نيويورك؟ زارتها في العام 2019 لتدرس في دار "كريستيز" العريقة تاريخ الفن وصناعته، لكنها لم تغادر المدينة التي تُحوّل كل ما نصفه بالمُستحيل أرجوحة صغيرة يترنّح الحالم على طول ضفاف أنهارها.
تمكّنت تلك الخليلة التي غالباً ما نصفها بالمدينة التي لا تنام، من أن تغوي الفنانة الشابة ألكسندرا بيطار، فإذا بها تتعلّق بشراشيب ثوبها... والأسطورة ليزا مينيللي تُغني في خلفيّة هذا المشهد: "إذا تمكّنتُ من النجاح هنا، فسوف أنجح بكل تأكيد في أي مكان آخر".
وها هي الشابة تقدّم اليوم معرضها المُنفرد الأول في المدينة التي كان من المفترض أن تدرس فيها تاريخ الفن وصناعته، لتعود بعدها إلى البلد، فإذا بها تُحوّل شوارعها وجنونها الخلاق ملعب الإبداع الذي تلجأ إليه بحثاً عن الأمان... والألوان.
وتستقبل أعمالها التي تُزعج البعض أو تستفزّه، وتُحوّل البعض الآخر طفلاً صغيراً تقوده عواطفه، فسحة A WILD DOVE المتعددة الإستعمال، والتي تأخذ صفة POP UP، أي تظهر فجأة في مكان، لتختفي بعد فترة وتظهر مُجدداً في مكان آخر.
معرضها يحمل عنوان ABSTINENCE (الامتناع) وقد انطلق في عطلة نهاية الأسبوع، ولاقى، منذ ساعاته الأولى، كما تروي لنا ألكسندرا في حديث معها إلى نيويورك، "الكثير من النجاح".
وصحيح أن الفسحة التي اتخذت هذه المرة شارع ميرسير – رقم 27 – مقرّها الموقّت، بيد أنّ الكسندرا ستعرض عدداً من أعمالها فيها طوال شهر كامل.
وُلدت بيطار وترعرعت في بيروت، و"لطالما كان للفن دوره المحوري في حياتي. كل عائلتي لها علاقة بهذا العالم، بطريقة أو أخرى".
وكانت والدتها تُشجعها على السير في رواق الفن خلال الأسفار العديدة التي قامت بها العائلة، وهي صغيرة.
"كنا ننتقل من متحف إلى آخر. ووالدي امتهن التصوير وهو في سن الصبا".
وفي ALBA، درست الشابة التي تعشق نيويورك، تصميم كُتب الرسوم المُصوّرة.
والعائلة كانت تُشجّع هذه الرحلة التي بدأتها الكسندرا باكراً مع الفن، "لأن أبي وأمي علما منذ البداية بأنه الشيء الوحيد الذي يُسعدني". وتمت "رعاية" الإبداع والخلق في العائلة بشكل طبيعي.
أسلوبها الفني؟
مستوحى بكل تأكيد من المدرسة الألمانية التعبيريّة، "وأعمال السينمائي تيم بورتون. وفي الوقت عينه تتخلله لمسات من (الشيطنة). وقد يُقلق البعض ويجعلهم يترنحون بين رواق الخوف وأرجوحة الموت".
وألكسندرا تؤكد لنا أن كلّ ما تُجسّده اللوحات في المعرض الحالي له علاقة بالصراعات الداخليّة التي يعيشها "أبناء جيلي بشكل يومي وهم يُشاهدون انهيار البلد، ويعيشون القلق والخوف لاسيما على الذين لم يرحلوا. لم يُغادروا البلد".
هي المرة الأولى التي تُقدم فيها الكسندرا معرضاً مُنفرداً بعد مُشاركتها في العديد من المعارض الجماعيّة في بيروت وفي معرض MIAMI ART BASEL العريق.
"أعتبر نفسي محظوظة جداً لأنني تمكنت من مُشاطرة فني مع المدينة (نيويورك). أنا مُمتنة لكل الذين حضروا المعرض. وكنت سعيدة للغاية لأنني سلّطت الضوء على جيلي وما يعيشه من صراعات في لبناننا".
مُحيطها يُلهمها، "بشكل خاص، أغوص في حنايا الناس الذين يُشاطرونني يومياتي:
كيف يتعاملون مع المواقف الصعبة.
كيف يعبّرون عن ميولهم الجنسيّة.
كيف يُحافظون على توازنهم.
ما هي مخاوفهم؟
كيف يتحولون كائنات مختلفة خلال ساعات الليل.
كيف يدفنون شعورهم بالذنب.
وكيف يعالجون الصدمات المحتومة التي يتعرّضون لها".
طقوسها قبل البدء بالرسم، جميلة، شهيّة.
نُزهات طويلة في شوارع المدينة الجامحة، والاستماع إلى الجاز والبلوز، مشاهدة الرسوم المتحركة، وقراءة الكوميكس.
وبعد انغماسها بهذه الطقوس الساحرة، تعرف الشابة أن الوقت قد حان لترسم.
"أرى اللوحة مُكتملة في رأسي وبعد ذلك، أترك الحرية ليدي لتنقل ما برأسي على الكانفا".
ألكسندرا بيطار مشغولة بالقلق الذي يعيشه أبناء جيلها. فهي تعرف جيداً المعنى الحقيق للقلق، وعدم الإستقرار بفعل نشأتها في العاصمة بيروت التي لا تستطيع أن تبتعد عنها لفترة طويلة، وتزورها باستمرار.
وهي تتوسل بالأكريليك والحبر لتُنجز شخصياتها التي يصعب علينا معرفة ما إذا كانت أنثى أم ذكر، ولكنها بكل تأكيد تصوّر أشكالاً كاريكاتوريّة تعكس محيطها بشكل مُبالغ فيه.
بعض سرّياليّة، و"طراطيش" من هلوسات العقل الباطني.
والعنوان يغمز إلى كل الذين يكظمون أحاسيسهم، خوفاً من أن يشعروا بأي شيء أبعد من "الخدر".
وهي تعتبر الفن العلاج النفسي الأكثر فاعليّة لتتخطى انهيار لبناننا وذلك الانفجار الذي كانت الشاهدة على سرّياليته.
"البعض لا يرتاح لأعمالي. ولكن ثمة من يشعر بصلة عميقة مع رسالته. ربما لأنهم يلمسون القلق الذي يُسيّج اللوحات، فإذا بهم يُدركون بأن هذا الشعور ليس حكراً عليهم. ثمة من يُشاطرهم هواجسهم وأحلامهم المخطوفة".
"لا يمكنني أن انظر إلى لوحاتي وأشرّحها بطريقة خالية من العواطف. (في كتير عم بتصير بكل لوحة). تتضمن الأعمال العديد من العناصر التي تحتاج إلى الكثير من التركيز لنفهمها".
وألكسندرا تعشق نيويورك وقدرتها على جمع العديد من الخلفيات والحضارات في فسحة مديدة واحدة.
و"هذا الشعور بأنها تقدم الفرصة للنجاح... وبكل تأكيد أعشق الأكل فيها!".
وها هي الأسطورة "الأوريجينال" ليزا مينيللي تغني في خلفيّة هذا المشهد: "هيا، إبدأوا بنشر الخبريّة. أنا راحلة اليوم. أريد أن أكون جزءاً منها: جزءاً من نيويورك...
.نيويورك".
[email protected]