يوسف طراد
اختارت ليليان قربان عقل، موضوع "لبنان الكبير في الصحافة المهجريّة 1908_ 1926" عنوانًا لأطروحة دكتوراه، وكانت خلاصتها في كتاب، صدر حديثًا ضمن منشورات "دار سائر المشرق". فجعلت القارئ يلمس مدى خطيئة النظام الحالي في عدم صوابيّة قرارات الأمس.
لا يستحوذ كلّ كتاب بحثيّ نقرأه، على هذا الكمّ من الإعجاب، لو لم يكن يطوي في حناياه الكثير من الأسرار التي جعلت لبنان يسير عكس الحداثة الديمقراطيّة.
كانت الصّحافة الورقيّة منارة الشّعوب، وتعبيرًا حيًّا عن المجتمع، بإرهاصاته وأبعاده الإجتماعيّة، والسياسيّة، والعقائديّة والحياتيّة. فقد لمسنا ضمن هذا البحث ميزات الصّحافة، المتمثّلة بالوسائل المؤثرة في بنيَة المجتمع، وتقرير مصير الشعوب، من خلال الحراك الفكريّ.
قدّمت لنا هذه الدراسة حقائق دامغة، تناولتها الصّحافة المهجريّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، مدوّنَة على صفحات صحيفتيّ: "الهدى" و"مرآة الغرب"، اللتان كانتا تصدران في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الوطن العربيّ عامة واللّبنانيّ خاصّة.
ارتقت الصحيفتان المذكورتان، إلى أبعاد راقيّة في مجال الوطنيّة، قبل الحرب الكونيّة الأولى، فقد عرضت الباحثة، فعل المعاندة الكتابيّة لكافة أشكال الاحتلال الواردة بهما، وقد كانتا على وفاق تام في الرؤية وسبل العلاج، بوجه ممارسات السلطة العثمانيّة المجحفة في حقّ السوريين واللّبنانيين. في وقت لم تتّضح فيه بعد، معالم الأوطان جغرافيًا أو ديمغرافيًا، وكان لبنان لا يزال يخضع لنظام المتصرّفيّة.
وفي المرحلة الحاسمة التي ظهرت فيها بوادر ولادة لبنان الكبير، اختلفت الصحيفتان في مقاربتهما للقضايا الوطنيّة، وقد ظهر هذا جليًّا، خلال عرض الباحثة للخطابات الواردة في هاتين الصحيفتين، عند انعقاد مؤتمر الصلح في باريس، وإعلان دولة لبنان الكبير والدستور اللّبناني.
سلّطت الباحثة الضوء على مسؤوليّة الصحافة في نقل الواقع، وخاصة في المراحل المصيريّة من عمر الأوطان: "بعد أن كانت الصحافة المهجريّة صحافة أدبيّة تهتم بنشر الإبداعات الفنيّة من شعر وروايات... بدأت الصحافة بنوعيها المقيم والمنتشر تتّجه لأن تصبح صحافة قضايا تواكب مشاكل العصر وتعايش التطوّرات والتحوّلات السياسيّة" (صفحة 20). وعرضت الجهود التي بذلتها هاتان الصحيفتان، في معارضة الاحتلال العثماني، كونه لم يكن هناك وفد رسمي إلى المؤتمر العربي الأوّل الّذي عقد في باريس سنة 1913، والّذي شارك فيه نجيب دياب صاحب صحيفة "مرآة الغرب"، ونعّوم مكرزل صاحب جريدة "الهدى". وكان تطابق في وجهتي نظر الجريدتين لناحيّة زوال الاحتلال العثماني عن الوطن العربي: "طالب هذا المؤتمر باللامركزيّة التي تعتبر أول خطوة نحو الاستقلال الذي يبدأ بالمطالبة بالإصلاح..." (نقلًا عن صحيفة الهدى، العدد 1710، الوارد في الصفحة 121 من الكتاب).
أمّا عن مؤتمر الصّلح الّذي عقده الحلفاء في باريس، في 18 كانون الأوّل سنة 1919، فقد ظهر التباين في مقاربتهما القضايا الوطنيّة في الصحيفتين بين الفكر اللّبناني الذّي روّجت له صحيفة "الهدى"، والفكر العروبي الذّي روّجت له صحيفة "مرآة الغرب". أمّا عن إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920، وعن صياغة الدستور اللّبناني سنة 1926، فقد ظهرت وجهات النظر المتباعدة جليًة على صفحات الجريدتيّن، وقد عرضت الباحثة هذا الأمر بشكل دقيق، من خلال عرضها لمقالات متلاحقة لكلّ صحيفة، كما أظهرت اختلاف وجهات النظر فيما بينهما، بتقنيّة أكاديميّة عاليّة.
إنّ الاختلاف بين وجهتي نظر الصحيفتين، تمثّل في تقييم الجمهور المتلّقي، إذ كان يراه الصحفيان صاحبا الجريدتين، جمهورًا غافلًا عن المصير، يحتاج أن يؤخذ بيده أكثر، ليصل إلى وطن محرّر. فالصحيفة في أي زمان ومكان، يجب عليها أن تنزع عباءة السطوة التي تضعها على المتلّقي، وتنطلق من ذاتها وفكرتها، وأن لا تفرض على القارئ حتميّة القرارات. لذلك إنّ وجهة نظر الباحثة، هي رأي يلزم كلّ قارئ من خلال أمانة عرض الوقائع: "إنّ الاضطرابات التي سبقت ولادة لبنان الكبير وما تخلّلها من أحداث كبيرة ظهّرتها الصحيفتان اللتان اختلفتا في مقاربتها للقضايا الوطنيّة التي ارتبطت بالتحوّلات السياسيّة الدوليّة والإقليمّية والمحليّة، ظهر هذا في خطابهما خصوصًا عند انعقاد مؤتمر الصلح، فولادة لبنان الكبير وعند إعلان الدستور اللبناني" (صفحة 173).
ظهرت عدة مواقف للمؤتمرين إلى المؤتمرات في خلال البحث، بيّنت مواقف كانت وما تزال مجهولة عند اللّبنانيين، ومخالِفة لما يعتقدونه حتى اليوم، منها على سبيل المثال لا الحصر، موقف المندوب الفرنسي الواضح، واعتراضه على الدستور الطائفي الّذي روّج له المندوبون اللبنانيون إلى مؤتمر الصلح، والّذين كانوا يؤيّدون مواقف جريدة "الهدى"، ويقفون بقوّة في وجه التوجّه العربي لمواقف جريدة "مرآة الغرب": (وقد أيّد الطائفيّة النائب دموس ولكن المسيو سوشه عارض في ذلك مبيّنًا أنه لا يليق وضع الطائفيّة في القانون الأساسي ومما قاله:
"إني أعلم أن مسألة الطائفية موجودة عندكم وإذا كان لا بدّ منها فيجب أن لا توضع إلّا بصورة مؤقتة... ولذلك فلا يمكن للدولة المنتدبة أن توقّع إمضاءها على شيء من هذا القبيل لاسيّما وأن الدستور سيصدّق عليه في عصبة الأمم".
فأجاب صبحي حيدر:... وقد أظهرت البلاد أمانها بواسطة المستشارين الذين استفتتهم لجنة الدستور فكانت الأكثرية الساحقة من الأجوبة موافقة لطلب الطائفية.
فكرّر المسيو سوشه اعتراضه قائلًا- إن المادة الثامنة من صك الانتداب تنافي مبدأ الطائفية لأنها تنصّ أن لا فرق بين المذاهب والأديان.
وقد أيّد مبدأ الطائفية النائب عمر الداعوق مستشهدًا بوجودها بلبنان القديم ووافق عليها أيضًا النائب يوسف الزين.)، (مقتطف من المقال الوارد في العدد 308 ضمن صحيفة "مرآة الغرب"، والذي تحدّث عن توقيع الهدنة بين الثوّار، والفرنسيين، خلال صياغة الدستور اللّبناني، "صفحة 153").
إذا كانت معركة ميسلون التي أخذت حيّزًا كبيرًا من الكتاب، هي الحدّ الفاصل بين مرحلة الاحتلال العثماني، وتشرذم الوطن العربي بعد هذه المعركة. وقد ظهر هذا التشرذم، بفصل لبنان عن سوريا، وإعادة الأراضي المسلوخة عنه، وسلخ خليج الإسكندرون عن سوريا بموجب معاهدة سيفر سنة 1920، وصدور وعد بلفور المشؤوم وغيرها من الاستحقاقات المصيرية التي فُرضت في غياب الوعي العربي، بسبب الاحتلال العثماني، فما هو الحدث الفاصل الّذي سيحصل في الشرق الأوسط في ظل التشرذم الطائفي والمذهبي الحالي، وسيطرة تنظيمات حزبيّة مسلّحة على مساحات واسعة من الأراضي اللّبنانيّة والعربية، وخاصة أراضي على جانبي حدود دول عديدة؟ وهل أنّ الحاضر يظهر على مرآة الماضي؟.
كتبت ليليان قربان عقل، بروح تسمو إلى أبعاد الماضي، والحاضر والمستقبل، وكانت دراستها هذه، خميرة نضرة لكلّ دراسة مستقبليّة عن تلك المرحلة المصيريّة من ولادة لبنان الكبير، وعرضًا واقعيًّا اعتصر خمر عمر الوطن، في كأس الحاضر الأليم. وأغنت الفكر عبر توثيق الحقائق، وأنارت السبل الآيلة إلى معرفة الحاجات المعرفيّة التي هي الأسس، والمنطق لثورة الحداثة الصحافيّة السياسيّة الحديثة، إذا حصلت.