"علاقتي بآلة الغيتار علاقة عمر مديد تعود إلى 40 عاماً"، قال أيمن جرجور الذي يؤدّي مجموعة واسعة من ريبرتوار الغيتار الرائعة، بدءاً من الموسيقى الإسبانية التقليديّة المذهلة وصولاً إلى ألحان متألقة من الموسيقى اللاتينية للآلة نفسها؛ من عصور الباروك والكلاسيكية إلى الموسيقى المعاصرة.
يتّسم جرجور بسمات فنيّة جعلته فعلياً في توأمة روحيّة مع آلة الغيتار، وفي تنوّع واحتراف ليس بجديد علينا. لكنّه برز مرّة أخرى في حفل موسيقي قدّمه في كنيسة جميع القديسين الإنجيليّة الأسقفية - مطرانية القدس في وسط بيروت.
تمايز الحفل بدعوة للتبرّع - لمن يرغب طبعاً - دعماً لمركز القديس لوقا الخاصّ بذوي الحاجات الخاصّة، والتابع للمطرانية - صاحبة الدعوة لهذا الحفل.
الريبرتوار كان عابراً للقارات مطعّماً بعزف "سولو" لأسماء علم عدة، منها أنطونيو لاورو باعتباره أحد أبرز عازفي الغيتار ومؤلّفي الموسيقي في أميركا الجنوبية في القرن العشرين، لا سيّما رائعته "ناتاليا"، التي شكّلت إبحاراً أرادها المؤلّف الكبير لاورو كمدخل أساسي للتناغم الغنيّ والرومانسيّ والمميّز في هذه القطعة الموسيقيّة.
نجد شيئاً من ذاتنا هنا مع حكاية وتر الغيتار في محيط ضوء على المذبح يعكس باللون الأحمر خشوع عاشق للموسيقى، للغيتار "ضيف الشرف" في هذا الحفل، الذي تفاعل فيه الجمهور مع صوت الغيتار بانخطاف واضح عن واقعنا المأسوي.
الريبرتوار كان متنوعاً. اختار جرجور عزف مقطوعة موسيقية للعازف الإسباني إنريكي غرنادوس هي "أورينتال"، تدور في خانة التفكير الإنساني الصامت جراء مأساة عاشها وعائلته من الولايات المتحدة إلى إسبانيا حين فشلت محاولاته لإنقاذ زوجته من الغرق في البحر.
الموسيقى نقلت في عزف جرجور على الآلة هذا الشعور بنوتات بطيئة وحزينة ومتوترة، فطغى فيها أحياناً ذلك الوتر، الذي يحكي الفاجعة كأنّها بنت اليوم، وكأنّنا نستمع إلى غرق أحبائنا وأولادنا في مراكب الموت التي باتت تأشيرة الخروج لبعض اللبنانيين من حجيم بيروت.
جرجور، الذي التقيناه على هامش الحفل، سوري الجنسية، يحترف مهنة العزف على الغيتار، وهي مورد رزقه حتى لو اضطر مرات عدّة إلى أن يقدّم حفلاً دعماً لقضايا عدّة؛ وهذا ما بدأه منذ 20 عاماً، ومنها على سبيل المثال لا القطع الأمسيات المقامة لصالح متضرّري المجاعة في أفريقيا، ولفاقدي النظر. ولسواهم من الحالات،مع شغف كبير يبرز في حصص تعليم من بعد للموسيقى لطلابه في بريطانيا وغيرها من البلدان...، فضلاً عن مشاركته في جولات دولية للعزف في بلاد العالم، إضافة الى مشاركته في ورش عمل تدريبيّة في كبريات المعاهد والجامعات الموسيقية.
يتفاعل عالم جرجور مع السكينة، التي جعلته في حال سلام داخلي ومصالحة مع الذات، وذلك بفضل الموسيقى، التي يرى فيها دواء للوجع الإنساني من دون أي عوارض جانبية. أهميتها - وفقاً له - أنها بمنزلة المأكل والمشرب في حياة الإنسان، وقد تكون أساسية في الأزمات، ويبرز ذلك من خلال تنظيمه حفلاً خيرياً دعماً لسوريا منذ 12 عاماً، وتحديداً اللاجئين والمتضررين ومساعدتهم على مواجهة أهوال الحرب عليهم.
ما الغاية من تنوع هذا الريبتوار في الحفل، الذي قدمه في كنيسة جميع القديسين الإنجيلية الأسقفية - مطرانية القدس في وسط بيروت؟ الجواب بديهي بالنسبة إليه. هو أراد التشديد على أهمية التنوع الثقافي في لبنان أو في أيّ بلد آخر.
قال:" عندما أتوجّه للعزف في جولاتي في كلّ من أفريقيا، أميركا وأوروبا يجذبني عامل أساسيّ هو التعرف على البلد نفسه أوّلاً، إضافة إلى أنّني أتوق إلى أن ينجذب الحضور في الحفل إلى آلة الغيتار في محاولة لتعريفهم على إمكانيّاتها وخصوصياتها.
بالنسبة إليه، الغيتار "أوركسترا صغيرة" تعكس خبرة موسيقيّة متكاملة. بمعنى آخر، اختصر جرجور أهمية العزف بهذه الآلة بأنّه يتألّف من ثالوث هو الغيتار، اللحن والمرافقة، فيما الغيتار الكلاسيكيّ آلة تعزف المقطوعات الموسيقيّة المتكاملة من دون حاجة لأيّ مرافقة من عازفين، مع العلم أن صعوبة العزف تبرز فعلياً في كلّ من المستوى المتقدّم للعزف، للّحن الرئيسي، وللمرافقة والإيقاع في آنٍ معاً.
توقف عند الريبرتوار، الذي قدّمه في أمسية الكنيسة، لا سيّما عند مقطوعة "الهروب" لباخ، على آلة الغيتار، وهو أمر يتطلّب جهداً ملحوظاً، و ليس بالأمر السهل، وفق ما قال جرجور.
أما نحن، أي الجمهور، فكان ملاذنا سماع تلك الميلودي لنشعر بنشوة الهروب من ذاتنا، من الآخر، من كلّ شىء يُحيطنا نحو الحلم، أو الفراغ أو الهدوء. نعود مجدّداً إلى حديثنا مع جرجور، الذي أبدع في عزف مقطوعته Koyunbaba للموسيقار الإيطالي كارلوس دومنيكوني، الذي يجمع في آلة غربيّة بعض الأوتار الشرقية كأنّها أصداء عود يتوغّل في نفوسنا.
المنطقة وسط أجواء أو تفاعلات حربية مع هوكشتاين ومن دونه، لذا ليس في جعبته ما يعطيه للبنان، كما ليس لأي أحد ما يعطيه للفلسطينيين في هذه الظروف والمعطيات.