رحلتها فرحة، وهي تعتبر نفسها في الدرجة الأولى، مواطنة كونيّة غالباً ما تستريح في "فيّات" المُخيّلة لتستخرج منها مشاهدَ وألواناً.
الكثير من الألوان الزاهية التي تحتفي بحياة لم نعد نعرف إذا كنّا في الواقع نستحقّها. أو نعيشها. ولكن يبدو أنّ الفنّانة التشكيليّة هدى بعلبكي تمكّنت من أن تُحوّل الحزن والألم وعناصر "تراجيديّة" أخرى نعيشها منذ سنوات، لوحات تقتحمنا بإشراقتها وتعصّبها للفرح. ونحن نطرق بابها على أمل الاختباء في ثنيات النور الذي ينبثق منها.
فنجان قهوة ودردشة في غاليري "Art On 56th" الأنيق القائم في الجمّيزة وسط عشرات اللوحات المُتعدّدة الحجم والغنيّة بالألوان. تستخدمها الفنانة التي رافقها الخجل منذ الطفولة لتتأمل ذاتها. والمشاهد المزروعة على الكانفا مُتجذّرة بين تقاطع الذاكرة والخيال.
والفرح قادم لا محال. ربما هو عالق بين طوابير الخيبات المتروسة في كلّ الشوارع.
قد يجلب معه السعادة "بطريقو".
"بس ما تقول فول تيصير بالمكيول".
عملت 20 عاماً مع غاليري أوديل مظلوم قبل أن تتقاعد القيّمة على المعارض الذائعة الصيت. وحان الوقت، إذاً، لتتقدّم هذه الفنّانة التي تسند نفسها على عالمها الداخليّ المُزخرف بجماليّات الفَرح، وتُكمل رحلتها الفنيّة التي قامت بتدجين الأيام من خلالها، وتنتقل إلى مرحلة جديدة.
وفي معرضها المُنفرد الأوّل في غاليري Art On 56th ، "رحلة مواطن كونيّ"، أرادت استكشاف السعادة في وقت نعيش فيه القلق والخوف وعدم الاستقرار باستسلام مُقلق.
وكأنّنا "رضينا بواقعنا".
ألوانها التي تدعو ومضات الفرح الهاربة وحديقة السعادة التي تُراوغنا، هي التعبير الأقسى عن المرونة والمُثابرة. القليل من التفاؤل إذا سمحتم.
لم تخرج إلى الساحة الفنيّة منذ أكثر من 6 سنوات. ولكنّها لم تتوقّف يوماً عن الخلق. ظروف الحياة بقسوتها أجبرتها على الانكفاء عن حلبة المواجهة الفنيّة.
نفتح الشبابيك في الفُسحة البيروتيّة المديدة والحميميّة في الوقت عينه لـ"يُنسّم علينا الهوا". وفي خلفيّة هذا المشهد البيروتيّ المُلحّن بأنغام الأمل، تصدح الموسيقى الهادئة.
داخل هذا الغاليري بشبابيكه التي تفضي على المدينة المصدومة، وسقفه العالي الذي يغمز إلى المنازل البيروتيّة العتيقة المحفوفة بالذكريات، نحن بأمان. فهيا بنا نتعامل مع هذا الجنون "يالّلي مخيّم" في الخارج وكأنّه نزوة عابرة لن تتمكّن من الإطاحة بروحنا.
اختارت هذا العنوان الذي يغمز إلى الروحانيّة، "لأنّني بالفعل أعتبر نفسي مواطنة كونيّة لناحية نفسيّة وثقافيّة تخصّني. وهذه السنوات الـ 6 كانت أشبه بالرحلة. لم أبتعد كليّاً عن الساحة الفنيّة وانهمكت بالتحضير". التحضير للأعمال التي تستدعي الفرح ولحظات السعادة العابرة لزيارتنا في بيتنا الذي لن نهجره وإن كانت جدرانه مُتصدّعة.
الوباء القاتل؟ دخل بدوره في الرحلة الداخليّة الطويلة التي قامت بها لتقترب أكثر فأكثر من نفسها.
السرياليّة التي يعيشها البلد؟ من المُستحيل ألّا تكون قد تأثرت بهزّاتها الارتداديّة. وذاك الطوفان الذي دمّر أمّة بكاملها انتقل طيفه مهرجانات من الألوان إلى الأعمال التي قد يسرّنا أن نعرف بأنّ البعض منها ترك الذاكرة هُنيهات، ليعكس جمال قرية العديسة الجنوبيّة التي طبعت بساطتها في مُخيلة الفنانة. أضف إليه المناظر الطبيعيّة المُتخيّلة التي صوّرتها بعلبكي وكأنّها في الواقع تقطن فيها.
