النهار

قبّعة ملحم الرياشي وكتاب "ألبير مخيبر"
يوسف طراد
المصدر: "النهار"
قبّعة ملحم الرياشي وكتاب "ألبير مخيبر"
قبّعة ملحم الرياشي وكتاب "ألبير مخيبر".
A+   A-
 إذا أردت معلومات صحيحة غير مختصرة عن الدوافع التي تعمل في عقول السياسيين اللبنانيين، وعن مراحل شديدة الصعوبة مرّ بها الوطن الّلبناني في التاريخ المعاصر، تجد كتاب "ألبير مخيبر" لملحم الرياشي منسجمًا تمام الانسجام مع ظروف لبنان اليوم والأمس القريب، وذلك من ناحية التطورات التي حدثت وتحدُث فيه، والمتعلّقة بالتبعيّات الخارجيّة التي فَرضت وتفرض السير في طرق معوجّة، منذ قبيل إنشاء دولة لبنان الكبير إلى الآن. لأنّ هذا الكتاب من المؤلّفات التي تجعل القارئ والسياسيّ الحديث العهد في السياسة يفهم مجريات الأحداث، فهو صورة مثيرة للعقل المنفتح، ودراسة عميقة للطريق التي يجب أن يتحوّل بها المجتمع المتعدّد، المكبّل بديمقراطيّة توافقيّة، كي يصبح مجتمعًا راقيًا سياسيًا واجتماعيًا.
 
يعتبر الكتاب في أساسه سيرة حياة سياسيّة لعلَم من أعلام السياسة الّلبنانيّة هو المرحوم النائب الدكتور ألبير مخيْبر. هذه السيرة وضعها ملحم الرياشي في دراسة واقعيّة ممتعة، بالرغم من أنّها ليست عملًا أدبيًا. وقد تميّز مضمونها بالترتيب في عرض الأحداث حسب تاريخ ورودها.
 
هل هدَف الرياشي من هذا الكتاب إلى أن يكون قاعدة أساسية لعلم السياسة الّلبنانية المعاصرة التي تختلف عن سياسات دول الكوكب الأزرق قاطبة؟ هذه السياسة التي باتت أحداثها لصيقة قرنين من الزمن. فلا يمكن تفسير أيّ حدث في هذه الفترة من دون الإحاطة بها على الطريقة الجاحظيّة كما فعل الرياشي. فالكتاب لم يعتمد في منهجيتة على الانفصال عن مفهوم المخاتلات السياسيّة الّلبنانيّة ورمولها المتحرّكة، لكنّه ابتعد عن فكرة الترويج لبرنامج سياسيّ محدّد، وعرض خصالاً تمتّع بها مخيبر من خلال ممارسته السياسة ومهنة الطّب. وقد ترجم الأخير عناده المُحق بأفعالٍ هي وليدة مبادئ ثابتة، قائمة على المبادئ الوطنيّة والكيانيّة الّلبنانية، ويمكنها المساعدة حاليًا في حال اتِّباعها على توجيه الإجراءات السياسية للنهوض من أزمات الوطن الّلبناني؛ وبذلك تُحقِّق السياسة الغاية المرجوّة منها.
 
لم يحجر الرياشي الذاكرة في داخل الذاكرة، بل فلشها على صفحات كتاب أضاء على فتن مرّت بالوطن؛ فتنٌ هي من صنيع أنظمة ودول مجاورة، وقد استغلّت اضمحلال الرؤية السياسية لدى الساسة الّلبنانيين وحبّهم للكراسي. هذه الأنظمة هي التي حرمت الشعب الّلبناني من الحريّات السياسيّة، في وطن يعتمد الليبراليّة دستورًا له. فمن خلال مسيرة مخيْبر السياسيّة المفصّلة تفصيلًا دقيقًا في هذا الكتاب، رأى المؤلّف أنّ النزاعات الطائفيّة ليست ناجمة عن التعدديّة الدينية والنظام الطائفي الذي فُرض في ظروف معيّنة، بل عن غياب الدولة والموقف الوطني الموحّد، أو غياب مفهوم الدولة - الأمّة التي تتجاوز الروابط الأهليّة والدينيّة والإثنيّة إلى رابطة الوطنيّة. وكان هذا الأمر ظاهرًا جليًا في معارضة مخيْبر لاتفاق القاهرة، وإحجامه عن الذهاب إلى الطائف، وعدم حضوره جلسات انتخاب معظم رؤساء الجمهوريّة الّلبنانيّة، لأنّ إرادة الخارج كانت جليّة في فرض هذه الاستحقاقات وشخصياتها. "لم أرد تأمين النصاب لأن تصرّفات بشير الجميّل لم تكن تعجبني. ولم أذهب إلى الجلسة على الرغم من أنّ البعض حاول أن يأخذني بالقوّة وتبييض الوجّ مع بشير، لكنني رفضت" (صفحة ٧٠)، (في آذار ١٩٧٦، جاء إلى بيت مري من يقنع مخيبر بالنزول إلى جلسة انتخاب المرشّح الرئاسي الأوحد الشهابي إلياس سركيس، وكان مدعومًا من سوريا، "كانت المعركة معركة نصاب. قالوا له، أنت ديمقراطي فانزِل إلى مجلس النوّاب وصوّت لريمون إدّة. فكان جوابه اللمّاح: زيارتكم عزيزة، سأبقى في البيت وأصوّت للياس سركيس") (صفحة ٧٨).
قد نختلف على دور السياسي، لكن يجب ألّا نختلف على دور السياسة. لذلك يُعتبر هذا الكتاب واحدًا من أهمّ الكتب التي وضعت قواعد لواجبات السياسيين من خلال ممارسة النائب مخيْبر مهامه خلال حياته المهنيّة والسياسية. فهو تحديث عصريّ لحقبة تليق بالحاضر والمستقبل، حيث أرّخ المؤلّف لسياسيّ لبنانيّ مشهود له باستقامته وحبّ الناس له، بالإضافة إلى وصف هذا الكتاب غباء الساسة وتأثيرها على المجتمع، والاختلافات بينهم، التي نجم عنها عدّة معارك على الأرض زادت من حدّة الشرخ.
 
مهما قيل عن هذا الكتاب وتوقيت إصداره، وبأنّه كان دعاية لحملة انتخابيّة، فالمؤلّف عطّر أجواء الماضي والحاضر المسمومة بعطر حكايات وطنيّة. وبما أنّ السياسة تدخل في ماء وهواء ودواء الّلبنانيين، فقارئ هذا الكتاب قد وجد ملحم الرياشي الكاتب والباحث في شؤون الشرق الأوسط والدين المقارن والأستاذ المحاضر في مادة جيوستراتيجيا التواصل، قد رفع القبّعة لرمز من رموز المعارضة الشرسة الإيجابية في المجلس النيابي هو الدكتور ألبير مخيْبر. وقد وجده أيضًا، وهو النائب المنتخب حديثًا، المشاغب الأوّل في صف "الأستاذ"، عندما رفع قبّعته لجميلات المجلس اللواتي أفرغن محتوى صدف الموركس على حللهنّ، والتقط معهنّ الصوَر. فهل سيدخل نادي من يخفون الحقائق تحت ستار الخطابات الرنّانة، أم سيخوض بقوّة معركة التشريع لصالح الوطن والمواطن، ويُوقظ مشاريع القوانين النائمة في أدراج المجلس، ويكون من أبطال الصراع الحقيقيّ لمفهوم الدولة وشرعيّة السلطة.
 
الجواب في المستقبل علّنا نرفع لآدائه قبّعاتنا، وينبري أحدهم لكتابة سيرته السياسيّة بعد عمرٍ طويل، كما كتب هو سيرة سلفه.
 
 
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium