يوسف طراد
على كلّ عتبة يستشهد حفيد "لمدلج"، وبين موت وآخر يتنفّس الوطن هواء الذّل، ويستجوب "فاتك المتصرّف" الشهداء، لكنّه لا يتمكّن من طمس النذر. وما يزال أحفاد مدلج منذورين على بوّابات الوطن.
لقد جعل الرحابنة في مسرحية "جبال الصوّان" استشهاد مدلج، فكرة مقاومة، تحيا بالموت وتموت بالخضوع أو الهرب. فكيف اختصروا تاريخ الوطن منذ نشأته، عندما كان مركزاً لهذا الكوكب في قلب قارة غوندوانا الكبرى، قبل زحف القارات، وبعده عند تشكيل لبنان على كتف البحر المتوسّط، إلى يومنا هذا؟
يقول الكتّاب الروس الّذين ينتمون إلى مدرسة الأدب الواقعي: "جميعنا خرجنا من معطف غوغول". فالمعروف أنّ رواية "المعطف" للكاتب الروسي "نيكولاي غوغول"، هي عتبة البوّابة الأولى التي انطلق منها الأدب الواقعيّ الروسيّ. فكما هامت روح بطل هذه الرواية في الشّوارع بعد موته، تسرق وتقتل كل شخص يرتدي معطفاً جديداً، هكذا أصبحت روح مدلج بطل مسرحية "جبال الصوّان"، ترفرف على بوّابات الوطن، لتحضن كلّ شهيد سقط في كلِّ زمان، وعلى كلِّ باب ذوداً عن الكرامة.
إنّ موت مدلج عمّد عتبة جبال الصّوان بالدم، وكرّسها هيكلاً لكلّ كاهن ومتديّن مقاوم جعل الوطنيّة عبادة، كما عمّدت وطهّرت النار أرض صيدون مدينة "بكر كنعان"، عندما داعب أحفاده ألسنتها، لحظة دخول إرتحششتا الثالث من بوّابتها، ولم يجد فيها إلّا الرماد، وأرواحاً مرتفعة مع المجد إلى السّماء.
كيف تكون بوّابة الوطن شكلاً آخر للمقاومة، وبُعداً مختلفاً لعشق الكيانيّة اللبنانيّة؟ فالمغارة كانت بوّابة وطن قرقماز الأمير، استشهد بداخلها، ولكنّ "فاتك" لم يستطع دخولها، لأن "ابن الصبحا" لم يكن قد وُلد بعد، وبعدما سيطر الدّخان على أجوائها، وغلّف عتبتها، وخطف أنفاس الأمير، انتقلت روحه المقاومة إلى نجله فخر الدين الثاني الكبير.
بإمكان كلِّ مقاوم أن يحمل "البوّابة داخله"، لأنه أصبح متأكداً أن لبنان قد تخطى موقعه الجغرافي، إلى روحانية أزلية، على غرار "أورشليم السماويّة". فقد حمل الأمير فخر الدين الثاني الكبير، بوّابة الوطن إلى مكان نفيه إلى اسطنبول، واستشهد فوق عتبتها، لتصبح جميع أرجاء المعمورة شاهدة على حبّ الأوطان، وتكون رمزية بوّابة العز أمثولة لكلّ خائنٍ.
كثيرة البوّابات القائمة على حدود الوطن التي نُقلت إلى داخله، كما نُقلت إلى خارجه، إلى اسطنبول عند استشهاد فخر لبنان الثاني، وإلى ساحة المرجة بدمشق عند استشهاد الكاهن يوسف الحايك، وكان أوّل شهيد لبناني تحلّق روحه في السماء نحو الخالق، لتخبره عن ظلم الاحتلال العثماني، في فترة تولّي جمال باشا السفّاح الحكم في جبل لبنان.
كانت حدود الوطن غير واضحة، عند استشهاد البطريرك جبرايل من بلدة حجولا حرقاً على إحدى بوّابات طرابلس، وقد حمل المحتل بوّابة الوطن ونقلها في حينه إلى عاصمة الشمال، وتوّحدت بالشهادة رغماً عنه مع كلّ بوّابات الوطن. والدليل أنّ ضريح البطريرك حجولا يهب الأشفية لكل من طلبه، وخاصة من أبناء الطائفة الإسلامية الكريمة التي اتّخذته مزاراً، واسمته "مقام الشيخ مسعود".
يمكن أن تكون البوّابة متحركة، ويمكن أن يحمل صاحب النذر روحه فيها، ليكون مستعداً لإيفاء هذا النذر الأبديّ. فكيف يمكنه أن يغادر البوّابة وهي نذره وقدره؟ فسيّارة التقدميّ الاوّل كانت بوّابة الوطن عند استشهاده، هو القائل: (ما أعرفه أنّي أحيا الأعراس، وأُوقد الحطب، وأعدّ نقاط الدم، وأمشي في جنازتي كلّ أسبوع... وحين لبسوا الأقنعة تداعت في سجلّاتي خرائب وطن رسم "هولاكو" قبر آخرته حين جاءه،... وقالوا سنحمل دمك إلى غيرك إن لم تتكلّم، قلت: وماذا أتكلّم! سأُذبح في صمتي وفي حديثي)، فهل كان يعلم أنّ موعد إيفاء النذر قد حان؟
كيف تكون عاصمة وطن هي بوّابته؟ ففي ذاك العيد، عيد الصليب، استشهد أمل الجمهورية في عاصمة الجمهورية، وأصبح شهيدها، وزال أملها؛ هو القائل: "نحن قدّيسو هذا الشرق وشياطينه" عندما كانت قلّة من المقاومين الشّرفاء، في خضم الصّراع من أجل وجودها، وتكريس لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه.
وتوالت البوّابات، واختلفت أمكنتها، وتغيّرت ظروفها. فأصبحت عصفاً، عندما سقط على عتبتها مفتي الجمهوريّة "الخالد"، هو الّذي فقأ الحصرم في عيني "فاتك" تلك المرحلة، حاملاً إليه شظايا انفجار قذائف مدافعه المنفجرة حول دار الإفتاء. كما سقط أهم أحفاد مدلج شهيد الجمهورية الثاني على عصف بوّابة أخرى، وحزنت إهدن عروس المصايف وحزن الوطن، هو الّذي رفض إذكاء نار الانقسام من أجل إلغاء شريحة من مقاتلي الوطن الشرفاء، وقد تولّى أحدهم من بعده هذه المهمّة، ورحل مؤقتاً ولم يمت على البوّابة وعاد مع فاتكٍ آخر، لأنّه ليس من أحفاد مدلج.
كان عصف الانفجارات، من أهم أبواب الوطن التي استشهد على اعتابها أحفاد مدلج. فعلى عتبة واحدة وبعصف كبير سقط حريريٌ وفليحان، وكوكبة من الشهداء. وعلى أعتاب عصف انفجارات مختلفة، واعتاب بوّابات متنوّعة سقط أيضاً أحفاد كثر لمدلج: اللوزيّ، وسْلِيم، وقصير، وشطح، ووسام، وحاوي، وبيار الابن، وعيد، وعيدو وفرنسوا وغيرهم... ومنهم من عمّد ثورة الأرز بحبر القسم، رافعاً صوته في ساحة كانت في الماضي بوّابة، سقط على عتبتها أحفاد مدلج في زمن الحرب العالميّة الأولى. وانطلق القسم كسهم أصاب "فاتك" بمقتل: "نقسم بالله العظيم/ مسلمين ومسيحيين...". لكن أهمّ شهيدين سقطا على عتبة عصف الانفجارات هما: "التقوى، والسلام".
واليوم السؤال يطرح نفسه، هل أنّ السجين الأسطوريّ حفيدٌ لمدلج؟ هو الّذي رفض مغادرة الوطن، وعبور بوّابته إلى أوطان خادعة، تتأرجح بين حقوق الناس، والحرّيّة العمياء، والانتماء المجهول، فجعله الظلم سجين عقد من الزمن. وأين هي بوّابته مكان نذره، هل هي بوّابة الوطن التي دمّرها أكبر انفجار غير نوويّ في التاريخ، واستشهد على عتبتها مئات الأحفاد لمدلج؟ وهل عليه أن يبنيها بإخلاصه ل"جبال الصّوان"، وهل هو الخارج من السّجن ك"غربة" العائدة من الغربة لتخلّص الشعب وتحرّر الأرض. إلى الآن لم يجرؤ "فاتك" على مواجهته، فأين "فاتك" هذا الوطن، ولماذا يرتدي ثياب الوطنيّة تمويهاً؟ فالرجاء من أسطورة السّجن التأكيد على الانتماء بالأقوال المقرونة بالأفعال، لأنّه إذا عاد "فاتك" بسطوته، لا مكان للفقراء والفلّاحين، فإلى أين سيلجأون، وعلى كلّ باب مغارة يقف ابن ل"الصبحا"؟
أيّها السجين الأسطوري، لماذا لم تغادر الوطن الّذي يقضي زمنه في الرحيل، على بوّابات الاستحقاقات، والشّرود في أزمنة تربط الثورات ببعضها، هل لانّك أحد أحفاد مدلج؟
يا حفيد مدلج، يا من سقط على بوّابات الوطن، يا شهداء جمول الّذين جابهوا العدو الصهيونيّ، ويا شهداء حرب تمّوز شهداء المقاومة الإسلاميّة الّذين حاربوا العدو بشراسة، واستغلّ اسيادكم عطر شهادتكم ليرحلوا بالوطن إلى مكان مجهول، ويا شهداء المقاومة المسيحيّة في بلّا وقنات وزحلة والأشرفية وعين الرمّانة وشكّا وكور... ويا من سقطوا في ساحات الثورة، النصر آتٍ و"غربة" عائدة بتصميم تحرير الأرض، فكلّ من حارب ابن وطنه طمعاً بمكسبٍ أرضيّ ليس من أحفاد مدلج فهو "شهوان لفاتك".
هل نستمر في أن نحلم الأحلام الباردة، أو ننتقل بالليل إلى أحلام اليقظة الناضجة؟ ومتى ستستشهد "غربة" وتحيا "جبال الصّوان"؟ ومن يحدد هذه المواقيت، القدر أم الإرادة أم المواقف الثابتة؟ لكّن الأكيد أنّ جميع أحفاد مدلج منذورون للبوّابة، فطوبى لمن تكن لديه العلامة.