يوسف طراد
حين يكون النّص حيًا، يمكنه أن يزرع اللهفة في عقل القارئ، فكيف إذا كانت النصوص متوالية مفعمة بالحبّ؟ فالمتعة الأدبيّة المرتكزة على عدّة فنون، والموجودة في نصوص ماري القصيّفي، كفيلة بإعادة إنتاج فعل القراءة في بيئة لا تقرأ.
خمسة وعشرون نصًا باللّغة الفصحة والعاميّة، تحت عنوان "أيّها المسيح كفّ عن إزعاجي" نشرتها ماري القصيّفي تسلسلًا على جداريّة صفحتها "الفايسبوكيّة" اعتبارًا من الأوّل من شهر كانون الأوّل 2022 لغاية الحادي والثلاثين منه ضمنًا. وهي نصوص قديمة، قد نشرت بعضها في عدّة دوريّات أهمها صحيفة النهار اللبنانيّة، ونصوص حديثة توّصف الواقع الحاضر الراهن. وقد واكبت جميع هذه النصوص أجواء الميلاد بكلّ الفرح والألم.
في خضم النّص الأوّل، تاهت عيون الليل ترقب الفجر السعيد، وبحث المسيح الرجل عن المسيح الطفل، ودموع الاشتياق للطفولة صبغت وجه الكون بلمعة الحياة بعد الموت. ومن لا يحمله الحنين إلى طفولته؟
ومن خلال النصّ الثاني، أعادتنا القصيّفيّة إلى الجنون الفطريّ في اشتهاء العودة إلى حضن الجدّ. وفي النصّ الثالث وضعتنا في أجواء فرح مصطنع وحذّرتنا من نسيان معاني المغارة والمذود، في حضور "بابا نويل" الطاغي على المناسبة الجلل. أمّا في النصّ الرابع فقد عرضت لنا التنافس بين الناس على أجمل شجرة، وقارنت على سبيل المثال طابة واحدة علّقت على غصن بمونة أسبوع من الخبز: "الطابة الواحدة أيّا يكن لونها أغلى من ثمن الخبز طيلة الأسبوع".
"الفقير في العيد" عنوان للنص الخامس، هذا الفقير حضر افتراضيًا ليوم واحد فقط من أيام السنة، وغاب قسريًا لبقية الأيام: "لا تجعلوه موضوعًا لبرامجكم ومقالاتكم في مناسبة الأعياد ثم تتركونه على الرفّ في خزانة الضمير..."، فإلى متى سيبقى الفقراء مادة دسمة لسبق صحفيّ؟
و"تكلّم يوسف زوج مريم" في النصّ السّادس، وهل كان الدافع لكلامه حبّه الصّادق لامرأته؟ ومن خلال هذا الحبّ ودّ من كلّ قلبه تصديق رواية مريم عن بشارة الملاك، لولا الصّعوبة الكليّة في ذلك: "لماذا طلبت مني أن أسهر عليها وعليه كزوج وأب من دون حقوق الزوج أو سلطة الأب؟". وقد حضرت من ضمن مواد هذا النصّ رتبة الغسل، بمفهوميّ الحبّ والتضحية: "أنا أنظر إليها وهي تغسل ملابسي، وهي تنظر إلى ابنها وهو يغسل أرجل تلاميذه".
ظهرت هوّة تباين الحاجة إلى الطاقة بين مغارة بيت لحم، وقمّة "كوبنهاغن" للمناخ في نصٍّ سابع: "وأدفأت الحيوانات الطفل الإلهي الّذي وضع على القش الدافئ فلم تكن ثمّة حاجة إلى تدفئة مركزيّة تسبّب إهدارًا في الطاقة". وكيف لمقررات قمّة أن تنفّذ، وما زال تصريح الناطق الرسمي باسم الولايات المتّحدة الأميركيّة في حينه والتي كانت من دول الارتكاز في المؤتمر: "إنّ مقررات قمّة كوبنهاغن غير ملزمة" ما زال يطنّ في آذاننا؟.
