يوسف طراد
هل نحن أمام مسافات تُقاس بالمشاعر، وتُعتمد اللهفة وحدة قياس لها لتبيان بُعدِ القارئ أو قربه من طرفي مسافة فاصلة بين الأنا، ومجال الرؤية البعيدة؟
الكثير من الكتّاب قد كتبوا تحت عناوين جاذبة، وكان مضمون كتاباتهم مطابقًا لجمال العناوين، لكنّ "سمية تكجي" كتبت كتابًا بعنوان "بين أنا... وعيوني البعيدة"، وجعلت القارئ يقرأ قصصها بعينيها التي هي مرآة أنويتها. فكيف يمكنه أن يقطع تلك المسافة التي كلّما قطعها، وجد نفسه على عتبة جمالياتها، وكأنّه يقرأ بالمنام؟
ضمن نصوص الكتاب، موادّ لنقاش مختلف، بعيدًا عن التأويل، والغوص في معاني النصوص. لذلك يستنتج القارئ هدف النص استنتاجًا، ويشعر بمتعة القراءة، لأنّ الكاتبة قد أوصلت بشكل سلس وجميل فيه متعة تذوّق الحبر، أوصلت رسالة من كلّ قصّة كتبتها.
نشرت سمية تكجي الحرف بصدق، وقد زرعت الدهشة في اللغة، واستنبتت العفوية في السطور. وهذا يعني أنّها فازت بالوصول إلى فهم القارئ، من دون أن يتحتّم عليها الإطالة بالصياغة. ففي العالم الرقميّ الافتراضي الحاليّ، تنعدم الرغبة في قراءة القصص الطويلة جدًا، وقد اعتاد القارئ على النصوص القصيرة. فالأعمال السرديّة الطويلة، لها تقنيات لا تنطبق على السرديّات القصيرة والقصيرة جدًا. لذلك كانت قصص الكاتبة، تحمل في جيناتها الحمض النوويّ للقصص الطويلة بالرغم من قصرها، ربّما لتنافس أو تجاري قصص كتّاب كبار تمر على شاشات الهواتف، مع أن قصصها منشورة على الورق. فبالرغم من قصر قصصها، إذا أرادت أن تكتب روايات بعدد القصص القصيرة المنشورة في هذا الكتاب، فستكون هذه القصص نوىً لروايات جميلة طويلة، ويمكنها أن تتوسّع بالسرد بسبب غنى المضمون بالمعاني وثقافة الحياة.
كيف لطفلٍ كان يغفو بوداعة بجانب والده، ويشمّ المسك من عبق طهر يديه، وقد راقص معه أقواس قزح، وانتشيا رقةً وسعادةً بحفيف النسمات، أن لا يجد له مكانًا بجانبه، في صندوق لا يرتسم فوقه قوس قزح؟: "أبي كان يحب قوس قزح، كنا نشاهده معًا، لماذا لا تلونوا الصندوق بألوانه؟ كان أبي المفاجأة... أبي داخل الصندوق" (صفحة 20).
ليس أشرف أو أجلّ ممَن يبني وينشئ أنفسًا وعقولًا؛ فكيف لتلميذة وقّعت وشم عشقها لمعلمتها على رياض روحها، أن تصاب بخيبة مريرة؟ لم تستقبلها المعلمّة بعد تقاعدها، وأصبحت باقة القرنفل التي تحملها بدون حياة: "رمت الباقة في الأرض وداست عليها بقوة وكأنها تدوس على حنجرتها المكتومة كي لا تصرخ بأعلى الصوت." (صفحة 23).
هل إذا كان مدّ الأيادي افتراضيًا، يعني التواصل الراقي، وهل تستمر الإلفة في حال لم يكن افتراضيًا؟
"- حسام لماذا أتيت؟
فردّ هادئًا مبتسمًا...: لكي أقتنع أكثر أنني فعلت الصواب حين غادرت.
ثم رفع يده من جيبه ومدّ يده نحوها ذهلت لما رأت...! كفه الأيمن مبتور" (صفحة 29).
أصابتها لوثة الانتظار، كما تنتظر غابة القصب غيمة رماديّة لتتجمّل بمطرها، لكنّ الانتظار يطول ويطول ويطول:
"جلست تنتظر سمعت صوت الخطى من بعيد، أصغت طويلًا، ما زال الصوت بعيدًا... وهي ما زالت تجلس على الكرسي الهزاز" (صفحة 59).
يصغي الهوى لأنشودة العشق، وهي كذلك تحاول بما حمله دمها في شرايينها، أن تبحث عن مزايا الرجولة في صوت عصفور:
"صوتك قيثارة
ازدحمت فيها العصافير
هل تسمع صوت العصفور
التائه في دمي" (صفحة 94).
هكذا نصوص هي حنطة لموائد الحاضر، تكسر جبروت ظلمة الحبر السارح على شاشات الجوّالات، فالكاتبة أفشت بسر الحروف المتكئة على الوعي. وبين كلمات قصصها استرقنا السمع إلى أسرار أبطال، وعواطف هادرة. فهي لم تتردد في توثيق الفرح والحزن والأنين. وقد جالت بين وهمٍ وآخر، وانتقلت إلى يقينٍ وجدته في الظلال المفقودة في ثنايا حواسّها الزاهدة. فكان البوح الجميل سطورًا بين القارئ وأنويتها... وعينيها البعيدتين.