لقد جرى تكييفنا لنتقبّل هذا الوضع غير المرغوب فيه الذي قد يستمرّ إلى أجل غير مسمّى. والفنان البصري وليد الميس يقيم في بيروت المُضطربة. ولا بدّ من أن تولد بعض شرقطات من هذا الواقع (الأليم؟ المُقلق؟) وإن كان الفن اضطلع بدور محوري في تربيته، فإنه اختار العلم ليسلكه طريقه تماماً كوالده. حاز شهادة في الزراعة ودكتوراه في الطب البيطري. وبقيت عينه على عالم الخلق الذي يُقال إننا نشفى من خلاله، فلا نُجبر على تهذيب جنوننا وإنفعالاتنا الداخليّة، بل نستعين بإطلالتها البهيّة ليكون للخلق لغته الخاصة. ولأنه يُشكّك باستمرار في المفاهيم التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، كان خير لقاء.
وهو صغير، كانت مسألة عاديّة أن يجلس إلى جانب والدته الرسّامة، فيُقلّدها في تصوير عالم الخيال من خلال أشكال وألوان تُحاكي في الدرجة الأولى رواق "الولدنة" الذي سلكه بخطى ثابتة. وتكرّرت الجلسات بحيث أصبحت مُمارسة شبه يوميّة. وها هو الرسم ينصهر بيوميّات الولدنة.
في عام 2018 أثار حدث شخصيّ مُكثّف، عدم ثقته بالعديد من المؤسسات. اجتاحت العاصفة الشخصيّة التي زارته، كل شيء في طريقها، وبدأ في تلك اللحظة بحثه عن وسيلة جديدة للتعبير، وربما أيضاً وُلد في تلك اللحظة البحث الحقيقي عن رسالته المحوريّة في هذه "الحياة الدنيا".
اشترى عندئذٍ أول آلة تصوير Analogue خاصة به ولفافة فيلم لمُحاكاة عالم الرسم الذي نشأ فيه. ولكنه هذه المرة، راح يرسم هذا الاضطراب الشخصي الذي أيقظ الألم في روحه من خلال الضوء والعواطف والألوان والحركة.
شعر بأنه لا يملك الصبر الكافي الذي يحتاج إليه لينقل أحاسيسه من خلال الرسم. اعتقد بشكل ساذج بأن التصوير سيُسعفه في التعبير والشفاء بسرعة فائقة.
وسُرعان ما اكتشف أنه مُخطئ، وأن التصوير يحتاج إلى الصبر عينه الذي يحتاج إليه الرسّام ليروي حكاياته وتقلّبات الزمان عليه من خلال فرشاة الأسرار التي هي في الواقع فرشاة الرسم.
نلتقي في فُسحة Artlab القائمة في الجمّيزة حيث أقام أخيراً معرض Perpetuate بدعم من المجلس الثقافي البريطاني. فنجان قهوة "سادة" ودردشة طويلة.
يؤكد لي أن صوره تُجسّد آليّة الوعي. كل ما يجعلنا نتحرك ونشعر ونعيش وسيلة العيش هذه أو تلك. "في كثير من الأحيان، عندما أكون في الحاضر أرى بوضوح الماضي وكيف سيبدو مُستقبلي. صوري التي أعطيتها عنوان Perpetuate هي مُحاولة لسرد يُصوّر الوجود والغياب، والرؤية والاختفاء. إنها رحلة لا يكون فيها المرئيّ واضح الملامح، وهو بكل تأكيد لا يأتي على شكل خط مُستقيم، وحيث الأصوات لا تُريح، والروائح غير شائعة".
في المعرض ضوضاء موسيقية رافقت الصور، تضاف إليها رائحة مُسكّنة وُلدت بفضل سيرج يارد وليلى حلبي.
وأتى المعرض بفعل شراكة بين المجلس الثقافي البريطاني في لبنان وفُسحة "آرت لاب" لتزويد 22 فناناً ناشئاً بالقدرة اللازمة للمضيّ قدماً في حياتهم المهنية لضمان الاستدامة.
يتجسّد البرنامج في ورشة عمل مدّتها خمسة أيام وعشرة معارض تُقام تباعاً في ArtLab.
وهذه الصور، تضاف إليها الضوضاء الموسيقية والرائحة المُسكّنة، هي رحلة عاشها الشاب "لأعيد اكتشاف نفسي". والدته وجدّته ترسمان، "والدتي تعلّمت المهنة من والدتها". ووليد تعلّمها من الدته. ولكنه لم يعش الشغف الحقيقي مع الرسم ليطوّرها على الأصول.
"في عام 2018، شعرتُ بأن ثمة غلياناً داخلي يجب أن أرويه، ولكنني لا أستطيع أن أتحدث عنه. لم أملك الصبر آنذاك لأعبّر من خلال فرشاة الرسم. اعتقدتُ أن آلة التصوير ستكون الأقرب إلى الرسم كوسيلة تعبيريّة تُلامسني. واليوم أعترف بأنني لم أدرك كميّة الصبر الذي تحتاج إليه ليتمكّن المرء من أن يُتقن لغته المحكية".
مع آلة التصوير، راح يكتشف. آلة التصوير الأولى التي اقتناها، كانت عتيقة، ووجدها خلال أحد أسفاره. "السفر يجعلني أخزّن العديد من الصور في رأسي. ولكنني لا أحتفظ بذكريات مرئيّة عن كل ما أصادفه يومياً". ومن هذا المنطلق، هو لا يوثّق اللحظات، بل يعيشها، وأحياناً يستعين بها لدعم أي قصة يريد أن يرويها من خلال صوره.
وليد الميس يعيش في بيروت الجميلة والمُضطربة.
أسفاره عديدة. وآلة التصوير لا تُرافقه دائماً في مغامراته التي لا تتوقف. يُخزّن بعض ذكريات في مُخيّلته. والبعض الآخر ينتقل لاحقاً، عندما يحين الوقت لرمي الذكريات خارج حلبة الأحاسيس من آلة التصوير إلى العالم الخارجي. لا يُريد أن يوثّق. أو أن يفهم. أحياناً، جلّ ما يُريده أن يُعبّر عن هذا الغليان الذي يعيشه داخلياً.