مارلين سعاده
زوّدَتْني بنسخة من كتابها أردفتها بقولها: "قراءة ممتعة"؛ هيمن ظلّ عبارتها على أولى صفحات الكتاب، فكانت افتتاحيّته أو عتبته، تأشيرةَ دخول إلى عالم الظلال المكتنز بالحقائق، ما يجعله بصورة غير مألوفة يجسّد الواقع، محوّلًا ظلال أحداثه إلى إشارات ترسم واقعه الحقيقيّ بأسلوب ساحر، لا تردُّدَ فيه ولا انكفاء، ينساب بأريحيّة وحرّيّة، كفرس تجوب في ميدانها بهمّة عالية ونشاط وابتهاج! فأمعنتُ في الترحال معها عبر نصوصها إلى عوالم تكشفها ظلالها بسحر عجيب!
"لوسيفر" نصّ يشكّل لوحة فنّيّة بحدّ ذاته، بنَتها الكاتبة على أسس واقعيّة، استخلصت ألوانها من نوازع النفس الإنسانيّة وميولها، مولّدة منها سرديّة آسرة يشدّك وهجها ويمنحك متعة متابعة تفاصيلها، وتصيبك الدهشة لاكتمال عناصرها ومطابقة ظلالها لواقع الحدث الذي نقلت عنه، بحيث تشعرك أنّها الظلّ الحقيقي له؛ والغريب في أمرها، أنّ ظلّها أكثر توهّجًا بأشواط من الصورة الحقيقيّة التي استندت إليها!
إنّها عواطف محجوب، المفعمة بالحيويّة، المتمكّنة من لغتها، والمثقلة بالحكمة في استخلاص الحقيقة من الواقع، وإضفاء السحر عليه، بحيث تمنحنا المتعة لشدّة التصاق أقاصيصها بالحقائق، مصوّرة واقع النفس وهي تصارع ذاتها إذ يصارعها الألم أو المرض ثمّ يصرعها: "المهجوس... عدم يمشي على قدمين"، يهرب من واقع لا يتغيّر، ليعود فيغرق فيه. رفضٌ يولّد ثورة على الواقع وعلى ذاته الخاضعة، وتخاذلٌ وضياع يرميانه في أحضان واقعه العبثيّ المقيت: "التقط بملقط معدني... نثار لحمه والتهمه بنهم"! كره واقعه وغاص فيه خاضعًا.
المرآة حاضرة في أكثر من ثلاثة نصوص، ربّما لأنّ المرآة تعكس صورتنا بوضوح؛ ولئن كان الظل يعكسها بغموض، إلّا أنّها أعطته الدور الأوّل في كشف الكثير من الحقائق المخفيّة، وجعله المحرّك الأساس لكلّ ما يعتمل في النفس البشريّة، وقد استطاعت في عدد من النصوص جمع الظلال من أماكن مختلفة وأحداث غير متقاربة، أكان من حيث المكان أو الزمان (كما في أقصوصة "اختيال") ومزج الواقعيّ بالمتخيَّل بحيث يشكّلان معًا واقعًا جديدًا... أمّا المرأة فجاء حضورها كاشفًا لواقعها الأليم، لا سيّما داخل السجون، كما في"قضبان للصدفة" ص 29: "لقد جلبَت العار للعائلة بدخولها السجن ولو على سبيل الخطأ"؛ واستغلال جهات عديدة لهذا الأمر وقد تجرّدوا من الحسّ الإنسانيّ وتحوّلوا إلى وحوش كاسرة. كلّها أقاصيص تعكس الجهل السائد في العديد من مجتمعات بلدان العالم الثالث، بحيث لا نرى أيّ اختلاف في طرقه وأساليبه بين بلد وآخر، حتّى أنّ المرأة في مواضع عديدة تكون العدوّ الأوّل والأكبر لبنات جنسها: "فما أقسى المرأة على المرأة حين تتلاشى العاطفة من قلبها..." (ص 35)
في "رقّ"، حاولت الكاتبة أن تشفي غليل الكثير من المستعبدين من أسيادهم، مازجة بين الواقع المعاش بكلّ مرارته، والخيال المجنّح البعيد عن هذا الواقع. وفي "الأقل حظًّا"، ترافق القتلى حتّى ما بعد الموت، إذ تنهضهم من جديد ليأخذوا بثأرهم ممّن قتلهم أو استبدّ بهم، وإن بأسلوب قد يبدو طفوليًّا.
"ماريونيت" (ص 47) أقصوصة تقارب في تصويرها لأحداثها واقعَ الحال أو الإخراج المشهدي للنصّ الأوّل "لوسيفر"، فتنجح في وضعها ضمن إطار سرياليّ يصوّر فظاعة الواقع وما يمكن أن ينتج عنه من رعب لا فكاك لها منه حتى بعد انعدامه. لكأنّها تصوّر الشخصيّةَ الرئيسة في القصّتين أسيرةَ ما ارتكبته يداها، تتكبّد عناء القصاص الأزليّ جرّاء ما اقترفته، وكأنّها تكتوي في جهنّم أفعالها الشريرة، ولا تُحسن الخروج من دوّامتها؛ ولعلّ اللّافت في القصّتين – كما في العديد غيرهما من أقاصيص هذا الكتاب - أنّها بنتهما مستندة إلى وقائع تاريخيّة لحوادث بقيت تفاصيلها في الذاكرة العامّة، بسبب أهمّيّتها، أو بالأحرى فظاعتها، ومخالفتها للمتعارف عليه والمألوف. وقد استعانت مرارًا بالهامش لتشير إلى مصادرها المستندة إلى أحداث تاريخيّة حقيقيّة ومثبتة، وكأنّها تقدّم لنا لائحة بالمواد الأساسيّة التي اعتمدتها لتحضّر لنا هذا الطبق القصصيّ المميّز.
في "القونة" (ص 55) وصف دقيق يتخطّى الظاهر المشهديّ إلى الباطن النفسيّ للأشخاص الذين يتحرّكون فيها. تتقن نقل التفاصيل الدقيقة والمشاعر المخبوءة: "فهل يسعنا مركب واحد...؟" حتى لَتشعرك أنّها كانت ضمن هذه المجموعة من المهاجرين سرًّا بطريقة مخالفة للقانون. ونلاحظ أنّها خصّصت أكثر من قصّة لنقل واقع المهاجرين بالطرق غير القانونيّة، وتصوير ما يتكبّدونه من خطر ورعب في سبيل ذلك، وهي تحاول أن تنقل للقارئ مدى البؤس الذي يعيشه هؤلاء، حتّى أنّهم قبلوا احتمال كلّ تلك المشقّات للخروج من عالمهم ومعاناتهم التي تفوق احتمالهم. وقد استعانت خلال سردها بصور فنّيّة متقنة، كما في قولها: "لا طعم للحياة إن لم يخالطها مذاق الخطر..." (ص 57) جامعة بين الأضداد (الحياة – الخطر) ومراعية النظير (طعم – مذاق)، فالخطر الذي يهدّد الحياة، وهو ضدّها، يصبح من مطيّباتها التي تمنحها المذاق الحسن! ما يضيف إلى الصورة جمالا يرفع من قيمة السرد ويمتع القارئ.
في "البرزخ" استحضرَت الآلهة (مردوخ – إله العواصف الذي قتل تِيامات، وتيامات – إلهة البحر والمحيطات في بلاد ما بين النهرين) مستعينةً بالهوامش كالعادة لتوضح للقارئ ما قد يفوته أو يغلق عليه من كلمات أو معانٍ، وقد تحوّل مصير الركّاب في اليمّ إلى حدث أسطوريّ كارثيّ، والمشهد إلى لوحة يهيمن عليها الأزرق بدوّامته التي تلتهم جثث الغرقى بنهم وبلا رحمة: "يبتلعهم البحر بفمه الكبير ويدفعهم إلى عمق أحشائه" (ص 61)؛ لتأتي بعدها "تيامات" فتبثّ الحياة من جديد في من لا تزال روحه تصارع للبقاء، إلّا أنّها تصبح بدورها ضحيّة "مردوك" الذي يذبحها وينثر دماءها في الأرجاء، لتتالى "مواكب الموت والبكاء في كلّ أرجاء البلاد..." (ص 62) وبذلك يتحوّل الحدث مع الكاتبة إلى أسطورة تمتدّ عبر الأجيال، ولا شيء يوقف شرورها...
نلاحظ أنّ جوًّا من القلق والرعب يهيمن على الأقاصيص، فأبطالها كلّهم مأزومون نفسيًّا، ينوؤون تحت ثقل واقعهم المزري؛ كأنّ القصص جميعها تعود إلى حقبة تاريخيّة ترزح تحت وطأة الحرب، وأجواء الغموض والموت، والسحر الأسود، والمشاهد المبهمة لصور تطغى عليها التشوّهات والدماء والهواجس، تجسّد من خلالها مأساويّة حياة شريحة كبيرة من البشر، ترسمها مغرقة في السوداويّة، وتحوّلها إلى مشهديّة سينمائيّة يهيمن رعبها بضخامته على عقل المشاهد /القارئ/ المتخيِّل، لترسِّخ في ذهنه عِظَم المأساة وفداحتها. لعلّها أرادت أن تكون الصوت الصارخ لتلك الفئة المهمّشة، مرتدية زيّهم، مجسّدة في كلّ مرّة شخصيّة واحد منهم، لتنقل المعاناة من داخله، فتبدو أكثر صدقًا وواقعيّة: "فحّت العجوز أتروبوس وفي لحظة تحوّلت إلى أفعى رقطاء... ترصّدته العيون ولمع المقصّ أكثر، لقد أعجبها صمته، إنّه صوت الموت، قريبًا تقطع خيط حياته وتتلذّذ بطعم روحه الطازج". (ص 65) وتتابع في وصف تبهرك تفاصيله إذ يعكس صورة المريض وهو أسير الآلام والكوابيس التي تتحوّل إلى ساحرة تلفّه بشعوذاتها وحبائلها وتحرّكه وفق مزاجها، وهي تزمجر ضاحكة مستمتعة بعذابه...
إلى هذا الحدّ بدا الشرّ منتصرًا في أقاصيص عواطف محجوب. هل أرادت أن تُظهر مدى فظاعته لتحذِّر المتسلّطين من المصير الذي ينتظر الأرض جرّاءَ شرورهم؟ أم أنّها تحاول أن تنقل صرخة المعذّبين عالية علّها تصل إلى أقاصي الأرض فينصفهم أخوانهم في الإنسانيّة؟! ومع أنّ اسم "نضال" في إحدى الأقاصيص التي تأخذ هذا الطابع، يعود لكاتب انتحر - كما تشير في الهامش (ص 65) - حيث استوحت منه الأقصوصة بتصرّف وحِرَفيّة، إلّا أن هذا الاسم يختصر واقع كلّ مناضل في عالمنا، وما يحيط بحياته من خطر، وما ينتظره من عذاب فاضمحلال وموت، لأنّ صوت صراخه سيجد دومًا من يكتمه، ويخنق لديه الأمل بحياة حرّة.
هي قصص مؤلمة من واقع الحياة، تخلق منها سرديّاتها، حيث يولّد فيها الواقع المأساوي صدمة تجعلها تستعيد سِيَر الآلهة التي مرّت على الأرض، والتي يُفترض أنّنا تخطَّيْنا عهودها، ودخلنا عصرًا حديثًا نورانيًّا، يتمتّع فيه الإنسان بالمعرفة والوعي والحضارة؛ إلّا أنّ الواقع يُظهر عكس ما ترجوه، فيُنهض آلهة الماضي السحيق من رقادهم، مؤكّدًا أنّهم ما زالوا يسيطرون على عالمنا، أو أنّ عالمنا لم يتخطّاهم، بل ما زال خاضعًا لسلطانهم وهيمنتهم عليه، كما في "بورفيريا" (ص 88) حيث تتقن عواطف محجوب تجسيد واقع المريض بمشهديّة رائعة، تشعرك أنّك تشاهد فيلمًا مصوّرًا، إذ تتقن رسم كلّ تفصيل فيه، ونقله إلى المشاهد/ القارئ الذي يحاول حلّ اللّغز وقد سحرته الأجواء الغامضة المحيطة التي تولّد لديه الكثير من التساؤلات.
وفي "اختيال"، نقع ما بين الواقع والخيال على لوحة جمعت الفظائع التي ارتُكبت في حقّ أبرياء، وكأنّها تؤرّخ مصيرهم، ليبقى تاريخهم شاهدًا على فظاعة البشر ورعونتهم، مؤكّدة من جديد من خلال استحضار أسماء الجنّ، حضورَهم الفاعل على هذه الأرض حتّى زمننا، بحيث يتلبّسون البشر لينكّلوا بالأبرياء ويعلنوا انتصارهم وسيطرتهم على الأرض. (ص 94)
في "لعبة الظل" الصادر عن دار مومنت، 2021، تكشف عواطف محجوب دور الظلّ الطاغي والمتحكّم بحياة البشر، يحرّكها وفق أهوائه، لأهدافه وأغراضه غير النبيلة، الممعنة في الشرّ والقتل والسوداويّة، بحيث تتغلّب الظلامّية في البشر على النور، محوّلة العالم إلى بؤرة للفساد والإجرام والموت! فهل يُسعفها خيالها المبدع لخلق عالم آخر في كتاب آخر يجسّد الخير وينضح بالأمل بحيث يعكس وجه الحياة الجميل؟