وكلّ الذي يحدث في الخارج ترك بصماته على اللوحات، فإذا بالفيروس المغرور ينصهر بالمشاهد الطبيعيّة التي تستحضر الجلسات العائليّة "المكنكنة" والنُزهات الطويلة بين "سُكّان" الطبيعة المُخمليّة. وفي وقت خاف كُثر من وباء العصر، قرّرت هدى بعلبكي أن ترصده، وتتآخى معه لتفهم مُفرداته.
لم يفهم مُحيطها كيف تمكّنت من تصوير الوباء بجماليّة لا تعكس الضرر الذي تسبّب به. ومن هذا المُنطلق، لن نقف في المعرض الحاليّ، وجهاً لوجه مع أعمال لها علاقة مُباشرة بالوباء، على الرغم من أنّ الفنّانة عالجتها في العديد من أعمالها، "هلّق مش وقت نرجع لورا. للقلق يالّلي عشناه". ومع ذلك، هذا لا يمنع أنّها أمضت فترة زمنيّة لا يُستهان بها، وهي تُحاول أن تفهمه، وأن تفكّ لغزه. والوحدة الجماعيّة التي عشناها خلال الأشهر الطويلة الماضية، انعكست على كلّ ما نقوم به، بحسب بعلبكي التي تعشق منزلها العائليّ وتعمل فيه، على اعتبار أنّ جدرانه وزواياه خزّنت ذكريات العائلة وقصصها الصغيرة. وهي الملاذ الآمن الذي يحضن خجلها، ويحمي فرحها. كما أنّها تحتاج إلى عجقة الشوارع المُجاورة لتتمكّن من الغوص في فرح مُخيّلتها.
تنضمّ إلينا صاحبة الغاليري نهى وادي محرّم. "كملت الجلسة". أحاديث جانبيّة، ضحكات غير مكبوحة تُعبّر عن السعادة بلقاء الأصدقاء مجدّداً. "أردنا أن يُجسّد المعرض الفرح وأن يغمز إلى الشفاء من كلّ الذي تعرّضنا له في السنوات القليلة الماضية. ولهذا السبب ابتعدنا عن عرض اللوحات التي تُجسّد الكورونا بشكل مُباشر".
العزلة دفعت الفنّانة إلى حفر طُرقات داخليّة توصلها إلى الخيال والذات.
هدى بعلبكي لا تستطيع أن تتعامل في أعمالها، مع الحزن. لا مكانة له في مُفرداتها الفنيّة. في هذا المعرض المُفعم بالأمل، نجد أيضاً سلسلة من اللوحات الصغيرة التي تُجسّد الوجوه. عشرات الوجوه عن الأشخاص الذين صادفتهم الفنانة التي تحتاج إلى إلفة منزلها وضجيج الشوارع لتتحاور مع ذاتها. وهي ترى أنّ الناس الذين نلتقيهم في الطريق يحفرون قصصهم في داخلنا من خلال وجوههم. الفنّ الـ Naif أسرها. هذا الفنّ "غير المُتفلسف" الذي يستحضر الفرح والاحتفال بالتفاصيل العاديّة. وهو يدمغ حضوره على لوحاتها التي تليق بكلّ من يعشق الحياة، و"آخدها على قد عقلاتها".
تسحرها الكانفا – اللوحات القماشيّة الكبيرة الحجم على اعتبار أنّها تستطيع أن تحوي التفاصيل التي تنقلها من مُخيّلتها وذاكرتها براحة مُطلقة. "أحياناً قد تتطلّب منّي اللوحة الصغيرة سنة كاملة من العمل المُتقطّع لأنجزها. كما هي مسألة طبيعيّة أن أنهي لوحة كبيرة خلال أسبوعين. الوقت مسألة نسبيّة". اهتماماتها مُتعدّدة. والجلوس لفترة طويلة بلا هدف لا يستهويها. ويبقى الرسم العلاج الوحيد الذي تحتاج إليه لتتخطّى هذه العبثيّة التي نعيشها.
وزائر غاليري Art On 56th سيفهم أنّ السعادة بسيطة، لا تتطلّب الكثير من "الفزلكة" والتعقيدات لنحصل عليها.
جلّ ما نحتاج إليه هو أعمال جميلة بسكونها وألوانها، تمزج ما بين الخيال والذكريات، نقف أمامها، نفتح الباب وندخلها لنمشي الهوينى بين ضفاف ألوانها.
قد نُصادف في إحدى اللوحات فنّانة تمكّنت مع الأيام أن تتخطّى خجلها، تجلس بمفردها وسط الحقول، تستمع إلى عشرات الأنماط الموسيقيّة عبر "يوتيوب"، تقرأ الكُتب التي تصلنا إلى حالات مُريحة من التصوّف. ما ان ترانا، حتّى تنسى أنّها تخطّت خجلها مع مرور الأيام، فإذا باللون الأحمر يُزيّن خدّيها. وما يُشبه الضحكة ترتسم على وجهها المُشعّ تماماُ كلوحاتها.