وديع صبرا من ظلمات النسيان الى هالة الضوء المنعكس في إحدى محطات إنصاف بصماته الخالدة في عالم الموسيقى، التي لا تنحصر فقط بتلحينه نشيدنا الوطني، بل تعكس رياديته في تأليف أوّل أوبرا شرقية، وتأسيسه الكونسرفتوار الوطني الذي يليق له أن يحمل اسمه تخليداً لجهوده.
ترجم ذلك عملياً مساء الجمعة الفائت في حفل أوبرالي لصبرا، وهي تحية تكريمية له في الذكرى السبعين لغيابه، أرادتها الكنيسة الإنجيلية الوطنية والكنيسة الإنجيلية الفرنسية بالتعاون مع مركز التراث الموسيقي في مدرسة الجمهور، ومشاركة جوقة "Hymnos" التابعة لمركز فيلوكاليا بإدارة الأخت مارانا سعد في الكنيسة الإنجيلية في زقاق البلاط، وهي الكنيسة التي كان يتردّد إليها صبرا للصلاة والعزف على الأروغ مواكبة لمراسيم القدّاس، كما ذكر راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية في بيروت القس حبيب بدر في كلمته. كما شاركت الكنيسة الإنجيلية الفرنسية، وفقاً للقسّيس برايس ديمييه، لأنّ صبرا درس الموسيقى في فرنسا على يد كبار الموسيقيين، ما ساهم في تطوّر مهاراته التأليفية في هذا العالم.
الأرشيف المغمور
هذا الحفل، الذي رعاه وزير الثقافة محمّد وسام مرتضى ممثّلاً بالمديرة العامة للكونسرفتوار الوطني بالتكليف هبة قواس، تمايز بغناء أوبراليّ شبابي لروائع وديع صبرا "المنسية"، وهو رسالة متوقّدة أرادوها من أجل بيروت المجروحة، ولإحياء ما كتبه وديع صبرا للموسيقى وللأوبرا الشرقية.
لم يكن هذا الحدث أو غيره ممكناً لولا جهود السيدة زينة صالح كيالي، التي كتبت بيوغرافيا عن وديع صبرا، بعد حصولها على أرشيفه المغمور من آل الميسك، عائلة زوجته، وهو كتاب من سلسلة وجوه موسيقية أصدرتها بالفرنسية عن دار غوتان تكشف من خلالها ريادة موسيقيين لبنانيين عالميين.
واكتملت خطوة رفع الغبن عن صبرا من خلال جهود حثيثة للباحث الموسيقي الباريتون فادي جنبرت، الذي نظّم "ريبرتوار" الحفل، ويتابع قراءته الموسيقية لأعمال صبرا لتقديمها إلى الرأي العام.
يتسنّى لعاشق الموسيقى والأوبرا أن ينساق طوعاً الى الأنامل الذهبية لعازفة البيانو زينة علم، التي رافقت العازفين ومغنّي الأوبرا والجوقة الشبابية دون توقّف طيلة الأمسية الأوبرالية. دلّتنا في عزفها على الطريق نحو الوصول الى مؤلفات الكبير وديع صبرا، ما جعل آلة البيانو ترافق المستمعين بترتيب كرونولوجي للبرنامج من خلال وقفة خاصّة بافتتاح تعزفه مع كلّ أوبرا، ولاسيّما عند عزفها "فالس" ألّفها في العام 1933 وهي أجمل مقطوعة موسيقية معزوفة على آلة البيانو، تبرز من خلال سمة الإبداع والنضوج عند العازف ودمج النسيج بين الغرب والشرق.
توحّدت الأمسية الأوبرالية مع وجود مميّز جدّاً للسيدة زينة صالح كيالي، التي تحوّلت الى راوية لمحطات رئيسية من حياة وديع صبرا قبل البدء بأيّ أوبرا، ما جعلنا أمام كتاب مفعم بالموسيقى لوديع صبرا العائد بعد أعوام طويلة من الغياب.
في "الريبرتوار" التذكاري، كانت البداية مع لحن النشيد الوطني كما ألّفه الكبير وديع صبرا بأصوات شباب وشابات الفرقة المشاركة في الأمسية، حيث عكسوا تعلّقهم بالأرز وبلبنان أكثر من أيّ من الطبقة الحاكمة في بلدنا.
ثمّ بدأت الحفل بأوّل أوبرا غنائية لحّنها صبرا في العام 1917 وهي رعاة كنعان، التي أنشدها اليتامى الأرمن في معهد القديس يوسف عينطورة، في نصّ من العهد القديم تدور حبكته عن قصة الملك يوسف ابن يعقوب، الذي يتآمر أخوته عليه بدافع الغيرة من حبّ والده له، فيقرّرون بيعه كعبد مع نشر خبر وفاته.
القلب المشتاق
يتفاعل صوت الموسيقى مع غناء الميزو سوبرانو ناتاشا نصار في دور أسما زوجته الملك يوسف، في محاولة لمناجاة زوجها وقلبها المفعم بالشوق، وسط الحزن المخيّم على الملك يوسف في وحدته القاتلة التوّاقة إلى الانتقام. بصوتها الفتي، تكشف نصار تفاصيل لوعة الفراق عن زوجها والغبن الممارس عليه، فيما يدخل الباريتون فادي جنبرت بحنجرته الواسعة المدى، وغنائه المفعم بالإحساس، ليتوجّه من خلال دور الملك يوسف في هذه الأوبرا إلى محاكاة والده صارخاً:" أبي،/ ألا تسمع صلاتي في الليل العميق، ألا يصلك وقع دموعي؟ ارحموني/ أشفق على أبي/ أشفق على روحي المصابة بكدمات/ أشفق على طفلك. يدك اللطيفة على جبيني ستبدّد آثار أيام سوء الحظ والخوف...."
حاول "الريبرتوار" إبراز أهمية صبرا، الذي لحّن قصيدة للكبير سعيد عقل " ها أنا لبنان "، وهو نشيد أدّته جوقة "Hymnos " التابعة لمركز فيلوكاليا، عن حبّ لبنان من شبابه وشاباته في هذا الزمن الرديء وكشفت:" ها أنا لُبنانْ/حِملُ ساعِدَيّ / لفتَةُ العُقبانْ في العُلى إليّ /هازئٌ أنا بالنّوائِبِ /يولدُ السَّنا عن جوانِبي /لستُ في الصخور/لا ولا الزهورْ /أنا في الصُّدور من كتائِبي..."
بعد النشيد الإنجيليّ، الذي أدّته الميزو سوبرانو ناتاشا نصار والفرقة الشبابية، انطلقت الأوبرا الثانية لصبرا "الملكين"، وهي من نصّ مأخوذ من العهد القديم بين دافيد وجوناتان.
ألم الفراق
يأسرك كعادته الباريتون فادي جنبرت خلال غنائه الأوبرالي "ردّني" مناجياً دافيد، يكشف من خلال صوته أسرار الأوبرا في سمّوها، رغم أنّ غناءه بالفرنسية والأجنبية بدا ناجحاً أكثر مما هو خلال غنائه باللغة العربية. في قصيدة الملكين، استعاد صبرا عزف سولو لوائل سمعان على الكمان "التهويدة" la berceuse بكثير من الإحساس و المشاعر، التي سرت الى قلوب الحضور.
"ألم الفراق"، لسعيد عقل وتلحين وديع صبرا هي القصيدة الجديدة التي تجسّد الفراق بين دافيد وجوناتان، "اذًا؟ انتهىَ كُلُّ شَيّ؟" من كلمات سعيد عقل وتلحين صبرا، شارك في العزف وائل سمعان على كمانه وبرز صوت السوبرانو لارا جوخدار، الذي رافقها الباريتون فادي جنبرت. عكست جوخدار بصوت واعد جدّاً مضمون قصيدة عقل وهي تؤدّي قصيدة عن الفراق قائلة: "وما قُلتَهُ أمسِ لي/بأنّي غَدُ البُلبلِ /وكَدسُ خُزامى وفيّْ /ماذا انتهىَ؟ لا إله/ على الصخرِ يُضفي الحياه/من الشمسِ يأخذُ بِذرَهْ/ومن سُمرةِ الليلِ سُمره/وخمسَ زنابق زواهي القدودِ روائقْ/ يذوّبُهنَّ بعطرِ السَحَرْ/بِعَندلةٍ من قمرْ /وكوني الجَمالَ أَكُنْ / لا إله؟ ماذا انتهى؟"
استشراف الغد
برز في الحفل استشراف صبرا للمستقبل أو حتى لما نعيشه. فقد أدّت الفرقة أوبرا الأفاعي بعنوان "كم رقصنا" وهي تذكّر بالنار وتأثيرها على حياة الانسان، ولاسيّما أنّها ترتبط بقصّة شاوول عندما قصد العرافة غين ضور ليطلب منها روح صاموئيل لينزل عليه النبوءة... يظهر من وتيرة الأصوات مناجاة الأرواح، التي تجذبها النار لتلبية المطالب، وهذا يعيدنا إلى دور الشرّ في تحصيل المطالب على وقع رقص الأفاعي.
يتجسّد استشراف صبرا لواقعنا المأساوي في أوبريت المهاجر في العام 1931 من خلال أوبرا أميركا، الذي تحكي قصة مهاجر عائد الى وطنه بعد غربة 20 عاماً ليكتشف، كما وصف الباريتون فادي جنبرت في غنائه الأوبراليّ الرائع، ما يمكن أن نراه في لبنان حاليّاً قائلاً: "نعم عندما يحظر لبنان مثل كلّ أميركا، الجدلية حول دور جميع السياسيين، وإن لم يحصل ذلك، فكل شيء بالدولار بدلاً من تسديده بالقروش...
الوداع كان بأوبرا "نعم أنا أرحل بصوت جنبرت الرائع، وسبقه أوبرا عن الماضي بصوت جوخدار، التي أثبتت في الأمسية، قدرة مميزة على شقّ طريق – حتى لو كانت بعيدة المدى- نحو الغناء الأوبرالي في حال واكبت على المحافظة على أدائها المميّز في هذا الحفل.
[email protected]
Twitter:@rosettefadel