الملاك الحارس حاضر دومًا وأبدًا، لكن أن يحضر يومًا واحدًا وبالقرعة، فهل هذا أمر غريب؟ كلّا ليس بغريب، فقد وصفت الكاتبة خلال النصّ الثامن "صيحات الاستهجان" خلال القرعة التي تحدد الأشخاص لتبادل الهدايا بين الموظّفين: "ماذا أختار لهذة المرأة من دون أن تظنّ أنّني معجب بها؟!"، فشتّان بين ملاك حارس أصلي وآخر مزوّر!. والنصّ التاسع الّذي ورد تحت عنوان "حلّوا عن المسيح..." قد حمل نصائح كثيرة للمؤمنين والملحدين على السواء: "المسيح كان محاط بالنسوان، بس لازم يعني يكون "نسونجي"؟".
هل تعلم ماري القصيّفي أنّ وسائدنا خالية؟ ومن استيقظ منّا ووجد آثار همسات الطفل الإلهي فوق وسادته؟ فالسرير يتّسع للحبّ وللجفاء، وراحة الجسد وغياب غذاء الروح، كما يتّسع السرير الذي ذكرته الكاتبة في النص العاشر لدفء غريب: "الحيوانات التي أدفأتك؟ أدفأت كلّ من اقترب منها أو جلس قربها ثم نام مستمتعًا بحرارة أجسامها ولهاث أنفاسها. ألا ترى اليوم كيف تحتلّ الكلاب والهررة أسرّة وثيرة، تتبادل الدفء مع أصحابها وصاحباتها؟".
أخذتنا الكاتبة في النصّ الحادي عشر إلى تداعيات مجزرة بيت لحم وتأثيرها على حياة المخلصّ: "ومع ذلك، تشغلني علاقة المسيح الإنسان، الذي اختار التجسّد وقَبِل الموت، بهذه المجزرة التي أحسب أنّ ذكراها رافقته في مراحل حياته كلّها.
كأنّي به يعتذر كلّ مرّة شفى فيها مريضًا، وطرد روحًا شريرًا، وبعث الحياة في ميت..."
من قال أن الظلم لا يميت الحياء في بني البشر، ولا يسقط المجتمع الإنسانيّ مدماكًا مدماكًا؟ فكيف إذا كان الظالم سياسيًّا لبنانيًّا أو حاكمًا عربيًّا مستبدًا؟ أو هيرودسًا متقمصًا؟ ففي مرحلة أصبحت الكرة الأرضية قرية واحدة "عائلة المسيح، مثلنا، تهرب من الظلم" فخلال النصّ الثاني عشر عرضت الكاتبة وضع مسيحيي المشرق إجمالًا والأقباط خصوصًا: "اختار الربّ للعائلة المقدّسة التي تتكوّن من يسوع ابنه ومريم ويوسف أن تهرب إلى مصر حين تهدّدها الخطر في فلسطين. كانت مصر تحمي في ذلك الزمن، زمن الخلاص. اليوم يهرب المسيحيّون من مصر، أو على الأقلّ يفكّرون في ذلك. يبدو الأمر مخيفًا حين نعرضه بهذه البساطة"، جاء كلامها هذا عقب ثورة يناير 2011 في مصر.
"(كهنوت النساء)، تقبل الكنيسة أن تصدّق أنّ ابن الله الذي حملته امرأة، وغذّته من لحمها ودمها صار ابن الإنسان وصيّرها أمّ الله. ولا تقبل أن تصدّق أنّ الخبز الذي تحمله امراة، يمكن أن يصير لحم ابن الإنسان، وأنّ الخمرة التي ترفعها يداها ستتحوّل دمه"، هذا الكلام هو مطلع النص رقم 13 الوارد تحت عنوان "عاصفة أفكار ميلاديّة". هناك أسئلة وهل من جواب عليها يا ماري؟: خلال العشاء السريّ، لماذا عندما قال: "هذا هو جسدي الّذي يبذل عنكم، اِصنعوا هذا لذكري" (لو 22: 19)، لم تكن إحدى النساء موجودات؟ هل هنّ من أعددن الوليمة وخرجن من العليّة؟ أو أنّ أحد ما طلب منهنّ الخروج؟. فهل هنّ من تخلّين عن حقّهنّ بالكهنوت؟.
وعن "غمرة يسوع بزمن التباعد الاجتماعيّ" جعلتنا الكاتبة غمرة سنابل، خشعت نوراتها الذهبيّة لزمن الحصاد في وقت الميلاد. فقد ورد في النصّ الرابع عشر: "إيه كرمال غمرة صرت متلنا، ونحنا اليوم عم نخاف من غمرة تحمل وباء...". وفي النصّ الخامس عشر الوارد تحت عنوان "رسالة عيد الميلاد لطفل فلسطيني إسمو محمد (مات ع باب مستشفى)"، جعلت الأثرياء ينجحون في حساباتهم الماليّة وخاصّة أصحاب المستشفيات، فهل مرّت عليهم معجزة ولادة طفل، حبلت به عذراء بلا دنس؟: "يا محمد إنت هلأ صرت كبير، لأنّو الموت بيكبّر عقل الإنسان، وبيصير يعرف ويفهم...".
"ما تنسو يا ولاد" عنوان النصّ السادس عشر، وهو عبارة عن قصيدة وجدانيّة من الواقع المعاش الذي غمره نسيان معاني الأعياد: "...ما تنسوا يا ولاد/ بعجقة العياد/ كيف بيكون العيد". هل ما يقوله، الّذين نصّبوا أنفسهم وكلاء لله على الأرض، هو حقيقة؟ فقد ورد تساؤل في النص السابع عشر الوارد تحت عنوان "يا يسوع! عيلتك مش عيلة طبيعية": "... ولكن بشرفك يا يسوع إنت مقتنع متل ما بيقولوا الخوارنة والراهبات إنك عشت ابن عيلة طبيعية، يعني متل أي حدا منا؟ ... لأنو هالشي بيعني إنو المرا وزوجها ما رح يمارسوا الحب، وإنو رح يكون عندن ولد وحيد جايي من السما...".
في كلّ يوم فرح يولد يسوع، ألم يقل: "لأنّه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20)، وبناءً عليه وتحت عنوان النصّ الثامن عشر "حين احتفلنا بعيد الميلاد قبل موعده" جعلتنا ماري القصيّفي، نعي أنّ الحياة الاجتماعيّة، توقظ في دخيلتنا مشاعر من التوهّج، لا نفقه لغاية الآن كيف نترجمها، أو نلوّنها بلون النور المنبعث من معاني الميلاد: "حين احتفلنا بعيد ميلاد شقيقي العائد من سفر، ولد المسيح! هللويا!!".
هل يا ماري، سيجد الأطفال أو الكبار، من سيخبرهم أنّ قصّة شجرة الميلاد، تعود إلى القرون الوسطى وتحديدًا في ألمانيا، وهي مبنيّة على عادة لدى العديد من القبائل الوثنيّة التي تعبد الإله "ثور" وهو إله الغابات والرعد، وكانت طقوس هذه القبائل تفرض الضحايا البشريّة -هذه الطقوس عام 727 للميلاد- قبل حضورالبابا "يونيفاسيوس"، وانقاذه أحد الأمراء من الذبح، كما أخبرتِ القارئ ب"فرح الميلاد بين مار نقولا وبابا نويل" في النص التاسع عشر: "يعني أنا ما بشوف ببانويل شغلة بتشوّه العيد، ع شرط نخبّر الولاد إنو المسيح هوي يللي باعتو، وإنو إسمو القدّيس نقولا،...".
ليس لأنّني ممرض مجاز، حركتِ يا ماري في داخلي مشاعر تلقائية لم يفرضها قَسَمٌ، لأنّها نابعة من الإنسانيّة. بل لأنّ نصّك رقم عشرين بعنوان "المرضى والفريق التمريضي ليلة الميلاد" أضاء على عمل الممرض الإنسانيّ الّذي أوجد البسمة في صراع المريض المرير مع المرض، من خلال العطاء الروحي بين الربّ والإنسان: "المريض مسيح ومن يعتني به قدّيس صامت."
