يوسف طراد
ترد في الشعر والأدب العربي عدّة أشربة، أهمها اللّبن، والخمر، والقهوة موضوع هذا المقال.
الأصل اللغويّ لكلمة القهوة مشتّق من الفعل "قَها"، وتُخبرنا عدّة معاجم بأنّ الفعل "أقهى"، يعني دام على شرب القهوة.
بالرغم من أنّ شجرة القهوة تنمو في أكثر من سبعين بلدًا، إلّا أنّه يُرّجح عودة أصلها إلى منطقتين أساسيتين هما أثيوبيا واليمن. فبعض المؤرّخين اعتقدوا أنّ أجداد قبيلة "الأورومو" الأثيوبيّة، هم أوّل من اكتشف وتعرّف على الأثر المنشّط لثمار نبات القهوة. واعتقد آخرون، بأنّ شجرة البن قد عُرفت في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، في الأديرة الصوفيّة في اليمن، جنوب شبه الجزيرة العربيّة. فالجمهوريّة اليمنيّة، هي من أوائل الدول التّي زرعت البن من أجل التصدير. فالقهوة العربيّة مصدرها اليمن، بدليلٍ أنّ أفخر أنواع القهوة، والتّي تُدعى "موكا" هي تحريف لعبارة "قهوة المخاء" نسبة إلى الميناء اليمنيّ (المخا) الذّي يٌصدّر منه البن. ويُقال إنّ أوّل من نقلها من الحبشة، إلى موطنها الأوّل عدن في شبه الجزيرة العربيّة، رجل دين من آل الذبحاني، في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. وقد انتشرت في مجالس الطبقات العليا للمجتمع، ومن بعدها انتشرت بين العامة، حيث أصبح شربها عادة اجتماعيّة يوميّة، لفوائدها العديدة من ناحية تحسين المزاج ومعافاة شاربها من الوهن والإجهاد.
تختلف كلمة القهوة في بنية حروفها ولفظها باختلاف اللهجات العربيّة، مثلًا في السودان يُقال لها "الجَبَنَة"، وفي العراق "كهوة". وقد سبّب شربها إشكاليّة كبيرة في عدّة مدن عربيّة، فقد ورد في كتاب "عمدة الصفوة في حل القهوة" للشيخ عبد القادر بن محمد الأنصاري الجزيري الحنبلي، ( طُبع هذا الكتاب في العام 1806م ضمن كتاب المستشرق "سلفستري دي ساسي"، "الأنيس المفيد للطالب المستفيد"، وقد ظهر في حلة جديدة على يد عبد الله بن محمد علي الحبشي ضمن منشورات المجمع الثقافي في أبو ظبي عام 1996) انّ القهوة كانت في يومٍ من الأيام مسألة خلافيّة عند العلماء والعرب، وقد سبّبت فتنًا في عدّة مناطق عربيّة، وقد جاء في الكتاب أنّ بعض الأمراء أمر بهدم المقاهي، وتكسير أواني الشّرب، وإتلاف حبوب البن ومعاقبة من يشرب القهوة؛ وفي المقابل ورد أيضًا في الكتاب بعض الشعر بمدح فوائد القهوة:
"يا قهوة تذهب هم الفتى / أنت لحاوي العلم نعم المراد
شراب أهل الله فيها الشفا / لطالب الحكمة بين العباد
نطبخها قشرًا فتأتي لنا / في نكهة المسك ولون المراد"
تختلف طرق تحضير القهوة باختلف مواقع البلدان وبُعدها عن شبه الجزيرة العربيّة، وتتشابه هذه الطرق إلى حدٍ ما في الدول التّي تنتشر في شبه هذه الجزيرة. فالقهوة السعودية الشقراء، كي يصبح مذاقها لذيذًا كما اعتاد عليه سكان المملكة، يجب تحضيرها من أجود أنواع البن ومنها البن "الهرري" وهو نوع من أنواع البن الأثيوبيّ، يزرع في ولاية هرار، ويعدّ من أشهر أنواع البن وأكثرها استهلاكًا في دول الخليج العربيّ. والبن اللّقمي والّذي يُزرع في بلدان عديدة من القارة السوداء، ويمتاز بمذاقه اللاذع ورائحته القوية. وتعود درجة تحميص حبوب البن وشدة لونه لذوق صاحب المجلس، كما يُضاف إليها بعد طحنها "خلطة القصيم" والتّي تحتوي على الزعفران والحبهان والقرنفل والزنجبيل والشعير. وهذه الخلطة تُستعمل في معظم دول الخليج العربي، مع تغيير بسيط في مكوناتها حسب كلّ دولة.
