النهار

قراءةٌ في لوحة لالا للدكتور الفنّان شوقي دلال
المصدر: "النهار"
قراءةٌ في لوحة لالا للدكتور الفنّان شوقي دلال
لوحة لالا للدكتور الفنّان شوقي دلال.
A+   A-
الدكتور إبراهيم حلواني

لوحة شوقي دلال لبلدة لالا
حين تنطق البساطة ببلاغة نادرة

بِقاعٌ وبِقاعٌ... وتاريخ
لوحة لالا تعرض الكثير لمن ينظر، وتروي حكايا لمن يُنصت.
عندما تكفي كلماتٌ موجزة، فاعلمْ أنّ المتحدث ذو بلاغة وبيان.
وعندما تكفي لمساتٌ قليلة، فاعلمْ أنّ الرسّام مبدعٌ وخبيرٌ وفنّان.

خطفتْ عينيّ وخفقَ لها قلبي من النظرة الأولى.
ما أن تلفتني لوحةٌ بشكل مؤثّر حتى أراني أغوصُ في حناياها، وبين خطوطها، وخلف ظلالها، مستنبشًا وجوه الجمال فيها، باحثًا عن مكامن الإبداع وأسرار السحر. لا أفعل ذلك من وجهة فلسفية أو عبر خطرات روحية، بل أستعين بكلّ ما خبرتُه في مجالات الفنّ والعلم والحياة.
للوهلة الأولى، هي لوحة جميلة ولكنّها مختلفة، ولكنها بسيطة، ولكنها غنية، ولكنها تنطق ببلاغة نادرة... وعلى جميع المقالب أراها ساحرة.

عن قرية لالا
لالا قرية لبنانية تبعد كيلومترات قليلة عن بحيرة القرعون، وتنبسط على سفح جبل العربي في الجهة الغربية من السلسلة الشرقية.
من بيروت، تسلك بك الطريق سبعين كيلومترًا حتى تصل إليها، ولكنّ المسافة المباشرة بينهما حوالي 36 كلم.
هي مصيفٌ جميل ممتع، إذ تعلو ألفًا ومئة متر عن سطح البحر مطلّة على شطرٍ واسع من سهل البقاع.
هي منطقة زراعية لقربها من نهر الليطاني، وتشتهر بزراعة أفضل أنواع الحبوب مثل العدس والحمص، وتكثر فيها أشجار اللوز والجوز والتين وكروم العنب.
تُعتبر بلدة أثرية، وفيها عدة قلاع وكهوف حفرت في الصخر، ما يدل على أن الإنسان سكنها منذ زمن بعيد.

قوة الإيحاء
تجاوز الفنان الدقة في الرسم إلى قوة الإيحاء. فما حاجته إلى التفصيل إذا استطاع إيصال الرسالة عبر جمل بليغة موجزة؟
يصوّر الدكتور شوقي بلدة لالا، بطبيعتها وأبنيتها، بريشة بسيطة وذكية في آن. هو لا يريد أن يشغلك بدقائق الأمور من حشائش وشجيرات وأزقة، أو بشر راكبين أو راجلين، أو سوق صاخبة، أو أسلاك ممتدة. يريدك أن تلحظ معه ما يراه من بيتِ قرية، ونافذةٍ تقبع خلفها الحياة، وقنطرة تشهد على أمسيات وبسمات وقهقهات... كلّ ذلك دون أن يتحدّث كثيرًا.
يعلم الفنان، وهو ابن بلدة راشيا التي تبعد عن لالا بضعة عشر كيلومترًا، يعلم أنّ النوافذ في البيوت القديمة كانت صغيرة اتّقاءً للبرد، وأنّ القناطر كانت تُعتمد لضروراتٍ بنائيّة وجماليّة وتراثيّة، فقصد إلى إظهار ذلك بأسلوبه الواثق، بلطخات بسيطة مدروسة.

التاريخ هنا
لعلك تتساءل عزيزي المتابع عن تلك النوافذ الأشباح التي لا بيوت لها، في أسفل اللوحة، كأنها حُفَرٌ في صخر أو في صفوان.
في الواقع هي كذلك، هي حفر في الصخر وفي جوانب المنزلقات، فقد اشتهرت البلدة بوجود الكهوف والحفر الصخرية، ويعتقد أهل التاريخ أنّ الإنسان استوطن هذه المناطق منذ القدم.
وإن كنتَ قد اطلعت مثلي على أخبار موقع كامد اللوز الذي يبعد كيلومترات قليلة، ستتذكر أن المنطقة لها أهميتها البالغة عند الآثاريّين، إذ يعتقدون أن الموقع كان موئِلًا لجماعات متعاقبة من البشر، منذ أكثر من ستة آلاف سنة.
إذن، كما أرى في المشهد، يصرّ الدكتور دلال على إبراز هذه الحقيقة. وإنّي لأرى أنّه جعل ذلك من أولوياته إذ رسم الكهوف والحفر في صدر اللوحة، على مقربة منك، كمثل بائعٍ يلفتك إلى المميّز من فاكهته.
اللون موسيقى العين
قد تجعلك الموسيقى تتمايل برأسك أو بجسدك، وقد تحلّق بك إلى سماء أحلامك، وقد تأخذك في غمرة نشوة لا تدرك سرّها... فكذلك الألوان إذا بسطتها يدُ فنان ذكي، تخاطب منك الروح وتوقظ الوجدان وتتناغم على شغاف قلبك... وقد تتساءل، كما تساءلتُ أنا، لمَ هي جميلة؟
في النصف الأعلى من اللوحة، وزّع الدكتور شوقي الألوان بُقَعًا: بقعًا فاتحة على شبه بياض، تعكسُ إليك أشعة نورٍ كما تفعل حجارة البيوت الصخرية البيضاء المنتشرة في البلدة. وبقعًا تائهة بين برتقالي وتُربِيّ وبُنّيّ، وبعض الظلال وشبه نقاطٍ قاتمة تعبّر عن النوافذ والقناطر.
ضرب الأستاذ دلال بعض الأخضر الساحر في بعض الشعاب، وجعل السماء من لون قريب. إنه اختيار دقيق وناجح.
لا جَدلَ أنّ الألوان المختارة وطريقة توزيعها كانت مما شدّ نظري إلى اللوحة قبل أن أخوض في تفاصيلها.

