تضحكني لطافة السنجاب. تدهشني خفته. أراقب سرعته وأغبط قدرته على التخفي والقفز بين أعلى شجرتين. أتذكر المطر في هذه الحديقة. قبل شهور: مطر الصيف.
وحيداً، ممدّداً على مقعد تحت شجرة وارفة، أهضم وداع أبي المؤثر، تهدهدني الذكرى، أستسلم برضى للعب الأقدار القاسية. أنام.
أصحو على بلل يبرد صدري. تمضغ رئتاي عطر التراب الفائح. أهضم وداع أبي المؤثر قبل يوم من السفر. أبكي.
ألمح سنجابا دفعه المطر إلى الجنون. يتحرك في كافة الاتجاهات. ذعره المبلول يبدد هيئته المضحكة. بدا بائساً ومثيراً للشفقة. مثل الآمال الباهتة بأن "كل شيء سيكون على ما يرام".
*
الآن، الأصحاب يلتقطون الصور لسنجاب آخر. الآن موسم آخر. آمال أخرى. وقت آخر، لكن "غابة يلدز" هي ذاتها، كما أن اللجوء إلى حضن تلك الجذوع العتيقة المهيبة من بلوط وصنوبر وسنديان بهدف الاتصال مع طاقة الطبيعة الشافية، الأبدية، هي الرغبة ذاتها.
نقترب من الشلال. تعبّر الصديقة عن فرحها بروعة الحديقة المترامية فوق التل الكبير الذي احتضن، في أعلاه، المكان الذي جسد ذات يوم مركز حكم إمبريالي لواحدة من أهم المدن "التي اشتهاها العالم": القسطنطينية.
ألتقط صوراً للصديق الذي اختار، وعائلته، اسطنبول، مكانا للعيش، بعدما تعذرت فضاءات مدن عربية عريقة على احتضان أبنائها الشجعان والموهوبين، بل باتت تخنقهم. تسرّب إلى رئاتهم القهر مرة، والهزيمة مرة.
ما أقسى الهضم حين يكون اضطراراً لتجرّع استسلاماً مهزوماً.
أقف لدقائق على الجسر المعلق. أستمتع بمغالبة رهاب المثول في نقطة من الفضاء. أتوهّم شعور معاند الجاذبية أو المتجمد بقوى خفية: لعنة إغريقية، ربما، تصبها آلهة عاشقة قديرة، بدافع انتقامي.
أتذكر "حمزة" الشاب العشريني ذي العينين السوداوين اللامعة المتسعة على ألق جاذب، يحدثني، خلال رحلة من رحلات "الدلمش" الكثيرة التي استقلها بين ساحتي "باجيلار" و"غونيشلي" في شرق اسطنبول، عن صديقته "الغيورة" التي "نسفت" منصاته الرقمية الخاصة بالتواصل الاجتماعي انتقاماً منه لأنه قرر أنها "غير مناسبة له": "لم نعد على ما يرام. العلاقة باتت مسمومة بذعرها، وشكوكها، وتربصها، وفحيح جواسيسها. لقد تركتها. فـ" هكّرت" المجنونة كل حساباتي على "السوشال" ميديا".
أفكّر أن السلطان عبد الحميد الثاني، الذي حكم أمبراطورية مترامية الأطراف، من هذا المكان الرائع، التي تتقافز السناجب بين جذور غابته متسربة مثل عصوات السحرة الغامضين، تشبه طبيعته، إلى حد ما، طبيعة صديقة حمزة: "شكاك وضربته قاسية".
أمد نظري إلى ما خلف المطعم والمقهى القريب من بحيرة الشلال، فيصطدم بالغصون الكثيفة المتشابكة التي تحجب منظر البوسفور.
**
قبل مائة سنة كانت هذه الحديقة مختلفة تماماً عما هي الآن. لقد غطت حدائق "يلدز" أكثر من خمسمائة ألف متر مربع أرض زرعت بأشجار وزهور من كل العالم. كما أن امتدادها حوى، إضافة إلى القصر، مبان، ومصنع خزف، ومستشفيات، ومدارس، ومطبعة، وورشة تطريز، وحديقة حيوانات، وأكشاك، ومرصد، ومختبر صيدلي، ومختبر تصوير فوتوغرافي يمارس فيه السلطان هوايته العصرية إلى جانب هواية أخرى أكثر تقليدية و"قدسية" وهي النجارة في ورشة أنشئت خصيصاً له: كان رجلاً جمع، بحسب مستندات مؤرخة عن مقربين عاصروه، بين تناقضات الرقة والقسوة، الشجاعة والانكسار، الثقة والتشكيك.
من منا، انطلاقاً من هذا التوصيف، لا يمكن أن يصف نفسه بأن "سلطان زمانه".. في أي وقت!
على مدى سنين طوال، استنزفتني تمارين الثقة والخيانة، حتى تهلهلت مسارب أعصابي. أثر ذلك على وظائف عضوية في جسدي، من بينها وظيفة التبوّل، والجهاز العضمي، والشحوم التي تتراكم بفعل "الستريس" على طبقات الشرايين. هذه الأسباب مجتمعة تضعني في مواقف محرجة، في كثير من الأحيان، اذ يتوجب علي أن أعاين المسافات التي تفصلني عن الحمامات في الأماكن العامة، كذلك الانتباه الى عدم الافراط في استهلاك قطع الدهن الملّخط في اللحم الأحمر داخل مناقل المشويات خلال الرحلات الهانئة إلى الغابات. إضافة إلى تجنب المشروبات المهيّجة لأحماض المعدة مثل عصير البرتقال أو القهوة أو الشاي (قد يفضل التركي التعامل مع مثلي الجنس بتسامح أكثر من تعامله مع شخص لا يقبل شرب الشاي، قال لي صديق، ينكّت، غالب الظن!).
يقول لي نادل المقهى الزجاجي، الذي تقلد هندسته أسلوب ملاذات الحدائق الأوروبية في القرن الثامن عشر، إنه لا يمكنه منحي فنجان "هوت شوكليت" من دون حليب. لا يسعفني صبري ولا كمية "الداتا" المتوفرة على شريحة رقم هاتفي التركي، لاستنزاف مخزونها، عبر نشاط الترجمة. أقرر التخلي عن المجادلة، لصالح لوح شوكولاته داكنة، مخلطة بدقيق الحمص ومعجونة مع التمر، أحظى به، كاكتشاف مبهج ومرض، يوازي اكتشاف السلطان لأسماء المندسين الخونة في قوائم المدعوين الى مناسبات العشاء الفاخرة التي يستضيفها في قصره.
***
انه العام 1894، والباشوات لكثرة ما أحنوا ظهورهم المستوية تحية لمرور السلطان، كان بالإمكان لقبيلة سناجب كاملة أن تجري على خصورهم. يدخل السلطان الى قاعة الطعام، فينعكس، تحت ضوء الكهرباء النادر في المدينة، أطياف من جسده النحيل، على الكورنيشات الذهبية التي تحيط بالنوافذ، والتي يشرب طلاؤها الذهبي النابليوني الكثيف خيالاتها ويبددها. على الطاولة، لا يفوت الحس الأميركي أن يفرض مقاربته النقدية في الخفاء، اذ يهمس الضيف ماكس موللر في أذن زوجته أن "الطعام رديء. هل لاحظت كم هو بارد. يبدو متنوعاً لكنه فاسد!".
لا تجافي الدقة ملاحظة الضيف، اذ إن الرحلة الطويلة التي يقطعها الطعام من مطابخ القصر الى مائدة ضيوف السلطان تجعله، لكثرة إعادة تسخينه، "ليس على ما يرام.. تماماً".
ألتهم آخر قطعة من شوكولاته الحمص، محاولاً التفنن في اكتشاف نكهتي بذور الكتان والشيا التي جبلت في عجينته، وأتخيل نوع الطعام في الأطباق الذهبية التي فرشها خدم يرتون أزياء حمراء وذهبية: "حساء ويندسور، بوريك لحم، بوريك جبن، سمك ترس، لحم حملان، دجاج، سمان، هليون، بيلاو، أناناس فيكتوريا"، إضافة إلى الخمر، من ماركة "كلاريت" الفاخرة، الذي لم يكن السلطان "الزاهد" ليحتسيه.. على الأقل أمام ضيوفه.
لم يكن الصمت المطبق الذي خيم على القاعة إلا طقساً مستمداً من القرن السادس عشر، حيث لا يمكن لأحد على المائدة أن يتحدث إلا بأمر السلطان. لكنه بدا أيضاً صدى لصمت عميق، يشبه حالة الشلل التي تستبد بالرجل، لو علم أن شعوب الأرض قاطبة في "حدائق" مملكته مترامية الأطراف تتحضر لخلعه: يونان وبلغار وأرمن وعرب وقوميات شتى، تعمل أحزاب وفرق فيها، بتنسيق ودعم من بريطانيا والنمسا والمجر وفرنسا وروسيا على إثارة القلائل والجهر بالصوت العالي في كل مكان.
ثمة قنابل حارقة تهطل بين حين وآخر على المدينة، ترميها عصابات غاضبة. ثمة رهائن يتم احتجازهم داخل مبنى "البنك العثماني". ثمة بطريرك مسكوني يجبر على الخروج في مظاهرة ضد السلطان. ثمة قنصل يهدد بأسطول يحرق الأخضر واليابس على ضفاف البوسفور. ثمة صحيفة تتحدث عن "المأسوف عليه الكبير". ثمة باشا يحتجز على مقربة من المكان الذي لا أجادل فيه النادل عن سبب عدم فصل بودرة الكاكاو عن بودرة الحليب.. ثم يحاكم في "حديقة يلدز" قبل أن ينفى الى "الطائف" ويغتال هناك.
ثمة رعب كبير، من الاغتيال، يحاصر روح السلطان، في عاصمة " النعمة والنقمة". هل تنقذه مسدساته المطعمة (معروضة اليوم في المتحف العسكري لاسطنبول)؟ هل تحميه؟
كيف لا يكون صامتاً على مائدة العشاء والعالم كله يضج بأعمال الإرهابيين والفوضويين الذين اغتالوا معاصري السلطان من بينهم:
اغتيالات ما قبل العشاء:
• قيصر روسيا سبق وقتل في 1881.
اغتيالات ما بعد العشاء:
• رئيس الجمهورية الفرنسية قتل كذلك في 1896.
• امبراطورة النمسا (1898).
• ملوك إيطاليا (1900).
• ملوك صربيا (1905).
• ملوك البرتغال (1908).
لكن السلطان، مثلي، لا يحب النهايات المفجعة، رغم أنه متهم بتدبيرها لأعداء له، حتى لقبه المعترضون بـ" السلطان الأحمر"، ويفضل دوماً النهايات السعيدة.
****
" بعد العشاء كان السلطان يسلي ضيوفه وحريمه بعروض أوبرالية في مسرح القصر ذي الألوان التركوازية والذهبية والسمنية الذي بناه سركيس باليان بيه.. كان يلدز العالم الخاص للسلطان الذي كان يتصرف فيه كما يشاء.. كان يغير حبكات المسرحيات والأوبرات، ويضيف حوادث من عنده لتجنب النهايات الحزينة. فتغير اسم أوبرا "لا ترافياتا"، اي المرأة الساقطة، إلى "مدام كاميليا"، وتغيرت نهايتها: يأتي الطبيب ويعيد إلى فيوليتا عافيتها"، يسرد مؤرخ البلاطات الفرنسي فيليب مانسيل.
تقترب عروس شابة من الجسر المعلق. حافية تحثّ خطواتها، من دون حذر، إلى وسط الجسر، فتحف أذيال فستانها الأبيض أرضية وبر لفائف الحبال التي صنع منها الجسر. ثم يلحقها عريسها ويلتقط مصور لهما صورة، فيما، من أعلى، ينحدر من أعلى قمة الشجرة، كأنه هابط من مقر إقامته في السماء، سنجاب لطيف، يقف لبرهة على غصن شجرة، يتأمل جمود الزوجين، وهما مشنوقان بحبل ابتسامة متفائلة.. بين الأرض والسماء!