النصّ الحادي والعشرين التي نشرته جريدة النهار بتاريخ 22 كانون الأوّل 2009 بعنوان "ما حدا يهديني جزمة كاوتشوك" ربط بين خوف طفلة من بئر، وحلمها بجذمة كاوتشوك، من خلال قصّة واقعيّة ترتكز على تقاليد بالية وإيمان مغلوط. وفي النص الثاني والعشرين الوارد تحت عنوان "أكل العيد". لم تعطِ القصيّفية تبريرًا للتبذير، تزامنًا مع جوع أطفال فقراء يفترشون أرصفة الشوارع. ففي بلدنا يحضر الطعام بسخاء في مناسبة الأعياد على موائد العائلات وفي المطاعم، وخلال الانتخابات يعمد المرشحون إلى شراء العقول عن طريق البطون: "وأحسب أنّ بولس الرسول نفسه سيوافقني الرأي في مسألة نشر صور الولائم والأشجار المزيّنة وعلب الهدايا ونحن نمرّ في هذه الوضاع".
النصّ الأطول بين النصوص بعنوان "أيّها المسيح كفّ عن إزعاجي" يحمل الرقم 23. كيف نرمم الخراب داخلنا، ونجبر الكسر الدفين، ونعيد شوق اللقاء المسلوب، ونسترجع الأمل المفقود، والوصال مفقود، وإن وُجد حياءً يضمحل وينزوي؟ فقد ورد في مطلع هذا المقال: "الجارات منطلقات إلى الكنيسة، ولا واحدة منهنّ تخاطب الثانية. فالمشكلات العالقة لا تترك مجالًا لكلمة صباح الخير أو لسؤال عن الصحّة. يمشين متباعدات في الجغرافيا وبسببها ومتحدّات في التاريخ الرازح تحت أعوام الخصام".
"مرآة جديدة للسنة الجديدة" عنوان آخر لمقال ما قبل الأخير، وضعتنا خلاله الكاتبة أمام حقيقة كلّ أحد منّا. فمهما احتفلنا بحلول رأس السنة الجديدة، فاحتفالاتنا تخفي خوفًا من الزمن المستعجل: "وحين رأت إلى وجهها في المرآة الجديدة اكتشفت امرأة أخرى لا تريد إلّا أن تكون مع نفسها."
النصّ الأخير بعنوان "بصبّحك بالخير يا عين"، امرأة تقدّم الحبوب في صباح أوّل يوم من كلّ سنة، هدية إلى "عين المياه المتفجّرة بسخاء في وسط الضيعة." كي يكون السخاء متبادلًا وليس من طرف واحد. فطيب العطاء استحم بالنور على عين الماء عند شقشقات الفجر، وعناق الأرواح الصادقة امتزج بالعطاء الصادق.
إنّها ليست المرّة الأولى التي تنشر فيها ماري القصيّفي مقالات متسلسلة على جداريتها "الفايسبوكيّة" قبل الأعياد، ففي وقت مضى، قد نشرت تسعة مقالات قبيّل عيد مار مارون تحت عنوان "تساعيّة مار مارون". وفي كلّ مرّة، تختار كمًّا هائلًا من ألم المجتمع، وتعرضه على القراء. فصعوبة التعاطي مع هذه المسائل المطروحة، هي حكر على الكتّاب الّذين يعتمدون نموذجيّة تفاصيل، من الجهاد الأدبي الديني، في الممارسة والنقد البنّاء. فإذا كانت قد حاولت سابقًا، انتشال الطائفة المارونيّة من الارتباك والتيه قبل "تساعيّة مار مارون" في كتاب "الموارنة مرّوا من هنا" وبعد التساعيّة، فهنا خلال هذه النصوص التي وردت تحت عنوان "أيّها المسيح كفّ عن ازعاجي"، قد سلّطت الضوء، على أهمية الطروحات المتنوّعة التي تناولتها المقالات، وكشفت تباعد النشاط السياسي الديني على أرض الواقع، وبيّنت ممارسات رجال الدين والسياسة المتشابهة، محاوِلة انتشال الوطن من هوّته السحيقة. هذه الممارسات هي التي جعلت مساءلات الشعب تتخبّط وتنحسر في حقل واحد تقريبًا، يحصد منه مالكيه قوتهم الأرضي الّذي يبعدهم عن القوت السماوي.
ماري القصيّفي لا تكفّي عن ازعاجنا!
إنّك مطالبة بنشر روايتك "بنات الأربعتعش" التي كنّا موعودين بها بمناسبة حلول مئوية لبنان الكبير.