بقاع البقاع... وبقاع دلال
أحدُ مكامن الإبداع في ما أراه أن الفنان وزع البقع وخالط بينها، فجاءت عن قصد كفسيفساء غير منتظمة. فمن وجوه البلاغة في التعبير ذلك التباين القويّ بين الألوان، كأنه صوت ماسي مخمليّ في آنٍ معًا يغني على طبقاتٍ صوتية مختلفة... أمر لا يجيده إلّا قلّة.
المشهد الفسيفسائي يذكرني بقوة بالفسيفساء الملونة في سهل البقاع... هل تُراه أمر مقصود؟
في علم النفس، أنت تحمل ذكريات وانطباعات وآثارًا كثيرة مما عركتك به الأيام، بِشْرًا وحبورًا أو ألمًا وكروبًا. وبعض تلك الصهارة لا بد أن تجد لها منفسًا إلى العلن كلما تيسّر لها ظرفٌ مناسب، هكذا يقولون.
يبدو أن بقاع السهل ترتاح في ذاكرة الفنان على بساطٍ من الدفء والمحبة، وقد عبَرَتْ من هناك إلى بساطِ اللوحةِ هنا، حيث تنظر.

ترك أستاذنا النصف الأسفل من لوحته لمنحدر تحت كتف الهضبة، حيث يلفتك إلى الكهوف والمغاور. ولكنه قصد بشكل لافت إلى لعبة التباين، كأنّ البلدة تتلألأ تحت أشعة الشمس وتنعم بدفئها، وأنت تنعم في الظل بالنسمات المنعشة.

الرسم بالألوان المائية
اختار الدكتور شوقي الألوان المائية لرسم اللوحة، وأنا أعتقد أنها من أصعب طرق الرسم. ففي أحيان كثيرة لا يمكن
للراسم بألوان الماء أن يتحكم بأثر ريشته، ولا أن يسيطر على مسلكها بسبب طبيعة المادة السائلة، كما أنّ تصحيح الأخطاء وتعديل العبارات أمر صعب قد يدفع بالرسام إلى تغيير اللوحة برمتها والبدء من جديد.
ولكن للرسم المائي جماله الخاص ورونقه اللافت.
الدكتور شوقي أستاذ وخبير في هذا المضمار، ذلك ما خرجت به من خلال متابعتي للوحاته. لعلك تشعر معي أنه غير متكلف في رسمه، وأنّ يده تنساب برقة وطلاقة دون تردد... إنه يعرف ماذا يريد ومن أين يبدأ وإلى أين يريد أن يصل.
وما ذلك إلا خبير واثق من أنامله، وذو رؤية بعيدة.

هل هي لوحة تجريدية؟
في الرسم التقليدي والطبيعي يجتهد الرسام في نقل خطوط المشهد وألوانه كما هي، وقد يتصرف بذلك قليلًا لحاجات ونزعات شخصية، ولكنه يبقى أمينًا لمجمل الموضوع.
في الرسم التجريدي يتخلى الرسام عن تلك القيود بشكل كامل، في أكثر الأحيان، ويركز في التعبير عمّا يختاره من المشهد، أو عمّا يختلج في صدره، بأسلوبه وطريقة اختياره للألوان والأشكال. أصحاب اللوحات التجريدية يتركون لك أن تقرأ اللوحة وتؤوّلها بحسب ما تُلهمك نفسُك أو يقع في خاطرك.
في الرسم التجريدي الأشكال وتركيبها، أو الألوان وتوزيعها، أو الكلّ معا، هي بيت القصيد بالنسبة للمؤلف أو القارئ على حدّ سواء.
قَطعًا لا يمكنني اعتبار لوحة لالا في جملة اللوحات التجريدية، ولكنها تقترب من تلك الجملة من أكثر من ناحية، وأحسب أن ذلك من الأسباب التي جعلها تقع في قلبي.

من حق الدكتور شوقي دلال علينا أن نعترف له بجهده الدؤوب وعمله الرائد في نشر ثقافة ممتعة، فنية وغير فنية، ولكنها غنية وهادفة، تخدم لبنان في مجالات شتى، كما تخدم المحيط العربي والإنسان إلى أيّ أرضٍ انتمى.

*باحث وأديب لبناني


 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium