبقّعة ببقعة دم كبيرة. «ماذا نفعل؟ أنظّفها أنا؟»، سأل والقرف باد على وجهه. «لا. لا داعٍ. تنظيفها أمر بسيط. اذهب ونم على الكنبة، سأنتهي من تنظيفها وآتي». لكنّ بنيامين كالطفل الكبير، إن لم يكن باستطاعته أن يساعد بشيء، فهو سيبقى واقفًا إلى جانبي، يراقب ما أفعل، حتى نذهب سويًّا إلى النوم بعد ذلك. هكذا وقف يراقبني وأنا أفرك بالماء والصابون بقعة الدم التي للمفارقة كلّما فركتها، تمدّدت أكثر. راح يبحث على غوغل عن طرائق لتنظيفها، ويقترح عليّ استعمال البايكينغ صودا مع الماء البارد أو الهيدروجين بيروكسايد مع الملح، بينما كنت أستشيط غضبًا من تلك البقعة التي لا تنفكّ تكبر وتتمدّد تحت ضربات الإسفنجة، ولا أعرف كيف أوقفها في هذا الوقت المتأخّر من الليل! حاولت جاهدة ألّا أصرخ في وجه بنيامين، فرفعت وجهي لأنظر في عينيه ببطء، وقلت بهدوء من يحاول كظم غيظه: «بِني! أنت تعرف بيتنا صح؟ هل تعتقد أنّ فيه أيًّا من الأشياء التي ذكرتها توًّا؟! أنا حتى لا أعرف معنى تلك الأسماء! ستساعدني الآن في وضع المرتبة قرب النافذة ونحلّ الأمور الباقية في الصباح».
في الصباح، كانت المرتبة تقف في غرفة المكتبة، متّكئة على الحائط قرب النافذة المقفلة وجهاز التدفئة الذي ينشر الهواء الدافئ في الغرفة، وقد أصبح لونها برتقاليًّا بالكامل! نظر إليها بنيامين مجدّدًا بقرف وإحباط، وسأل: «ماذا نفعل؟ لا يمكن إصلاحها بعد أن جفّت الآن. هل نشتري غيرها؟»، أجبته: «لا تكن سخيفًا. سنقلبها فقط!».
منذ صباح الاثنين الماضي، عادت المرتبة لتُظهِر جانبها البرتقالي. كنّا وضعناها مساء الأحد، جنب النافذة، مفتوحة هذه المرّة، وخرجنا بضع ساعات من المنزل حتى نتركها تتنعّم بهواء الجبال قليلًا. لكنّ بنيامين قرّر المغادرة صباح الاثنين، قبل أن نعيدها إلى مكانها. لا أعرف، لِمَا تصبح فجأة هذه الأشياء الصغيرة أمرًا يستأهل الاهتمام في حياتي. بشكل غريب كفاية، وجد طبيبي النفسي ذلك مفيدًا لي وشجّعني على التفكير في الأشياء الصغيرة حتى أتخطّى المسائل الكبيرة وأهزم قلقي. قال: «لا تركبي طائرات ليس فيها شاشات. ركّزي على الفيلم في الطائرة حتى تنسي أنّك معلّقة في الهواء. اقرإي أيّ شيء في هاتفك الجوّال قبل دخول المصعد». هكذا أنفّذ، وأفتح صفحة تنقل أخبار المشاهير في هاتفي قبل أن أدخل المصعد.
«انتظار الإعلان عن اسم طفل وليام وكايت الجديد يدخل يومه الرابع!». فجأة، يصبح هذا الخبر أهمّ خبر قرأته في حياتي! أتظاهر بذلك لأدخل المصعد. الخبر مهمّ، لا أستطيع أن أبعد عينيّ عن شاشة الهاتف! ركّزي! ركّزي في الخبر. الولد. هناك صورة مع الخبر. هذا أفضل. كايت ميدلتون بفستان أحمر بسيط، ياقته بيضاء، حاملة رضيعها الجديد والأمير إلى جانبها، يضع يده خلف ظهرها. تتسارع أنفاسي، وأنا أقول لنفسي: «ركّزي». ماذا بعد؟ آه، الخبر يقول إنّها «أطول فترة انتظرناها لنعرف اسم المولود الملكي الجديد. فقد أُعلِنَ اسما أخيه وأخته بعد يومين فقط من ولادتهما!» وهذا، لا نعرف اسمه بعد؟! «أصبح عمر الأمير البريطاني الجديد أربعة أيّام والعالم ما زال ينتظر إعلان اسمه!». أجل! صحيح. ما عاد باستطاعة العالم الانتظار. علينا أن نعرف اسم الأمير الجديد! لا يمكن أن نُترَك معلّقين هكذا. ماذا أيضًا؟ ركّزي! من كتب الخبر؟ ثلاثة صحافيين! تحتاج هاتان الجملتان اللتان ما زلنا ننتظر فيهما اسم مولود جديد، إلى ثلاثة صحافيين لكتابتها! لا بدّ أنّني لا أعرف شيئًا عن الصحافة، حتى تحتاج كتابة مثل هذه السطور إلى مساهمة ثلاثة صحافيين! ما إن توقّف المصعد في الطبقة التي أقصدها، حتى رميت الخبر في سلّة المهملات بحركة إصبع سريعة إلى الأعلى، في شاشة هاتفي. رغم أنّني أعرف أنّه عدا بعض غريبي الأطوار، العالم لديه أمور أهمّ بكثير من اسم الأمير الجديد لينشغل بها، إلّا أنّني ممتنّة للصحافة الصفراء، فهي تجعلني أدخل المصعد عندما يتحوّل إلى مجرّد علبة فارغة، معلّقة في الهواء بالنسبة إليّ!
إن ركّزت على المرتبة البرتقاليّة الآن ومعضلة قلبها، فقد أنسى ربّما رحيل بنيامين، ولن أنهي يومي في السرير من الساعة السادسة بعد الظهر، أفكّر في كوارث أخرى يمكن أن تصيبني كالسلّ أو السرطان. هل أتّصل بالطبيب النفسي وأطلب تحديد موعد لي؟ لا، لا داعي لذلك. يمكنني أن أتخطّى الأمر وحدي. سيغضب إن علِم أنّني ما زلت أرفض إشراكه في جميع نوباتي. لكنّه عليّ أن أحلّ هذه وحدي. سابقًا، لم يكن لديّ ترف الحصول على طبيب نفسي. لم أحصل يومًا على ترف الكلام. هكذا، الجلوس أمام شخص والفضفضة. أفرغ أمامه مشاكلي حتى أرتاح. أنا أبتلع ولا أتفّ. كلّ هذا جديد عليّ.
أذكر مرّة وأنا في الصفّ الابتدائي الخامس، وقعت في ملعب المدرسة على ركبتي وأنا أقفز من فوق الحبل في صفّ الرياضة. فتورّمت ركبتي واحمرّت فورًا. ساعدني أستاذ الرياضة يومذاك في المشي إلى أقرب مقعد، ثمّ ساعدني في رفع رجلي، قائلًا: «انتظري هنا، سأطلب من إدارة المدرسة أن تتّصل بطبيب ليفحص رجلك، لكنّك لن تستطيعي متابعة الصفوف اليوم». هلعت حينذاك، وأخذت أردّد: «لا لست مريضة! لست مريضة! أستطيع أن أتابع صفوفي». كنت صغيرة، ولم يكن لديّ أيّ اهتمام بصفوفي حقيقةً، لكنّني لم أكن أريد أن أذهب إلى المنزل. حتى بركبتي المتورّمة هذه، وعدم قدرتي على المشي، أمّي ستنظر إليّ أوّلًا نظرتها تلك، التي تحمّلني فيها مسؤولية ما حدث، ثم بعد ذلك لن تنظر إلى وجهي مجدّدًا في التاكسي. لن تساعدني لأصعد أو أنزل من سيّارة الأجرة، ولن تساعدني لأصعد الدرج لنصل إلى شقّتنا في الطبقة الرابعة، ولن تصدّق أنّني مريضة. قبل أن تفتح باب الشقّة، ستتوجّه إليّ بجملة وحيدة بصوتها المعتاد كإزميل يخترق الصخر: «أصبحتِ أفضل في التظاهر يا ليلى!». جلست بعد ذلك في سريري، وأنا أشعر بالذنب طيلة الوقت. بالذنب لأنّني وقعت، وبالذنب لأنّ الإدارة اضطرّت إلى إرسالي إلى المنزل، وبالذنب لأنّني أجلس عاجزة الآن في السرير. نمت وأنا أفكّر في ما إذا كنت فعلًا وقعت عن قصد أمّ إنّ الأمر كان حادثة. هل أنا أتظاهر كما اتّهمتني أمّي؟ لا، لقد كشف عليّ الطبيب، ووصف لي أدوية مسكّنة ومرهمًا لأضعه على رجلي، إذًا، أنا لا أتظاهر. الطبيب أكّد أنّ هذا، حصل فعلًا، وأنّني وقعت!
ربّما كانت أمّي ستفرح لو أخبرتها بما حدث بعد أن وقعت، أنّني رغم ألمي وعدم قدرتي على المشي لم أترك أحدًا يساعدني أو يشفق عليّ. كان عليّ أن أحضر شنطتي من الصفّ لأغادر إلى المنزل. اقتربت منّي ريتا، زميلتي في الصفّ، واقترحت أن تحضر أغراضي هي، بينما أنتظر أنا أمام بوّابة المدرسة. لكنّني رفضت! أصرّت، لكنّني رفضت أيضًا. صعدت الدرج بنفسي، أحضرت شنطتي التي أذكر أنّها كانت ثقيلة جدًّا، مع ذلك، حملتها على ظهري، ونزلت الدرج مجدّدًا. كانت ريتا إلى جانبي طوال الوقت. شاهدتني، وأنا أنزل الدرج والدموع تنهمر على وجنتيّ من شدّة الألم، ولم تفهم لِمَا كنت أصرّ كلّ هذا الإصرار على ألّا تساعدني. وأنا أيضًا لم أفهم حقيقة إصراري هذا! لا أعرف كيف كانت تخرج كلّ هذه اللّاءات من فمي. من يقولها عنّي؟ لماذا أخاف إن ساعدتني؟ وما العيب في أن تساعدني أصلًا؟ لا أدري. كنت فقط أرفض، بينما أتمنّى لو أنّ باستطاعتي أن أقبل هذه المساعدة البسيطة! هل كانت أمّي ستفخر بي لو أنّني أخبرتها بكلّ هذا؟ بأنّني لم أظهر ضعفًا أمام الغرباء؟ بأنّني ذهبت إلى العمل صباح الاثنين نفسه الذي تركني فيه زوجي؟! لم أتغيّب! كلا، لم أتغيّب عن عملي. يمكنني أن أخبر أمّي بذلك لتكون فخورة. رغم انهياري الداخلي الكامل، لم أتغيّب يومًا واحدًا حتى عن عملي. هكذا فقط نرضي أمّي. لا حجج. لا حجج أبدًا. مرضى؟ وماذا في ذلك؟! نذهب، كلّ يوم، إلى المدرسة! هناك موجة برد أو موجة حرّ أو وضع أمني خطر؟ لا يهمّ. نحن، أنا وأختي، علينا أن نكون دومًا في المدرسة في السادسة صباحًا حتى تتمكّن أمي بدورها من الوصول باكرًا إلى المدرسة، حيث تعمل معلّمة للغة العربية. توصلنا أمّي بالتاكسي قبل أن تذهب إلى عملها. السيّدة خديجة، جارتنا، كانت تطلب منها أن تتركنا عندها وتذهب هي إلى عملها، وتؤكّد لها مرارًا أنّ الأمر لا يزعجها بتاتًا. كنّا ننظر إليها أنا وأختي نظرات توسّل لتقبل عرضها، لكنّها لم تكن تقبل يومًا. كانت دائمًا ترفض. بعد ذلك، عندما بكينا في إحدى المرّات وسألناها عن سبب رفضها دومًا بقاءنا في منزل «الخالة خديجة»، غضبت ومنعتنا حتى من النظر إلى السيّدة اللطيفة.
حسنًا، أنظر إلى المرتبة البرتقالية مجدّدًا. سحبتها صباح الاثنين من غرفة المكتبة إلى غرفة النوم المحاذية لها، وكانت ثقيلة. إخراجها من باب وإدخالها في آخر كان مضنيًا! رميتها فقط على السرير كيفما اتّفق، فوقعت على جانبها البرتقالي مجدّدًا. نمت عليها هكذا، ثلاث ليال. وهذا حقيقة لا يساعد شخصًا في مثل وضعي الآن أبدًا، بل هذا ربّما أسوأ ما يمكن أن يحصل لي.
هذا أوّل خطأ ارتكبته، لا عجب في أنّ الكابوس ذاته عاد ليؤرقني، فأنا أنام وسط بقعة دماء كبيرة. أبدو أنّني نمت وسط بقعة دم صغيرة، ثمّ حرّكت رجليّ ويديّ إلى الخارج ثمّ إلى الداخل، مرّات عدّة، حتى صنعت لنفسي ملاكًا من الدماء على المرتبة، عوضًا عن ذلك الذي نرسمه بأجسادنا في الثلج. فأصبحت الآن أنام وسط بقعة دم كبيرة، وأسوأ ما في الأمر، أنّه دمي. تحرّكت فجأة بعصبية وأمسكت بجوّالي. كتبت بسرعة: «تعال واقلب المرتبة الآن!». كنت أستعدّ لإرسالها إلى بنيامين قبل أن أعود إلى رشدي. محوت الرسالة وفكّرت في أنّ لا داعي لاستحضار طباع والدتي الآن، خصوصًا أنّ تأثير عصبيتي في الآخرين ليس كتأثير عصبيتها. هي تدمّر الآخرين وأنا لا أدمّر سوى نفسي.
كنت قد بدأت أتعب من قصّة المرتبة هذه عندما خطرت لي فجأة فكرة ممتازة! لِمَ لا أطلب بكل بساطة من السيّدة ميرزاخاني أن تساعدني في قلبها؟ أجل، ستساعدني في قلبها ولن يعود الكابوس بعد ذلك! يمكنني أن أنام اليوم على الكنبة، وغدًا، عندما تأتي السيّدة ميرزاخاني في موعدها الأسبوعي لتنظيف المنزل، أطلب منها أن تساعدني في قلب المرتبة. يمكنني أن أفعل مثل هذا التنازل! قلب مرتبة برتقالية اللون ليس أسوأ ما اضطرّت إلى التعامل معه خلال سنوات عملها الطويلة في تنظيف المنازل! لا شيء أخفيه هنا. الأمر عادي جدًّا. لن أكذب، سأخبرها الحقيقة، فالموضوع بسيط ولا يحتمل تأويلات. لِمَ عليّ تعقيد الأمور؟ لن تظنّ أنّني قتلت شخصًا هنا! كنت في فترة الحيض، خسرت الكثير من الدماء، حتى لطّخت المرتبة، والآن عليّ قلبها. رائع!
أفّ! الآن، وقد حللت هذه المشكلة، ماذا أفعل بالفوضى المتبقّية في المنزل؟ أعد نفسي دومًا بأنّني سأعدّ برنامجًا لأنظّف المنزل وأرتّبه بناءً عليه، بشكل يومي. أعد نفسي بتقسيم العمل إلى خطوات صغيرة، وبأنّني لن أترك الأعمال المنزليّة تتكدّس وتتراكم، خصوصًا أنّ شقّتنا أنا وبنيامين صغيرة جدًّا لثنائي، بالمعايير البيروتية، وممتازة لعائلة من الطبقة الوسطى مع طفل أو اثنين، بمعايير مدينة كبيرة كطهران.
تخطّيت بعد فترة قصيرة موضوع صغر الشقّة هذا، الذي كنت كثيرًا ما أثيره بدايةً ولم يفهمه يومًا بنيامين. «تسعون مترًا مساحة أكثر من مناسبة لكلينا!»، كان يقول باستغراب. توقّفت عن الإلحاح بعد ذلك أو المجادلة أكثر في الموضوع، لأنّه لم يكن بوسعنا أن نشتري شقّة بأمتار أكثر، ولأنّني أيضًا، بعد أربع سنوات من العيش فيها، أصبحت أحبّ هذه الشقّة كثيرًا. السبب هو على الأرجح الواجهات الزجاجيّة التي تحيط بالصالون والمطبخ المتّصل به، وتمتدّ إلى غرفتي النوم اللتين حوّلنا إحداها إلى مكتبة ومكان للعمل بما أنّه ليس لدينا طفل ليشغلها. كيفما تنقّلت في المنزل، كنت أرى أشجار «التشينار» الكبيرة، المعمّرة والجبال فقط حولي. عندما تحرّرت من الهوس البيروتي بالشقق الكبيرة، أصبحت أرى أنّ لا شيء يبعث على الضيق أبدًا في هذا المكان.
يمكنني أن أنظّف الشقّة، كنت أقنع نفسي أحيانًا. لن يأخذ الموضوع الكثير من وقتي! لن أعيش في الفوضى بعد الآن! ودائمًا لا أفي. لن أفعل شيئًا إلّا قبل ساعات قليلة من مجيء السيّدة ميرزاخاني للتنظيف! تنظّف السيّدة ميرزاخاني منزلنا منذ ثلاث سنوات. الآن، أثق فيها إلى أبعد حدّ يمكنني أن أثق فيه في غريب يدخل منزلي. الاستثناءات التي حدّدتها لها عندما بدأت تنظيف منزلنا أثارت تعجّبها، مع ذلك، رضيت بالعمل والحضور لتنظيف منزلنا مرّة في الأسبوع. قواعدي ليست صعبة، لكنّني أخبرتها بوضوح، بأنّني لن أسامحها إذا كسرتها. باختصار، يمكنها فقط أن تنظّف ما تراه. شرحت لها في جلستنا الأولى سويًّا أنّه لا يمكنها أن تفتح أيًّا من الخزائن في المنزل. لا خزائن الثياب ولا حتى خزائن المطبخ. الأدراج أيضًا لا يمكنها فتحها لتنظيم أيّ شيء فيها أو إعادة ترتيبه. لا تحضّر لنا الطعام، كما تفعل في أغلب المنازل الأخرى، لا تغسل الصحون، ولا تكوي أو تهتمّ بالملابس بعد أن تنهي الغسّالة غسلها. استغربت هي بداية هذه القواعد، فمعظم الذين يطلبونها يريدونها أن تريحهم من الأعمال المنزلية كافّة، وهذه كانت استثناءات كثيرة بالنسبة إليها. نعاني الكثير من الفوضى المخبّأة خلف الخزائن نتيجة هذا القرار، لكن لا يمكنني أن أفعل غير ذلك. لا يمكنني التعايش مع فكرة أنّ أحدًا غيري أو غير بِني قد يلمس ما نأكل فيه أو ما نلبسه. لا يمكن أحدًا أن ينظر إلى حياتي داخل خزائني، حتى لو كانت تحوي فقط بعض أوعية البهارات أو الأواني. يمكنها فقط أن تلمس ما هو موجود أو مفتوح أمامها. تلمس ما هو معروض أمامها وأمام الجميع، تمسح الأرض والزجاج ولا شيء غير ذلك. تتراكم الأطباق في الحوض، فأغسلها بسرعة قبل ساعتين من زيارتها، حتى لا تعتقد أنّها تدخل ضمن «كلّ ما هو معروض أمامها». السيّدة ميرزاخاني تحبّ عملها كثيرًا، وأكثر ما تحبّه، هو أن ترى الأشياء نظيفة، برّاقة. ستُضطرّ أقلّه إلى مجادلتي لأدعها تغسلها قبل أن تنصرف. أكره أن أدخل في هذه المجادلة معها، وأكره أن أضطرّ إلى صرفها إذا ما لمست المحرّمات. أحترم السيّدة ميرزاخاني وحبّها لعملها، ولا أريد لأحد جديد أن يدخل المنزل. هكذا، تُغسل الأطباق، وتُنشر الملابس وتُعاد إلى الخزانة، ويُرتّب السرير، في الساعات واللحظات القليلة التي تسبق موعد مجيئها. طبعًا، لكان أسهل عليّ لو أنّه باستطاعتي أن أعطيها ثقتي الكاملة، لكنّني لا أستطيع. الموضوع أصعب ممّا يمكن أن أحتمل. ما زال لديّ اليوم بطوله لأعيشه في الفوضى قبل أن تأتي السيّدة ميرزاخاني صباح الغد.
5
يمكن لمستعمرة نمل أن تنتصر على دبّ! النمل معًا من أكفأ المفترسين، يقاتل الدبّ بشراسة ويحمي مستعمرته منه، فلا يترك خيارًا أمام الحيوان البنّي الكبير سوى الابتعاد هاربًا. هذا الأمر يبدو مفاجئًا إذا ما نظرنا إلى حجم الدبّ الضخم والنملة الصغيرة، لكنّه أيضًا المثال الأفضل عن القوّة الظاهرية للفرد وقوّته الداخلية.
في السادسة صباحًا، أضاءت شاشة هاتفي. رسالة واتساب من أناهيتا. أقرأ كلماتها الأولى التي تظهر في الشاشة ولا أفتح الرسالة. لا حيلة لي الآن لأتعامل مع الموضوع ولا أريدها أن تعلم أنّني قرأت رسالتها وتجاهلتها. يظهر من رسالتها: «آسفة لأنّني لم أجب...»، وتختفي البقيّة. هي الآن من يعتذر منّي إذًا. أبتلع نصف قرص من دوائي استعدادًا لبدء يوم جديد في بيروت.
منتصف الليل، أعود وأفتح رسالتها. ربما خلدت هي إلى النوم، ولن أُضطرّ إلى الردّ أو الانجرار إلى محادثة في هذا الوقت. كلّ ما أحتاج إليه الآن هو أن أُترك لشأني. كانت الرسالة طويلة نسبيًّا بالنسبة إلى رسالة واتساب. أقرأ: «آسفة لأننّي لم أجب، وتجاهلت اتّصالاتك الهاتفية طيلة الفترة الماضية. لكن، تعرفين كم كان الأمر صعبًا عليّ. أعرف أنّ الذنب ليس ذنبك، وأنّني استسهلت إلقاء اللوم عليكِ، لكنّني هلعت! اعتقدت أنّني لن أراه بعد ذلك اليوم في حياتي. شعرت بأنّ كلّ شيء يفلت من يدي. شعرت بأنّني جبانة، وأنّ عليّ أن أفعل شيئًا في تلك اللحظة، لأثبت لنفسي العكس، أو لأشعر بأنّني أسيطر على الأقلّ على شيء في حياتي. لا أدري، لِمَا اجتاحني ذلك الشعور بعد ذلك الاجتماع السيّئ الذي طلبه المدير، لكن لسبب ما، لم يعد باستطاعتي تخطّي الموضوع! أردت أن أنهي موضوع محسن في تلك اللحظة، وأنت ساعدتني! ساعدتني على التحرّر من فكرة عشقي لمحسن وتعلّقي به. أحبّ أن أفكّر في أنّني من نوع الأصدقاء الذي يمكنه أن يساعدك أيضًا. أنا عدت إلى العمل وأُخبِرْتُ أنّك في إجازة. إن كنت في طهران، لنلتقِ خارج دوام العمل. أرجوكِ فكّري في الموضوع». لقد استعادت أناهيتا عافيتها، وعادت إلى العمل إذًا. ألم أقل إنّها نملة!
مع ذلك، رسالتها جعلتني أفكّر. اعتذرت في الجزء الأوّل منها لأسباب مفهومة، وأنا سامحتها تمامًا قبل إرسالها هذه الرسالة. أنا فعليًّا، لم أغضب منها قطّ، حتى عندما صرخت في وجهي ذلك اليوم، عندما جمعنا المدير في قاعة الاجتماعات ليخبرنا بوجوب الاستغناء عن عدد من الموظّفين بسبب الأزمة المالية التي تمرّ بها المؤسّسة. لكن، ما لا أفهمه هو جملتها: «أحبّ أن أفكّر في أنّني من نوع الأصدقاء الذي يمكنه أن يساعدك أيضًا». ماذا تعني بذلك؟ لِمَ دسّت هذه الجملة هنا؟ أربكتني. زادت توتّري. هذا بداية يعني أنّها لاحظت شيئًا، رأت ذيل مشكلة. لكن، لا أدري ما إذا كانت رأت ذيل المشكلة، أم فهمت أشياء أعمق بكثير ممّا أظنّ. هل ظهرت أظافري فقط، أم قدماي كاملتين من تحت خيمتي؟ ألم تعد تغطّيني بالكامل؟ عملت عليها كثيرًا حتى لا تكشفني بهذا الشكل! يبدو أنّ لديّ عملًا كثيرًا لأقوم به، فالكثير من الأمور في حياتي تحتاج إلى إعادة تقييم. لكنّ أناهيتا رأتني أصرخ أيضًا! صرختُ في وجهها في الحمّام، نعتّها بالغبية، وطلبت منها أن تفكّر، وهي مع ذلك، لم تخف! لم تهرب! بل ها هي ترسل إليّ رسالة اعتذار، وتطلب رؤيتي حتى! هل يعني هذا أنّ لديّ صديقة حقيقية؟ صداقة أكبر من تلك الصداقات الافتراضية المحصورة في شاشة اللابتوب خاصّتي، أو أكثر من زمالة في العمل؟ هل تعتبرني أناهيتا فعلًا صديقة؟ لم أحظَ بصداقة حقيقية مُذ بلغت سنّ الرشد تقريبًا. تعرّفت إلى أشخاص كثر مرّوا في حياتي الجامعية، ومن بعدها في العمل، لكن لا يمكنني أن أقول إنّني وجدت بينهم صديقًا حقيقيًّا. في الثانوية، كان بإمكاني ربّما أن أخدع نفسي وأدّعي أنّ لديّ صديقة مقرّبة، أمّا اليوم فقد كبرت على هذا. عندما كنّا في السادسة عشرة، كان كلّ ما أردناه هو أن نمرح سويًّا ونشكو أهلنا وهموم الدراسة لبعضنا بعضًا، لكن، ونحن في السادسة عشرة، من لا يظنّ أنّ أمّه «شريرة»؟ في الثلاثين، الصداقة هي في المشاركة. علينا أن نتشارك التجارب والقصص عن بعضنا بعضًا وعن حيواتنا. الدعوة إلى المقهى، يجب أن تتبعها دعوة إلى المنزل، ودعوتها لي إلى منزلها عليّ أن أقابلها بدعوة إلى منزلي، وإلّا تنكسر دائرة الصداقة. أنا لم أضع القوانين، لكن هكذا تسير الأمور وهذا بالتحديد ما لا أستطيع أن أقدّمه. إن كنت سأشارك أناهيتا أو أيّ شخص آخر قصصًا قديمة عن منزلي وحياتي، فسيكون عليّ أن أكذب، بل أن أخترع حياة كاملة ليست موجودة، وذلك حتى لا أصدمها، ومن أجل حمايتها. لا أحد يريد صديقة لديها كلّ هذه التعقيدات في حياتها. ستخاف وتبتعد، حتى لو التزمت بالنصّ الذي كتبته أمّي عن موت بانة، بما أنّ كلّ شيء آخر في القصّة مخيف وموحش أيضًا.
أمامي الآن فرصة صداقة حقيقية، لكن لا يمكنني أن أحقّقها. هذه من بين الأمور الأكثر إيلامًا التي ورثتها عن عائلتي. ماذا يمكنني أن أشاركها عن طفولتي؟ لنرَ. الشعور الأوّل الذي أحتفظ به من طفولتي هو الخوف. لا أعرف كم كان عمري حينذاك، لكن المرّة الأولى التي التقيت فيها، في مكان ما من عقلي، بليلى الصغيرة، كنت في غرفة نومنا أنا وبانة. كانت الغرفة مظلمة. لا أعرف ما إذا كان التيّار الكهربائي مقطوعًا وقتذاك، أم كنت أنا خائفة أن أترك سريري لأضيء الغرفة بسبب تعليمات أمّي الصارمة بعدم مغادرتنا سريرينا. هذا تفصيل لا أذكره، لكن لا يهمّ الآن، لأنّ كل ما يعود إلى ذهني اليوم هو ذلك الظلام الدامس الذي كان يطبق على أنفاسي ويأخذ أشكالًا مخيفة أمامي. كنت أبكي وأرتجف في السرير وأردّد هناك ثعبان كبير في الغرفة ولا أحد يسمعني، أم إنّها سمعت ولم تأتِ؟ لا أذكر ما إذا كنت رأيت في منامي ثعبانًا أم شكّلته بنفسي في العتمة، لكنّني أذكر جيّدًا شكل الثعبان. كان يشبه كوبرا عملاقة، صفراء، مرقّطة ببقع بنّية ولها عينان بنفسجيّتان مشعّتان. أذكر أنّني كنت أصدّق كثيرًا بوجود ذلك الثعبان في الغرفة الصغيرة المظلمة، وكم حاولت أن أجعله يختفي بإخفاء وجهي تحت اللحاف. بانة كانت ربّما مفضّلتها منذ ذلك الوقت، منذ قبل أن أذكر، لكن هذا لم ينقذها من هلوساتها وأشباحها هي أيضًا. ففي الليالي التي كنت أنام فيها أنا، كانت توقظني وهي تصرخ بسبب كلاب سوداء تلاحقها. لكن، لم يأتِ أحد ليساعدها هي الأخرى. لا أدري ما إذا كانت اختارت أن تقف في صفّ أمّي بعد ذلك، لأنّها كانت تذكر تلك الكلاب جيّدًا، أم لأنّها كانت قد نسيتها تمامًا. لكنّني أذكر! هذه أوّل ذكرى على الإطلاق أحتفظ بها من طفولتي. واقعًا كانت تلك الليلة أم خيالًا، لا يهمّ، لأنّ هذه الذكرى التي لا تفارق رأسي، هي أبلغ وصف لحياتي السابقة. منزلي وحياتي مع أمّي، كانا بالنسبة إليّ تلك الغرفة: مظلمة، مليئة بالثعابين والكلاب، ومهما صرخت وتوسّلت، فلن يفتح الباب أحد ليطمئنك إلى أنّه مجرّد حلم. لا ضوء خفيفًا حتى يتسلّل من تحت الباب. وهذه قاعدة في بيت فاطمة! عندما تشير عقارب الساعة إلى السابعة مساء، لا ضوء يشعّ في بيتها بعد ذلك، مهما حدث.
إن كنت أريد أن أكون صادقة مع أناهيتا، لأخبرتها عن تلك الغرفة وتلك الليلة، ولكنت أخبرتها أيضًا بأنّ ما كان في تلك الغرفة بقي فيها طوال فترة عيشي هناك، ولا يزال يعيش داخلي حتى هذه اللحظة. لكنّني لن أصفها لها. ليس لأنّني لا أثق في أنّها ستحتمل الموضوع، فقد اعترفت أنّها نملة! لكنّني مرّة واحدة، أريد أن أعتقد أنّني صديقة جيّدة ربّما، أحمي صديقتي عوض أن أهتمّ بإخبارها الحقيقة. أحميها من هذه الأفكار ومن العالم الذي يولّدها. لا أريد أن أصطحبها إلى تلك الغرفة، هي ببساطة لا تستحقّ ذلك. لكن في المقابل، يمكنني ربّما التفكير في تحقيق صداقة على مقاسي. فإن كنت أريد أن أتعلّم المشاركة، يمكن أن أخبرها بأنّ زوجي تركني. وما الضير في ذلك؟ لست المرأة الأولى أو الأخيرة التي يهجرها زوجها، أليس كذلك؟! يمكن حتى البوح أن يريحني قليلًا، أليس هذا ما يقال؟ أنا لم أجرّب تشاطر الأحمال والأثقال من قبل قطّ. سألتني أناهيتا قبلًا كثيرًا وبطرائق مختلفة عن زوجي وحياتي معه، محاولة أن تعرف شيئًا أكثر خصوصية عن حياتنا. أعرف أنّ ذلك لم يكن بدافع الحشريّة بقدر ما كان بدافع بناء علاقة أو صلة ما بيننا، لكنّني لم أكن أدعها تظفر بأيّ شيء ذي قيمة. بل كنت أكتفي كالعادة بالعموميات، والانتقال بخفّة من موضوع إلى آخر. هذا أمر أتقن فعله جيّدًا؛ إذ نحن، لا نبصق دماءنا أمام الناس. هكذا علّمتنا فاطمة دائمًا. نبتلعه. دائمًا ما نبتلعه، وابتلاعه يخلّف ابتسامة توحي بقرف بسيط وامتعاض في بعض الأحيان على وجهي. لا أحد يكتشف فعليًّا ما خلف هذه الابتسامة، لكنّه في المقابل، يسهل على الجميع فهم أنّها حاجز. حاجز منيع لن يصلوا بعده إلى شيء. وهذا يكفيني لوقف سيل الأسئلة في مرحلة ما من محادثتنا. لكنّني أشعر الآن بأنّني أريد أن أتحرّر قليلًا. إن حدّثتها عن بنيامين، فلن يقود ذلك إلى كشف المزيد من الأسرار. لا بأس بقليل من الضوء. قال طبيبي النفسي أنّ بإمكاني أن أترك سريري الآن. أنا أعيش في منزلي، حيث أضع قواعدي الخاصّة. أترك السرير متى شئت، أضيء النور أم أطفئه على كيفي. لِمَ لا أدع قليلًا منه إذًا يتسلّل من تحت الباب؟ ولكن، بِمَ أخبرها عندما تسألني عن الأسباب التي دفعته إلى هجري؟ أكذب مجدّدًا. إنّها الدماء في فمي مجدّدًا.
يصل بنيامين إلى مطار بيروت في الخامسة من بعد ظهر اليوم الأحد. لا يريدني أن أستقبله في المطار، ويقول إنّه لا يحتاج إليّ أبدًا للتنقّل في المدينة رغم أنّها زيارته الأولى لبيروت. لا أجادل. أرسلت إليه رسالة فقط أعلمه فيها باسم الأوتيل الذي أنزِل فيه، لكنّني لم أسأله أين يخطّط أن يقيم، أو كم من الوقت سيبقى في بيروت.
هذه المرّة يتّصل. يبقي على صوته الجدّي، وبعد سلام سريع، يسأل:
– ماذا حصل؟ كيف هي والدتك؟
جدّيته توتّرني، أشعر بأنّني أكلّمه أوّل مرّة.
– اممم، هي مريضة جدًّا. لكن لا تقلق، ليس هناك خطر على حياتها أو أيّ شيء من هذا القبيل. لكنّي أُخبِرْتُ في المستشفى بأنّها بحاجة إلى عائلتها في هذا الوقت.
– حسنًا، أنا لا أعرف ما يمكن أن أفعله. أعني أنّنا لم نتقابل أنا وهي من قبل قطّ، لذا لا أدري ما إذا كانت تعتبرني من عائلتها.
– يمكن أن أشرح لك الأمور أكثر إن تقابلنا وتحدّثنا قليلًا.
– حسنًا. طبعًا. أنا في الأوتيل نفسه الذي تنزلين فيه. في الغرفة 503. يمكن أن نتقابل غدًا وقت الغداء إن أردتِ.
هو في الأوتيل نفسه إذًا! لكن الوقت ليس مناسبًا لأمتدح نفسي بعد. أعرف بنيامين، إذا لم أقدّم له شرحًا كاملًا ومقنعًا عن موضوع الخلاف بيننا، فإنّه لن يتقدّم خطوة واحدة لحلّ الأمور بيننا. كما أعرف أنّه لا يحبّ البحث عن أوتيلات. عندما كنّا نسافر سويًّا، كنت أنا من يهتمّ بهذه الأمور، هو فقط يحضّر حقيبة يد صغيرة فيها لوازمه الأساسية، وهذا كلّ ما يحتاج إليه في سفره. بينما أنا أهتمّ بحجز الأوتيل وإعداد لائحة الأماكن التي سنزورها، والبحث عن أسهل طرق المواصلات في البلد الذي نقصده. لو لم أخبره باسم الأوتيل الذي أنزل فيه، لكان طلب من سائق التاكسي أن يأخذه إلى أيّ أوتيل نظيف يقدّم وجبات جيّدة. لكنّني ما زلت سعيدة بأنّه في قلّة حيلته هذه، اختار اقتراحي على أن يسأل سائق التاكسي. لقد حضر من أجل أمّي، لكنّه أيضًا لا يزال ينتظر توضيحًا منّي. عليه أن يسمع توضيحًا منّي، وهذا حقّه. أنا التي ما زلت تتهرّب من لحظة الحقيقة. الموضوع شخصي جدًّا ومخجل بعض الشيء بالنسبة إليّ. كنت أتمنّى ألّا أضطر أبدًا إلى شرحه لأيّ شخص، وها أنا اليوم مضطرّة إلى أن أجد طريقة أشرح بها موضوع شيرو لبنيامين، أكثر شخص أحبّه ويهمّني أمره. الموضوع صعب جدًّا عليّ، لكنّني في الوقت ذاته، لا أريده أن يفرّقني عن بنيامين. كلّ شيء معقّد جدًّا، وأمّي الآن تزيد الأمور تعقيدًا. هل أقنع بنيامين بأنّ أمّي مجنونة ثمّ أصطحبه لزيارتها، فلا يصدّق أيّ شيء تقوله؟ لكنّ فاطمة أذكى من هذا. ستفكّر في الاحتمالات كلّها، أعرفها. متى وضعت شخصًا نصب عينيها، دمّرته. أنا الآن هدفها. تريد تدميري من طريق بنيامين. كيف أهرب من مرمى نيرانها؟
أتناول هاتفي لأرسل رسالة إلى أناهيتا. لا بدّ أنّها تتساءل ما إذا كان تأخُّر جوابي تصميمًا منّي على الخصومة: «لا تقلقي أناهيتا أنا بخير. في بيروت. أنا وبنيامين لسنا في أبهى حالاتنا، لكنّنا نعمل على إصلاح الأمور بيننا».
يأتيني ردّها بسرعة: «آسفة لسماع ذلك. إن كنت تريدين أن تكلّمي أحدًا، فأرجو أن تعرفي أنّني موجودة من أجلك. سأفعل ما باستطاعتي لأساعدك».
«أعرف ذلك»، وأنهيت رسالتي بإيموجي قلب.
زينب مرعي — كاتبة لبنانية (مواليد بيروت، 1986)، درست اللغة الفرنسية وآدابها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، تكتب في الصحافة اللبنانية والصحافة العربية منذ العام 2005. هي منتجة الفيلم الوثائقي «طهران Unlimited».
«منزل عائم فوق النهر» هي روايتها الثانية بعد «الهاوية» (نوفل، 2016)، تصدر قريباً عن الدار نفسها.