النهار

"بعلبك" و"العودة من لندن" لإيتل عدنان... نقلهما إلى العربية الشاعر عيسى مخلوف
المصدر: "النهار"
"بعلبك" و"العودة من لندن" لإيتل عدنان... نقلهما إلى العربية الشاعر عيسى مخلوف
إيتل عدنان فوق جبل العالم، توليف للرسام منصور الهبر.
A+   A-
من أورفيوس إلى ماياكوفسكي
أدارت الشمس حولَ رأسي
قُرصَها الذَّهَبيّ
المُنير
هي الإلهة الأولى
التي زارتني
الإلهة الأخيرة
يقينًا
من أجلها ارتفعَت
هياكلُ الحجارة

بين المسلاّت
والأعمدة الأعلى
أدركتُ منذ الطفولة
أنّ مملكتي ستكون
من تلك الحجارة
وليلها.

2

من حَلقي بدأَ الجفافُ
ولن أُغَنّي
مَعبدًا
وُجِدَ فعلًا

صلبةٌ هي أدراجُ المعبد

رقصت الآلهةُ
حتّى لا تغادره
وقرّرت أن تموت...
تاركةً وراءها
شمساً أحببناها
رغم وحشيّتها.

في عَتَمَة الدّماغِ
المُغلَقَة
يَنمو الزَّرْعُ
وتَسبحُ الأسماكُ
فيما نظنّ أنّنا نُعاينُ
الطبيعةََ
ونشاهدُ البحر.

لن نعرف ما إذا كانت الحياةُ
قابلةً للارتداد
ثمّة في الألم فرَحٌ أكثر إيلامًا
كما بصمات
الذاكرة
في تَصحُّرِ
القلوبِ.

3

المطرُ، هنا،
ليس وليد الماء
والملائكة.
استيقظنا
قبل أن تحرقَ الشمسُ
رؤوسَنا
من الغَيرة...

يكشفُ السهلُ لونًا دمويًّا
بينما السماء مقفلة

وحدها العُشبَة الفتيّة
التي تريد
الآن
أن تشقَّ هذا الحائط
تحتفظ
بارتعاشات أورفيوس
وبمرآة النَّفْس.

4

لطَمتُ
بيدَين عاريتَين
قوى متحرّكة
بلغتُ الظلالَ
وقد هربَت المادّة

نعيشُ
داخل شيء
يشبه
أمواجًا
وريحًا

أعيادُنا متلألئة
وإن كانت مُسَربَلَة بالسّواد.

تركنا
كالآلهةِ
أرضًا
أكثر ثقلًا
من عناقيد عنَب
في عزّ الصيف

كأنّنا نُطبِقُ
أجفانَ الموتى.

5

مجرى الماء الذي يسيل
تحت الهيكل
هو خيط أريان
يقودني نحو
المينوتور
قبل التيه في مزارع
القُطْن

في المتاهة الخالية
من المراوح
ثمّة كُتلة حيّة
تبكي
في النهار والليل

الإلهة تركَت
تلك المتاهة التي تُرعِبُ
الجُزُرَ
وسكّانها

شاخ الإله الذي
أحملُ اليه الزيتونَ
والنبيذ

وحدنا،
الريحُ وأنا،
نعرف الطريق.

هذا الذي يربط
الجزيرة العربية
باليونان،
وأفكارَنا
بهذا المكان.

6

الهواءُ، هنا،
جافّ
يهربُ الحيُّ
على شكل أحصنة جامحة
تعدو، هناك،
بين لبنان وسلسلة جبال لبنان الشرقيّة

يتمتّع العالمُ بذكاء
تامّ.

نحن أسياد الأعمدة المنتصبة
أينما وُجدَت
طالما أنّنا وَحْدنا
من يفكّر فيها.

المتوسّط يمتدّ
من الجهة الأخرى
للجبل

يعاني المتوسّط من السفن
التي تَعبر جسدَه
لكنّه -
مثلنا -
لم يبارح
بعد قرطاج، أفلاطون
والمتنبّي...


ماذا تفعل الذاكرة
بين الحجارة التي
لا تفتأ تعود
الذاكرة الأكثر قِدَمًا
من التكوين

أورفيوس
يتنزّه في ساحة
القرية

الريحُ
في براءتها
تُسَرّعُ
شموسَ المغيب،
تنضمّ الى أنفاسنا
تأخذنا إلى أمكنة
يلتقي فيها
ماءُ التاريخُ والعدم.

7

أسد على الجدار
منحوت
حبّي الأوّل
حيوان من حجارة وبرد

أما الثاني
فأخذني
إلى غور الجسد السحيق

في الشرق كانت الحجارة
والحبّ في مكان آخر

انتبهوا إلى الماضي
سُمّ حقولنا الجافّة

انتبهوا إلى هذه الأعمدة
إنّها أشجارٌ بلا ربيع
ولا شتاء
أمام قدَرِها
تتآكلُها الهموم

الحجارة تتحاور ثانيةً فيما بينها
لِنُقِرَّ بأنّ المادّة
تتجاوزنا

الأشياء أطفالُ ظلالِها
أولئك الذين تقافزوا كالسعادين
في الأدغال الجهنّمية

أطلِقوا القمم
قاتلة هي جروح الذاكرة
ادخلوا متاهة ذواتكم.

***

العودة من لندن


ألمحُ بصورة عابرة
صَدعًا
في نَسْجِ النهار.
*
يتضاءلُ عددُ البحّارة
والبحرُ ينتظرُ
نهايةَ الحَيّ.
*
عَمّا قليل، أستقلُّ القطارَ
ثمّ أدخلُ في الجدارِ
مكسوًّا بالكَرْمَةِ الحمراء.
*
وهناك ترقدُ
الصبايا بعيونهنّ
المفتوحة.
*
ضعوا تيجانًا
من الذهَب فوق الرؤوس.
الجحيمُ ليس صاحبَ النارِ
الأوحد.
*
نسمّي التاريخَ تلك الآبار
المليئة بالنشوة.
هذه الشجرة مقيَّدة
بظلّها.
*
اللعنةُ ضوضاء،
فراق، نظرةٌ
تلتئم.
*
يفتقد هذا الصيفُ النداوةَ.
لا خبز
والرخاء يحوط
بالخبز، المكّوك الفضائيّ
يعاني من ثَقبٍ في بطنه.
*
هَذَى الفكرُ منذ اللحظةِ
الأولى. قلتُ لكم: اذهبوا
إلى الجبل.
من هناك لا نرى شيئًا على الإطلاق.
*
استولت الحمّى على الوقت.
النور يُدهَش من لمعانه.
هنا يبدأ السؤال الأخير:
ماذا فعلتُ بطفولتي؟
*
مصدرُ الانتباه
سحابةٌ دقيقة. أيّام المطر
نستحيلُ نباتات.
*
لا تفقدوا الحاجة إلى الانوجاد،
الحاجة السابقة للولادة. يولد التاريخُ
في الأماكن غير المادّيّة،
كالقدَر.
*
الحبّ هدمٌ
للموت. يرتبط بقاؤنا
بقدرة الواقع على الإفلات
من اقتحام اللغة.
*
ثمّة حبّ يكبر مثل السرطان، نتعلّق به
كما الجسد بالمرض،
كما القمر بالشمس.
*
فضّلنا الغياب،
الألم والصمت، على الحاجة الهائلة
إلى رؤيتك. وهذا ما سنظلّ نسدّده
حتى آخر الأبديّة.
*
أرغب في التفكير مثل
عوّامةٍ قذفتها الأعماقُ
على السطحِ المنير والبائدِ
للبحر.
*
ليعلم الجميعُ أنّ اليونان هي نفسها
مسرح. هنا اعتلى الفكرُ المسرحَ
وبَهَرنا بشفافيته.
*
إلى هنالك ذهبنا
في غفلة من السلطات، في فتوّة
ضائعة، ومعنا معالم غير مقروءة
وأيادٍ خاوية.
*
ثمّ تأتي العاصفة. السفن المبلَّلة
فوق البحر الرطب تتبادلُ
المعارف. أمّا نحن
فنتمسّك بهشاشةِ غرفنا،
بكلماتِ الأب العَفِنَة.
*
ثمّ نتظاهر بأنّنا نعيش،
بعد ساعات كثيرة
وأكداس من التعب والرحيل.
*
والصبية ينتظرون عند
الشواطئ تكرارَ الشمس.
يريدون الرحيل، ليموتوا
في أمكنة أخرى
مثل حيواناتِ الغابات.
*
العائلة هي الأمّ. تعرف
أنّها أصل. تمنح الموتَ
المقبل. تحتفظ بها الحياةُ.
تنتفخُ بالظاهِر.
*
لا تحطّموا قلوبَ الفتيات.
تأخذون قطار المنفى.
يصير الخبزُ قاسياً على أسنانكم.
*
أمّا أنا فلقد انتظرتُ أن أكبرَ وفجأةً
انفجرَ الحبُّ وسط البِلاط: أصابتني
شظايا قاتلة. وتوارى ذلك الشخص.
*
الجنس يخترقنا
بعموديّته المنحدِرة.
يؤجِّل شبَعَه.
*
لأنّ ثمّة أسرَّة في المستشفيات
تحتفظ بزبائنها،
سدود تقلق ماءهم.
حاسبوا القدَر.
*
نقفل كتابًا
كما يقفل المرء حياته على نفسه.
*
أسقطتُ الدّمية المتحرّكة وقد ابيضّت
من الكلس على الطاولة.
أجريتُ عليها عمليةَ
تحويلٍ لموتي.
*
تتحرّكُ حدَقَتُه على إيقاعِ
دقّاتِ قلبه:
شوستاكوفيتش هو المعنيّ.
*
نرى الأشخاصَ في أحلامنا عائدين،
حاملين إلينا الحقيقة،
تلك التي رفضت عيونُنا رؤيتَها
ومن أجلها أحرَقونا
فيما كانوا يحرقون أنفسهم.




الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium