النهار

عندما قررت نيويورك أن تلتفت إلى عاشقها الإسكندراني المُذهل بعد 40 عاماً!
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
عندما قررت نيويورك أن تلتفت إلى عاشقها الإسكندراني المُذهل بعد 40 عاماً!
الرسام المصري أحمد مرسي.
A+   A-
المسألة أشبه بالدُعاء. عندما تأتيه الكلمات، يكتب. وعندما تأتيه الصور، يرسم. لا يبذل هذا الانطوائي المُذهل أيّ مجهود لخلق أعماله المسكونة ببساتين العقل الباطني، وبالأساطير المصريّة التي قد تعكس ومضات هاربة من الواقع، ولكنها لا تُقلق نفسها بالانتماء إليه. واليوم، هو مُمتنّ لأنه يستطيع أن يرى أعماله في المعارض في مُختلف أنحاء نيويورك، بالرغم من أنّه غير قادر على السفر، إذ يُقال إنّ للعمر حقاً علينا.
يعتبرها هديّة، تماماً كعمليّة الخلق.
آه، نيويورك!
 
بما أنها سيرة وانفتحت، فإن الرسّام المصري الكبير والناقد الفنيّ الذي يُعرف عنه مزجه للرسم والنثر والشعر العربي، أحمد مرسي (92 عاماً – مواليد الإسكندريّة)، يعرف نيويورك جيّداً. درس جنونها، وشرّحَ نزواتها بسكون الانطوائيين. قفز فوق ضوضائها، وراقبها لأكثر من 40 عاماً، قبل أن تخلع عنها "الستّ" ثوب الغرور، وتلتفت إليه وإلى أعماله الكبيرة الحجم، والخارجة عن إطار العادي، فتستقبله تالياً في أهمّ فُسحاتها من دون أن تعترف بطريقة مُباشرة بأنها "قصّرت" معه. ولكنه لم يعتب عليها. اعتبر أن الهديّة الحقيقيّة هي الخلق.
منذ عام، تستمرّ اللقاءات الافتراضيّة بيني وبين ابنته الرائعة شيرين، التي تهتم حالياً بنشر أرشيفه الضخم وتُسلّط الضّوء على عوالم والدها الداخليّة التي أثمرت إبداعات في مُختلف الحقول الفنيّة. وبدوره، أرسل لي الفنّان الكبير رسالة أجاب فيها عن أسئلتي الفضوليّة بعض الشيء، لأفهم ماذا يُخفي خلف هذه الإطلالة الهادئة. فكيف يمضي الرجل، الذي يصف نفسه بالانطوائي، أيّامه؟ وما هي الصورة التي تطلّ عليه نيويورك من خلالها، هو الذي يعتبرها ملكه الخاص، وإن كانت "قصّرت معه" بعض الشيء؟
يُعاملها على أنها لوحة قماشيّة كبيرة تحوّلت، مع الأيام، ملاذه الآمن بمكتباتها المحليّة ومقاهيها ومتاحفها وأسواق السمك التي كان يزورها باستمرار بحثاً عن "رزقة اليوم"؛ وفيها كان يحلو له المشي بمفرده لساعات، من دون أن يشعر بالوحدة. وقد يعود ذلك إلى عوالمه الداخليّة التي كانت تُرافقه في مغامراته بطبقاتها المُتعدّدة.
 
كان يحلو له التحرّك بحريّة في أماكنها الخفيّة، التي تُضيء - بحسب ما يكتب لي - الظُلمةَ، الأحياء الصغيرة، قاعات الموسيقى التي اعتاد مُشاهدة الأعمال الأوبراليّة فيها. أعمال كان يستمع إليها أيّام الصّبا في الإسكندرية التي قد تكون من نسج خياله تماماً كنيويورك.
الإسكندرية، غادرها منذ 40 عاماً، ولكنّها تقطن أعماله بخرافاتها وأساطيرها. هي عروس الشّعر التي يحنّ إليها، ويبحث عنها حتى عندما يزورها. لن يصفها لي. يدعوني إلى التمعّن في لوحة من لوحاته أو قصيدة وأخرى. الإسكندرية الخاصّة بمرسي لا نجدها على الخرائط.
ذكريات مُتخيّلة؟
هي بكلّ تأكيد ذكريات يختبئ بين سطورها، وقد تكون الامتداد الطبيعي لواقعه الحالي "المُتخيّل" المؤلّف من أماكن وطقوس، ومُراقبة دقيقة للمدينة الشاهقة وكلّ مَن يقطن فيها، أو يمرّ عليها مرور الكرام.
وهذه المدينة الشاهقة هي بكلّ تأكيد نيويورك، التي تحوّلت إلى منزله الثاني بفضل طقوسه فيها، وقدرته على تحويل أماكنها الخفيّة، وكتاب حياته (حيواته؟) الداخليّة.
الشعر والرسم من الأدوات التي يحتاج إليها الانطوائي ليتمكّن من التواصل مع العالم الخارجي. وأحمد مرسي يعطي نفسه كاملةً لأداة واحدة تليها الأخرى.
كان يعمل خلال النهار. يحتسي الإسبريسو التي يعشقها، والتي ولدت قصته الشّغوفة معها خلال زيارته لبغداد، التي أهدته بداياته في النقد الفني. يستمع إلى الموسيقى، وينغمس في القراءة. يكتب الشعر والنقد الفنيّ العربيّ الذي اضطلع بدور محوريّ في تطويره، ويرسم لوحاته السورياليّة والكبيرة الحجم في منزله الأنيق في نيويورك.
 
تُنسب أعماله إلى مدرسة الإسكندرية التي تألّفت من مجموعة من الفنّانين الشباب، الذين تعاملت معهم الإسكندرية على أنهم نجوم السّاعة في أربعينيّات القرن الماضي. وبطبيعة الحال، كانوا نجوم السورّياليّة التي حملها معه أحمد مرسي إلى المدينة التي يعرفها جيداً، ولم يعتب عليها لأنها "قصّرت" معه قليلاً. انهمك في نسج قصصه الصغيرة معها. إلى جانبه زوجته أماني، التي يعيش معها قصّة حبّ لم تتمكّن الأيّام من أن تسلبها جنون البدايات. وها هي ابنته شيرين تُترجم حبّها الشرس لوالدها الانطوائي من خلال نشر أعماله في مختلف المجالات الفنيّة، ليعرف العالم بأن في شوارع نيويورك كان ثمّة حالم تمكّن من التأقلم مع الواقع من خلال إعادة رسمه، وهو يسير بهدوء مُراقباً مُحيطه، ومُشرّحاً جنون المدينة، ويجلس في المقاهي ليُفرّغ القصائد التي كانت تولد في عقله في المرحلة الأولى بلا مجهود، ويرسم في محترفه القائم في منزله النيويوركي التقليديّ الطويل الضيّق.
واليوم، لأن للعمر حقّه علينا يمضي هذا الفنّان الكبير أيامه مع "أماني". الكثير من الموسيقى والكثير من القراءة.
والقليل من الذكريات المُتخيّلة؟
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium