د. نقولا أبومراد
في مائيّة شوقي دلال تُراقِصُ الأرضُ السماءَ، والأنوارُ الظُلُماتِ، ويُجاوِرُ العمقُ الرفعةَ. وثِقَلُ الأشياء، في ترابيّتها، بِلَّوريّةَ الرؤى، في تناغمٍ لونيّ وكونيّ، يحمِلُ نظرةً فيها الكثير من الإكرامِ لقدّيس زهَد ليرى التماعاتِ الله في خلقِه والوجوه.
وجوهٌ تُخْتَصَرُ في حضورٍ يعتريه بعضُ غيابٍ، لأمٍّ تأتي من أرضٍ وسماءٍ، من ليل ونهار، من زمنٍ يستلقي على ذكرياتِ وليدٍ، ترنو إلى النور، وكأنّها في قدّاس من الضياء، لعلّها تحظى برؤيةِ ابنٍ لها أرادَ في الحياة نُسْكًا، فانكفأ عن الوجود، ومضى يَطلبُ حضنَ الحبيب.
شَبَّهتُ الأمَّ في مجيئها من عناصر الكون إلى أرضِنا، التي أخرجها ربُّها من خواءِ الوجود وفراغِه إلى النور، حين قال للنور "كُنْ" فكان. والأرضُ حاضرةٌ بقوّة في اللوحة بالألوان الترابيّة، تتنقّل من الأسود إلى البنّي الداكن، مرورًا برِبواتٍ من ظلالِه.
يفيضُ ضوء جليلٌ من نافذة وسطَ الغرفة ووسطَ اللوحة، وكأنّه ذهبُ أيقونةٍ بيزنطيّة أبيضُ. يخترق كلَّ ما في القلّاية، فيُحاوِر قِنْديلاً هنا، وتلتمع منه، ثَمَّةَ، شراراتٌ في كتيّبات قديمة لعلّها مصاحفُ صلواتٍ وتمتماتِ الترابِ مرفوعةً قُدّامَ الخالق كبخور تكادُ تَتَحسّسُ عبقَه في الألوان وفي الدفء الذي توحي به المائيّة.
وأكثرُ ما لَفَتني في نافذة الضوء أنّ النورَ المنهمرَ مِنها، ولئن كان يخترِق هو كلَّ الأشياء، ويستقطبُ إليه الحضورَ كلَّه، مُختَرَق بصليبٍ بلون الأرض، مِن مادّةِ الأرض، والصليب يتوسّطُ النورَ، ويتوسّط كلَّ الأشياء. ألعلّ به تَحمِل كلمةُ الله الأزليّةُ مصلوبيّتَنا والمواتية؟ تحتضِنُ تلكَ المعطوبيّة التي نحملُها في نفوسِنا والأجساد، مطروحين بها وفيها وعليها كما على صليب؟ ألعلّها تتحوّل هي إلى تلك المعطوبيّة، فتلبسها، تتجلببُ بها؟ ذكّرني هذا بالأزليّ الصائر على صورة عبدٍ، الآخِذِ هيئتَنا.
طبعًا. فصليبُ شوقي لا يقفُ غير آبِه بالكون. وُجهَتُه فراشُ الغائبِ جَسَدُه، والحاضرِ وجهُه في اللمعان. وجهُ الصليب إلى تلك الزاويةِ الثقيلة من اللوحة، إلى حيث يُحاولُ السواد أن يتمدّد، وكأنّه ليلٌ يسعى إلى الاستيلاء على مساحة النور، ظانًّا أنّ له كلَّ المساحات، كما في ذلك الزمان أو اللازمانِ، حين كانت الظلمةُ تسودُ على وجه الغمر.
يفتحُ الرسّامُ نافذةً في الليلِ إلى السماء. يجعلُ الجَلَدَ الأسمى منتصبًا فوق الليل. ينكسرُ الضوء فيه انكسارًا، ويحوّله إلى امتداد وجودٍ في نُسْكِ القدّيس، في فراشه المرصّع بخشب السنديان، في تواضعه، في انسحاقه وبساطة الحياة، في عناق مع أدنى ما في الوجود.
وبالسماء المُتَسرِّبة إلى القّلاية، تكتسبُ هذه إطلالاتٍ إلى المدى الواسع، حتّى نكادُ لا نعرِف ما إذا كانت السماءُ هي التي تأتي إليها أم أنّها هي الماضية إلى السماء. غير أنّني رأيت السماءَ في اللوحة ترتمي على أرض القلّاية حيث تعانقُ النورَ، والنورُ يعانقُ الأرضَ في مَطْرَحِ سكينةِ القدّيس. شعوري أنّ دلالاً، في هذا، وفي إحداثِه هذا الفراغَ الأرضيَّ في أسفل اللوحة، شاءَ أن يعبّر عن أنّ هذا النورَ الآتي من الله، عبرَ الصليب، يَحْمِل بضياء وسماء منحنيَين، قلّايةَ القدّيس، وكأنّها رجاءُ وجودنا، إلى جمالات لا توصَف.
أستاذ وباحث في دراسات الكتاب المقدّس*