إنّ لون القهوة العربيّة، يزداد سوادًا كلمّا اتّجهنا من جنوب شبه الجزيرة العربيّة إلى بلاد الشام، وصولًا إلى أوروبا. فاللون الأصفر الفاتح يطغى على قهوة أهل الجنوب، واللون البنيّ هو لون قهوة قبائل وسط شبه الجزيرة كقبائل نجد، أمّا اللّون الأسمر الداكن فهو لون قهوة أهل الشمال، إلى أن نصل إلى الشرق الأوسط، والّذي تنتشر فيه صناعة وتحضير القهوة على الطريقة التركيّة.
لآداب شرب القهوة في مختلف أنحاء شبه جزيرة العرب طقوسٌ تكاد تكون موحدّة على جغرافيّة شبه الجزيرة. قديمًا كان صاحب المجلس هو من يقوم بتقديمها، إلّا إذا كان أمير عشيرة أو من الأغنياء أو الحكّام. لكن بعد كثرة الخير أصبح لمعظم السكّان الميسورين من يقوم بهذا الأمر. والّذي يتقن تقديم القهوة ويعمل في المجالس بصورة دائمة لهذه الغاية يُدعى "المقهوي". وللمقهوي الناجح شروطٌ عديدة يجب أن تنطبق عليه وعلى عمله، لأنّه يعكس بتصرفاته ونباهته وأدبه وإدراكه وحسن تصرّفه ذوق صاحب المتّكأ وكرمه.
ومن أهم الشّروط التّي تنطبق على المقهوي البارع، أن يكون دقيقًا في عمله من ناحية مواقيت التقديم، نظيف الجسم والثياب، حسن المظهر، ذا إلمام ومعرفة بعادات تقديم القهوة العربيّة، كما يجب عليه أن يتقن تفسير شيفرة لغة تحريك الفناجين في يد الضيوف لناحية طلبهم القهوة مجددًا أو عدولهم عن شربها. كما يجب على المقهوي أن يكون على دراية تامّة بالأصناف التّي تُقدّم قبل تقديم القهوة كالتمر، وطريقة تقديمها.
لا تتمّ طقوس شرب القهوة العربيّة، في المجالس المخصّصة لها، والتّي تُدعى "الديوانيّة" أو "الشبّة"، إلّا إذا كانت مصنوعة بأدوات خاصّة. تتنوّع هذه الأدوات، باختلاف المراحل التّي تمرّ بها حبّة البن، من منبت شجرتها إلى فنجانٍ بين أصابع ضيف.
في الحقول تغاوت شجرات البن، وانحنت أغصانها المُثقلة بالحبوب الخضراء، منتظرة أنامل الفتيات لتلامسها وتنتقي حبوبها اليافعة. فيا سعد الحبّة التّي تنزل في حضن مريول فتاة مغناج، أو في سلٍ على ظهر فلّاح. إنّه سعد بعد شقاء. لأنّها ستتلقى حرارة من نارٍخفيّة تحت "التاوه" أي "المحماس" الحديديّ، جاهلة أن حرارة المرجل، ليست برحمة أشعّة الشمس في قيظ الهاجرة. فيتغيّر لونها ولون أترابها، لأن "المخباط" يعمل سحرًا بخفّة ومهارة، يدغدغ الحبوب تقليبًا ببراعة، ويصبح لون خليط الحبوب بسمرة لون صبايا التقتطها حبّة حبّة. وتفوح رائحة البن المحمّص في الأجواء، كأنّها تقول: من الحقول إلى المضارب، فأين أنت أيّها الضيف العزيز؟
لا تظنن أنّ العمل قد انتهى عند رفع المحماس عن النار، ف"المنحاز" أو الهاون بانتظار حبوب شقراء أو بنيّة متجانسة اللّون، لا حجّة لإحداها أن تتغاوى على رفيقة لها لونًا أو قدًا. حبوب مستعجلة للقاء مدقّة جاهلة مصيرها. فتُسحق وتُدقّ حتى تنعم، فالمدقّة اعتادت على سواعد مفتولة تصعد وتهبط وتتمايل بها بطريقة إيقاعيّة جميلة، تترافق مع أغاني وأهازيج فرحٍ بدويّة، صادحة من أجواء واحات، متهادية مع كثبان رمال الصحاري، علّه يتلقّفها صِوان أذن ضال في وهاد متمادية.
هل ذابت روح شاب جميل مع السكّر في القهوة، والتمعت في فضاء الفنجان مع حوريّة، أم أنّه كلام العرّافة التي جعلت اللّحظات تتراءى بين شال حرير ورموش ناعسة؟ فإن كنت ملكًا ترتشف القهوة في أبهى المجالس، أو متسولًا ترتشفها على قارعة الطريق، فستنتظر رجاء الدروب، ولقاء الحبيب في ابتهالات النجوم والمنجّمين.
ومع أنّ جميع الفناجين يُصبّ فيها نفس القهوة، إلّا أنّها تختلف في الصُوَر التي يرسمها تفلها على استدارة جدارية كلّ الفنجان. وما زال كلام "قارئة الفنجان" للشاعر نزار قبّاني بصوت العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، يتردد على ألسنة محبي الطرب الأصيل إلى يومنا هذا: "... بصّرت ونجمّت كثيرًا/ لكني لم أقرأ أبدًا فنجانًا يشبه فنجانك".
إذا استثنيا القهوة التّي تحضّر بطريقة غير تقليديّة، والتّي تسجّل أغلى سعر في العالم ، ومنها التّي تُجمع من براز الحيوانات كقهوة "كوبي لواك"، حيث يتمّ معالجة حبوبها بعد جمعها من فضلات "قط زبّاد النخيل الآسيوي" في موطنها في الشرق الأقصى، وقهوة "العاج الأسود" التي تختمر حبوبها في أمعاء الفيل، وموطنها قارة أفريقيا، يُسجّل أعلى سعر لفنجان قهوة يُحضّر بالطريقة التقليديّة في قطر، حيث أنّ السعر الوسطي للفنجان الواحد تخطى رقمًا قياسيًا، وتأتي قطر على رأس 4 دول في الشرق الأوسط، هي الكويت ولبنان، والإمارات والسعوديّة بين أغلى 10 أماكن في العالم لتناول القهوة.
المجتمع تعبيرٌ عن كينونية عادات وتقاليد تقارب أصالة الإنسان، بحيث أنّ المجتمع البدويّ هو تعبير عن فكرة الأصالة في الانتظام الحضاري الذي شكّل التطوّر و النمو في الخليج العربيّ على الصعد كافّة. وقد خرجت التقاليد من إطار محليّتها إلى طرائق الحداثة، عبر سيرورة متكاملة من الإدراك، لأنّها استندت إلى خصال حميدة كحسن الضيافة والكرم اللذين اشتهر بهما العرب. فخلافًا للحداثة العالميّة المزيّفة التّي تلهث وراء المال، فقد بقيت الحداثة العربيّة الاجتماعيّة والثقافيّة تدير وجهها إلى الأصالة المجتمعيّة، فكل ما يقال عن ارتفاع سعر فنجان القهوة في بعض الدول العربيّة، ليس إلّا نظرة إلى القشور، وهذه النظرة تتعلق بالحياة في عواصم الدول العربية وحسن سير العمل فيها كالدوحة عاصمة قطر التّي استضافت أهم المهرجانات الرياضية. فسعر فنجان القهوة في مقاهي الدوحة مرتفع كثيرًا بالنسبة إلى باقي البلدان غير النفطيّة، بسبب ارتفاع دخل الفرد فيها الذي هو الأعلى عالميًا. لكن في المنازل ومكاتب رجال الأعمال تبقى القهوة رمزًا للضيافة، وتبقى طقوس تقديمها تنمّ عن احترام الضيف وتقديره، وهذه هي النظرة الصائبة إلى لبّ الموضوع. لذلك أدرجت منظّمة اليونيسكو القهوة العربيّة، ضمن لأئحة التراث الثقافي غير الماديّ، وذلك خلال الاجتماع العاشر لها الذي أقيم في مدينة وندهوك عاصمة نامبيا عام 2015 بحضور ممثلين عن 175 دولة.